Share |

الأصابع…شعر احمد حسيني…عن الكردية: محمد نور الحسيني

 احمد حسيني-- محمد نور الحسيني
احمد حسيني-- محمد نور الحسيني

 

1

مطفأة!!.

في دخان دون نار، ترتعشُ الأصابع. في ضحكٍ خافتٍ لا نكهةَ له.. تستفسرُ عن أحوال بعضها دون هوادة، الدأب الحيويُّ يجسّد معنى الدهر، تُحاط الروحُ وتُحاصَرُ من كلِّ الجهات…

بفحوى الأحلام ينسجُ الوجود.. خائرَ القوى كان يتسلق جدران الصمت..

وبإزاء هذا الطوفان الأعمى اللاأخلاقي.. إزاء هذه العاصفةِ البليدة والمجنونة.

من يقدر على التساهل مع هذه اللعنات العنيدة، من يقدر على مهادنة هذه اللعنات المتقيّحة!؟.

الأصابعُ المحناةُ بحسراتِ التاريخ كانت ترتعش.

الأصابعُ التي لم تعد قادرة على كفكفة الدموع الفيروزية.

– العشاقُ.. بالدموع.. بالنحيب يتخففون من آلامهم ويفرّجون عن كُرَبهم.

إذا كانت دموعُ القلب وحسرات الكبد ـ أقصدُ أنهارَخدودها ـ ستجفّ،

إذا كان الشوكة المفجعة والحربة الصدئة ستقتلعان من بؤبؤي

عينيها..

عندئذٍ من الممكن أن تحيا الأصابع..

حينئذٍ ينبغي أن تحيا الأصابع..

وقتئذٍ ينبغي أن تنبض الأصابع..

2

عشر أصابع تأتي لزيارة عقله، تعتصر الدماغَ الذابلَ بألف وسيلة: كيف سيعتاد عدّ الأصابع!؟.

في عتمة حالكة يتمدد، دون حدودٍ ولا زوايا،

ودون ظلالٍ ولا نجوم، ظلمةٌ خالية قفراءُ فحسب.. حيث يُطحن في مطحنة الحب.

يستند إلى أغصان كتفيها. إلى عسل شفتيها،

إلى بخار برد صدرها..، يستوحي ألفباءه من لون عينيها، يلفُّ قامته بشجرةِ عباد الشمس، وكله أذنٌ صاغيةٌ إليها:

إصبعان شارة النصر.. أو صليب ذهبي.

بثلاث أصابع أو أربع من الممكن أن ينهار بطن الحبيبة من الدغدغة.

و.. بإصبع، بمسلة، برأسِ قلم. تُبادُ مدينةٌ من الثلج والحمامات الجميلة.. مدينةٌ حالمة.. تُدفن تحت ستارة من السمِّ الزعاف..

بإصبع يُقتل إنسانٌ ـ كائناً من كان ـ..

 تُفقأ عينٌ ـ كائناً ما كان لونها ـ..

 ويظل سؤال يُطرَح ـ على كائن من كان ـ..

 ويبقى عاشقٌ مجنونٌ قادراً وبإصبع واحدة أن يدلّ أبناء مدينة صغاراً وكباراً.. أن يدلّهم على فاتنته، ويستطيع أن يجعل اسم بلاده يبرق بحبر دموي على الأبواب السميكة.

3

لازالت مطفأةً!

 

إنه طنينُ لسانه.. آذانها مخدةُ أصابعه.. محترفو الحروب الذين يوجِّهون كلَّ آنٍ بنادقَهم ويسددونها إلى صدر الفجر، الذين يزرعون بيوضَ الوعيدِ والحقدِ في أعشاش الحجل وطيور مالك الحزين. أولئك الذين يبكّون سنابل الشباب معظم النهار، ـ يُعْرفون بأصابعهم الغليظة.

و… الأشخاصُ البنفسجيون والعنابيون، الذين يرفعون الأزاهير والورود باقةً فباقة إلى منخار الحياة،

الذين يبنون قلاع الحب من رذاذ المطر والربيع، الذين يتلاشون في غليان الدروب البعيدة،

الذين في نبض قلوبهم..

 في مياه عيونهم المالحة يخبئون الشموسَ النضرة.. الملوّنة،

 ـ إنهم أيضاً يُعْرفون بأصابعهم الكبيرة ـ ليس ثمة إصبعان كبيرتان متشابهتان قطّ.

4

شيئا فشيئاً. الزمن، العالم، يفران من بين شقوق أصابعه

و.. فجأة يتزحلق على خنجر عقله، فيصحو..

من خلق هذا الفيضان المسعور.. هذا الفيضان النذل!؟.

في ذلك المضيق الرقيق المتطامن. في تلك التجربة المُمِضَّة والطويلة.

حيث غبار الطفولة يمسِّد تجاعيدَ دماغه ويغطي شغافَ قلبه..

“ذو الأصابع الستة”، يهرع إلى فراش الحنين:

يا.. ياذا الأصابع الستة..

كنتَ وصياً وآمراً مغموراً.. وحدهم الكادحون والبائسون والمتسولون كانوا يناجونك:

أنت فَطِنُ هذا الزمانِ الداعرِ..

إيه تقدّمْ..!

كم من قطاراتِ بضائع محملةٍ بالقمح وبالشعير وبالقطن مرّت على فقرات ظهرك؟.

كم أنهار من العرق ومن الآهات، سالت من منخل جسدك!!؟.

وكم من الظالمين غسلوا بها كاسات خمورهم!؟.

أصحيح يا ذا “الأصابع الستة”!؟

أنّ أناسَ هذا البلد يتهامسون فيما بينهم

عن أن سرَّ صمودك وجبروتك كامنٌ في الإصبع السادسة!؟

صغيراً كان يطوف الشوارع شارعاً فشارعاً، والأسواق سوقا فسوقاً،

منقّباً عن ذي الأصابع الستة؛

متكبّداً عناءَ البحث حتى الإعياء.. أحياناً كانا يتصادفان.. فيحدّق مليّاً في كفيّ،

(ذي الأصابع الستة) لكن ذلك لم يكُ يشفي غليله،

عيناه كانتا تتعقبان الإصبع السادسة، عيناه كانتا تهرولان.. تصحبانه.. وتنأيان قصياً.. وتنأيان..

5

مطفأة!!

 

يُطرِق برأسه، تتقطّر رؤوس الأصابع ذكرياتٍ. الجرس كائن في الدم. قد استظهر أصواتَ الدلف.

ـ الأمُ التي يفور عبقُها من شجر الرّمان…

خزانةُ العروس، المليئة بالملبن والزبيب.

– دولابُ البئر القديمة، المياهُ العكرة.. النهلةُ الأولى.

الدجاجةُ التي كان يمعن في اللحاق بها، البيضة التي سرعان ماكانت تصلُ إلى أصابع الانتظار..

وأخيراً الوطنُ الذي تسلل منه خفيةً..

والحبيبةُ التي لم يرتوِ قطُّ من قبلاتها.

6

تهتز صفحاتُ العيون أمام رياح الأصابع.

ـ أنكيدو! لماذا لم تبرأ أصابعك من أوجاع الحياة؟.

ـ سقراط! لماذا روت أصابعُك غليلَها بالسم..!؟.

ـ زردشت! إذا كانت سماوات “بلخ” لم تُحرثْ لحد الآن بالغربان والحدءات، إذا كان القلب خالياً من

الأعياد والرقص، إذا كانت شفتاها.. إذا كانت حلمتاها لم تمسدهما الأصابع المطفأة؟؟.

طبعاً العين ستحدّق مباشرة في العين والقلب سيناجي القلب.. الأصابع بدورها تحدّق مباشرة في النار..

حينئذٍ ستطلع الحركةُ وتبزغ التواريخُ من الأظافر..

7

ما بين عينيه ودهشتها، كان أفقٌ ما ينجدلُ بالرماد، في تلك اللحظة العكرة كان العالم يبين باختصار. جنبات ذلك العالم كانت تلوّح بالوداعات المنكسرة.. صوته الخَفِر الأملس كان يتوه بين شجارات أدمعها. أحاديثه غير المنكّهة كانت تتقافز من الأنامل..

في الأفق الجديد، في محراب الحبِّ كانت تصلي وتتآنس بالعبرات:

من الواجب أن يحمي عشقه من الريح السوداء.. من مخالب القرن العشرين.

ثق تماماً.. إنني بهذه اليدِ.. بهذه الأصابعِ الأربعة.. سوف أبني الحياة.. ولن.. لن أستسلم أمام قشعريرة الانطفاء أبداً…. قثائيات الخوف في القلب, وفي لسانها كانت تصطدم نجومٌ جريحةٌ، وفي شفتيها ثمة همساتٌ كانت تدوِّنُ:

ـ سواء أكانت أصابعَ أربعةً أو كانت أفعواناتٍ عمياء، فإنها لن تسبب مشكلة ولن تكون معيقاً في وجه حبنا..

إلا أن ظِفراً واحداً قادر على أن يترك القلب في استكانة دائمة..

8

شيئا فشيئاً، كانت الأصابع تمتص الضياء… الأظافر ازدادت نضارةًً. الحمّى استسلمت. حاول هو الهرب.. إلا أن شِباك قلبِها كانت تلمّه على بعضه.

يمدّ الأصابع.

ثآليلُ الحرية، في حدود الأصابع الأربعة تتوزّع في عشوائية، ودونما غاية ولا هدف، يقاوم، يتعثر، يسقط، يتدحرج، ينهض، ومع قيامته؛ يقيس قامةَ الألم. على شجيراتِ القصبِ الحدودية ينشر آهته التي لا نظير لها.. مقتفياً أثر الخيال وممتطياً متن الأحلام..

لقد ذهبَ، ذهبَ بعيداً ونأى….

عن الرحم الذي حضنه كان يتقرّى، عن آثار الطفولة كان يبحث.. وحين اقترب من شجيرة الرمان، أسند رأسه إلى رائحة أمه لكن نداء (المُلا) أنهضه من رقدته، ناعياً:

يا أهل الخير!! يا أهل البلد!! ـ ذو الأصابع الستة ـşeş tilî  .. مات!.   

أعطاكم عمره. جثمانه مسجىً في الجامع الكبير في انتظار دعواتكم وصلاتكم على روحه، ولن يضيّع الله لكم أجراً وسيثيبكم أحسن الثواب. 

سرعان ما اهتدت العبرات إلى مساربها في كبده..

سرعان ما أدرك أنه نسي أصابعه بين أمواج شعرها وإلى الأبد..

 

***