Share |

الأكراد في البلاد المصرية…(الجزء الأول)… د.محمد علي الصويركي…لندن/بريطانيا

تمهيد:

      تعد مصر من أكثر البلدان العربية التي لها علاقات وثيقة بالأكراد، إذ كانت هناك علاقات قديمة بين الميتانيين الأكراد والملوك الفراعنة منذ القرن الرابع عشر قبل الميلاد، حيث برزت من خلال زواج بعض الأميرات الميتانيات من الملوك المصريين أمثال الملكة الجميلة (نفرتيتي) التي حكمت عرش مصر، ورغم قلة المصادر التي توضح لنا صور وأشكال تلك العلاقات التي كانت قائمة بينهما في ذلك الوقت.

      لكننا نستطيع رصدها بشكل واضح بعد الفتح الإسلامي لكردستان ودخول الأكراد كمكون جديد للأمة الإسلامية، ودورهم الكبير في صنع الحضارة الإسلامية الزاهية، فأخذ الأكراد ينزلون مصر على هيئة رجال حكم وإدارة وقادة عسكريين وجنوداً وتجاراً وطلبة علم خلال الحقبة الإسلامية الطويلة الممتدة عبر خمسة عشر قرنا من الزمان، ومنهم من استقر بمصر واتخذها دار سكن وإقامة، ومع الزمن اندمجوا مع السكان الأصليين، وانقطعت جذورهم مع موطنهم الأول، ولم يبق لهم من تلك الصلة سوى الاسم، أو بعض الملامح الجسمية، ومن  صلب هؤلاء الذين استقروا في الديار المصرية برز منهم العديد من القادة العسكريين ورجال الإدارة والأدباء والشعراء والفقهاء والفنانين، وأسدوا خدمات كبرى  لوطنهم مصر، ومع ذلك لم ينكروا كرديتهم.

      شكل الأكراد في مصر دولة عظيمة، وهي (الدولة الأيوبية) التي أسسها البطل الخالد صلاح الدين الأيوبي، وأسهمت في رد الغزو الصليبي عن المنطقة، والمساهمة في إرساء نهضة اقتصادية وعمرانية وزراعية وثقافية في الشرق الأوسط يشهد لها التاريخ، مع فضلة في إعادة نشر المذهب السني في مصر وبلاد الشام بعد قضاءه على الفاطميين.

      كما أسس محمد علي باشا الكبير – أصله من أكراد ديار بكر – في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، دولة حديثة في مصر، ويعتبر بحق مؤسس مصر الحديثة، وصانع نهضتها العلمية والزراعية والعسكرية والصناعية.

      كما نبغ في مصر طوال القرن العشرين قامات الكردية كانت من رواد حركة الإصلاح والتحرر والفكر والأدب والفن في مصر والعالم العربي معا، من أمثال: الإمام المصلح محمد عبده، ومحرر المرأة قاسم أمين، والأديب عباس محمود العقاد، وأمير الشعراء احمد شوقي، والشاعرة عائشة التيمورية، والقاص محمود تيمور، والشيخ عبد الباسط محمد عبد الصمد، والباحث حسن ظاظا، والفنانة سعاد حسني، والمخرج السينمائي احمد بدرخان وابنه علي.. أضف الى أسماء أخرى ساهمت في صنع نهضة مصر الحديثة.

      أن أقدم علاقة تاريخية سجلت بين الأكراد والفراعنة المصريين ترجع إلى أيام الميتانيين (الحوريون) – أجداد أكراد - الذين شكلوا مملكة ميتاني في القرن السادس عشر سنة 1500ق.م، وكانت عاصمتهم ( واشوكاني) على نهر الخابور، وامتد نفوذها على جميع مناطق كردستان، وعرفهم المصريون باسم (نهارين)، وشكلوا طبقة أرستقراطية كانت مسئولة عن إدخال الحصان والعربة إلى المنطقة. وزالت هذه المملكة في عهد الملك الآشوري (آشور ناصر بال) سنة 1335ق.م.

  

     تعرضت مملك الميتانيين للغزو المصري بزعامة تحتمس الأول، لكن الميتانيين  استطاعوا التخلص من التبعية المصرية باتفاقهم مع الحثيين في أواخر القرن الثالث عشر قبل الميلاد وأصبحوا يملكون قرارهم بنفسهم وأحراراً من السيطرة المصرية، لكن في المقابل كانت هناك علاقات وطيدة بين الطرفين ترسخت في عهد الملك الميتاني ( توشرتا) نحو 1390ق. م، وقد وصفته الوثائق المصرية بالصديق الموالي لمصر، وكانت بينه وبين ملوك مصر رابطة مصاهرة ونسب، وله مراسلات مطولة مع أمنحوتب الثالث ( توفي 1375ق. م). وأمنحوتب الرابع ( توفي 1358ق.م). ووجدت بعض من هذه الرسائل المتبادلة بينهما في (تل العمارنة) مكتوبة باللغة الميتانية في نحو ستمائة سطر. وكانت إحدى شقيقات (توشرتا) الميتاني من بين زوجات أمنحوتب الثالث، كما أن إحدى بناته المدعوة ( نفرتيتي) كانت زوجة لأمنحوتب الثالث، ومن بعده أمنحوتب الرابع.

     في إحدى رسائل الملك الميتاني الشهير( توشرتا) التي كتبها لزوج أخته الفرعون المصري أمنحوتب الثالث ( توفي 1375 ق.م)، يخاطبه بهذه الكلمات:

إلى ميمّوريا الملك العظيم، ملك مصر، أخي،

صهري الذي يحبني والذي أحبه،

هكذا يقول توشراتا الملك العظيم ، حموك،

الذي يحبك، ملك ميتاني، أخوك:

أنني في حالة حسنة، عسى أن تكون في حالة حسنة!

وبيتك، وشقيقتي وسائر نسائك وأولادك،

ومركباتك وخيولك وجيشك،

وبلادك وجميع ممتلكاتك.

ليكثر السلام عليك!(1)

      كما تأثر المصريون القدماء بالديانة الحورية الميتانية في عهد ملكهم (أمنحوتب الرابع) ما بين عام (1371 – 1358 ق.م )، ومشاركة العديد من الأميرات الميتانيات مع أزواجهن في حكم مصر أمثال الملكة المشهورة ( نفرتيتي).

نفرتيتي الميتانية على عرش مصر

      نفرتيتي الملكة الميتانية الجميلة التي حكمت مصر سنة (1369 ق.م) هي زوجة الملك أمنحوتب الرابع الشهير بأخناتون (1369-1353 ق.م) عاشر فراعنة مصر من الأسرة الثالثة عشر، وأول من أعلن ديانة التوحيد بطريقة رسمية، ونادى بوحدانية الله الواحد الأحد، وكان يراه في قرص الشمس، فحطم الأصنام، وأعلن زهده.

 

     واسم ( نفرتيتي) يعني (الجميلة المقبلة)، وقد كانت شريكة زوجها في إعلان التوحيد، وعاشت معه حياة وردية رقيقة، أنجبت له ست بنات، وشاء القدر أن يحرمها من إنجاب ذكر يرث العرش، وقد شاركت زوجها في الحكم الذي وصفها بقوله:" مليحة المحيا، بهيجة بتاجها ذي الريشتين، تلك التي إذا ما أصغى إليها الإنسان طرب، سيدة الرشاقة، ذات الحب العظيم، تلك التي يسّر رب الأرضين صنعها". كما وصفها في مناسبات أخرى فقال:" الجديرة بالمرح، ذات الحسن، حلوة الحب، جميلة الوجه، زائدة الجمال التي يحبها الملك، سيدة السعادة، سيدة جميع النساء". لذلك تميزت بجمالها وجاذبيتها، وشخصيتها القوية على زوجها وانعكاساتها على عصرها.

     تولت عرش مصر لفترة محدودة، ومنحت ألقاباً عديدة منها "الزوجة الملكة العظمى"، و سيدة مصر العليا والسفلى، سيدة الأرضين". ثم وقعت في محنة الردة التي شقيت بنتائجها بعد وفاة زوجها، انتهت حياتها بمأساة، لها تماثيل نصفية خلدت جمالها الرائع موجودة اليوم في متحفي برلين والقاهرة (2).    

العهد الإسلامي:

      أما في العهود الإسلامية المديدة فقد ذهب الكثير من رجالات الأكراد إلى مصر بصفة قادة عسكريين وجنودا، وطلبة علم لتلقي المعرفة من الجامع الأزهر، ومن أبرز الشخصيات الكردية التي ظهرت في مصر خلال العهد الفاطمي (احمد بن الضحاك) أحد الأمراء الأكراد الذي تولى في عهد الخليفة الفاطمي (القادر بالله) مناصب هامة في الجيش المصري، واتفق أن جردت حكومة روما الشرقية جيشاً على قلعة (آفاميا) بالقرب من نهر العاصي في سوريا تحت قياد القادة دوقس (داميانوس ــ دهلاسينوس)، واحتدمت المعارك بين الجيشين الرومي والمصري الذي كان تحت قيادة (جيش بن محمد بن الصمصامة)، وأسفرت عن اندحار الجيش المصري الذي لم يبقى منه سوى خمسمائة خيال، في حين كان قائد الجيش الرومي المنتصر يتمتع بنشوة الظفر من فوق ربوة عالية.

     لم يتمالك القائد الكردي (احمد بن ضحاك) من الاندفاع نحو القائدة الرومي فهجم عليه بمفرده، وأراده قتيلاً. وصاح عندئذ بصوت جهوري قائلا: "أن عدو الله قد قضى نحبه". فأثر ذلك على معنوية الجيش المصري المدحور، وعاد إلى ميدان النضال، فهزم الجيش الرومي،فكتب النصر بذلك للجيش الفاطمي (3).

       وبرز أيضاً في ذلك العهد (الملك العادل أبو الحسن سيف الدين علي بن سالار)، وزير الظافر العبيدي صاحب مصر. وكان كرديا من عشيرة ( زرزائي) الساكنة في إيران، وقد تربى في القصر بالقاهرة، وتقلبت به الأحوال في الولايات بالصعيد، فعين والياً على الإسكندرية، وتولى الوزارة للظافر في القاهرة في سنة (543 هـ)، ونعت بالعادل أمير الجيوش. واستمر في الوزارة إلى أن قتل بيد حفيد امرأته أم عباس (نصر بن عباس) في سنة (548 هـ/ 1152م). بعد أن كان شهما مقداما ذا سطوة مع صحبته لأصحاب العلم والإصلاح.  عمر بالقاهرة المساجد، وبنى مدرسة للشافعية في الإسكندرية (4).

الأكراد يؤسسون الدولة الأيوبية في مصر:

 

البطل الخالد صلاح الدين الأيوبي

 

     من أرض مصر استطاع البطل الكردي صلاح الدين الأيوبي ( 1137-1193م) من تأسيس دولته العظيمة التي استمرت أكثر من مائة عام، ومن القاهرة انطلق إلى الشرق لتوحيد بلاد الشام، ومنها قاد الجيوش الإسلامية لمقارعة الصليبيين، ودك معاقلهم، واستطاع هزيمتهم عقب معركة حطين الشهيرة 1187م، التي مهدت السبيل لاسترجاع القدس، وتحرير المنطقة من الغزو الصليبي.

      يعد الملك المنصور أسد الدين شيركوه أول من وليّ مصر من الأكراد الأيوبيين. وهو أخو نجم الدين أيوب، وعمّ السلطان صلاح الدين. وكان من كبار القواد في جيش نور الدين زنكي التركماني في دمشق، وقد أرسله على رأس جيش إلى مصر (سنة 558هـ) لنجدة شاور بن مجير السعدي الوزير الفاطمي في مصر، واشتبك مع جيش ضرغام في (بلبيس) وانتصر عليه، وحاصره في القاهرة، ومن ثم وقعت الفسطاط في يده، واستلم القاهرة، وقتل ضرغام. وبعد ذلك نبذ شاور صداقة شيركوه ومنعه من دخول القاهرة. وعلى اثر ذلك أرسل شيركوه الأمير صلاح الدين لاحتلال بلبيس والشرقية، فلما علم شاور بالأمر استعان بملك القدس الإفرنجي وطلب مساعدته. وأرسل له جيشا قوياً ووجهه إلى بلبيس، ودافع شيركوه عن بلبيس ثلاثة أشهر دفاع الإبطال، وانتهى الأمر باتفاق ملك القدس مع شيركوه وأخلى الاثنان مصر سنة 558هـ .

     رجع شيركوه مع جيشه إلى الشام. ولكن جيش ملك القدس خلافا للمعاهدة وبدسيسة من شاور بقي في مصر، وعلى أثر ذلك قرر السلطان نور الدين زنكي مع شيركوه احتلال مصر. وبعد ثلاث سنوات من الحملة الأولى قام شيركوه على جيش يربو على ألفين محارب وتوجه إلى مصر بقصد احتلالها سنة 562هـ، وبعد متاعب كثيرة وصل إلى الجيزة وتقابل مع جيش القدس الإفرنجي على الضفة اليسرى لنهر النيل، وعلى حين غرة هجم جيش القدس ولولا قيادة وحزم شيركوه لانتصروا عليه، ولكنه لم يقبل بالمصادمة فتوجه إلى الصعيد واشتبك في الحرب معه بالقرب من البابين وانتصر، واحتل الإسكندرية، ونصب الأمير صلاح الدين قائدا عليها، وترك نصف جيشه هناك، واخذ الباقي وتوجه إلى الصعيد. أما ملك القدس فقد انسحب بعد خذلانه إلى القاهرة، واخذ معه جيش مصر، وحاصر الإسكندرية وعلاوة على ذلك أرسل أسطوله لمحاصرة القلعة بحرا. فدافع الأمير صلاح الدين مقابل تلك القوة البحرية والبرية سبعين يوما دفاعا لا نظير له.

     أما شيركوه فانه تقدم بالقسم الباقي من جيشه وحاصر مصر. فإدارة شيركوه الحازمة وبطولة الأمير صلاح الدين ادخل الذعر إلى قلوب الأعداء، واضطرهم إلى طلب الصلح، فلم يقبل شيركوه الصلح إلا على شرط إخلاء مصر من قبل الطرفين.

    وفي الواقع أخليت مصر، ورجع شيركوه إلى الشام، ولكن بعد فترة قصيرة أرسل ملك القدس جيشا إلى بلبيس بقصد الاستيلاء على مصر، وقام بأفظع الأعمال فيها، مما اجبر الحكومة الفاطمية نفسها أن ترسل هيئة من قبلها حاملة كتاباً وفي طيه جدائل نساء القصر تستغيث بالسلطان نور الدين زنكي. فأرسل السلطان شيركوه للمرة الثالثة على رأس جيش كبير إلى مصر قدر بحوالي سبعين ألفا. فلما وصل خبر جيش الشام إلى ملك القدس خاف عواقب عمله وعاد إلى القدس في سنة 564هـ.

     وصل شيركوه إلى القاهرة، واستقبله أهلها استقبالا حارا ورحبوا به، وعلم بان شاور بن مجير يأتمر به لقتله هو ومن ومعه من كبار القواد. فتعاون مع صلاح الدين على قتل شاور وأرسل رأسه إلى الخليفة "العاضد" . الذي خلع عليه السلطنة، ولقبه بالملك المنصور أمير الجيوش، ولاه الوزارة سنة 564هـ. ولم يقم غير شهرين وخمسة أيام. فتوفي فجأة سنة 564هـ /1169م. ودفن بالقاهرة. ثم نقل مع أخوه نجم الدين أيوب إلى المدينة المنورة ودفنا هناك، وقلد العاضد منصبه إلى ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي(5).

      تولى صلاح الدين الوزارة وقيادة الجيش، ولقب بالملك الناصر، ثم أنهى حكم الفاطميين، وأصبح صاحب السلطة في مصر، واستقل بها.

    بعد وفاة نور الدين زنكي، شهدت الشام اضطرابات دعي صلاح الدين إلى ضبطها، فقام هناك بتهدئة الأوضاع، وتوحيد البلدان حولها، وبدأ إصلاحات فيها، وفي مصر بنى قلعتها الشهيرة ( قلعة الجبل)، والعديد من المدارس، والمستشفيات والمساجد والطرق، وحافظ على المذهب السني وأعاد نشره من جديد، وتتابعت إنجازاته حتى دانت له البلاد، وأصبحت دولته الأيوبية تمتد من النوبة في أقصى جنوب مصر، إلى بلاد الأرمن شمالاً، ومن الجزيرة والموصل شرقاً، إلى برقة غرباً، وحينها بدأ يكرس جهده لمواجهة حملات الفرنجة وغاراتهم.

     تمكن صلاح الدين من توحيد شتات المسلمين بعد تفرقهم في دويلات متناحرة هيأت للصليبيين السيطرة على أراضيهم/ ومنها بيت المقدس سنين طويلة، وكان رجل سياسة وحرب بعيد النظر، عرف بعطائه وإنفاقه في سبيل الله، حتى إنه لم يدخر لنفسه مالاً ولا عقاراً، وكان يهتم بإصلاح الشؤون العامة من عمران، ومجالس علم، وحلقات أدب.

 

   كما يسجل لصلاح الدين حماية المسيحيين الشرقيين وخصوصا أقباط مصر الذين أحبوه، ووضعوا صورته في كنائسهم وأديرتهم، فصورة صلاح الدين المنشورة في جميع أرجاء العالم اليوم منقولة من كتاب روسي مأخوذ من دير قديم بمصر.

     ويدل البيتان الآتيان لحكيم الزمان عبد المنعم الأندلسي الذي هبط مصر في عهد صلاح الدين ونظم قصائد في مدحه، على أن المسيحيين في ذلك العهد رسموه ووضعوا رسمه في الكنائس؟ يقول :

   فحطوا بأرجاء الكنائس صورة     لك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم

              يدين لها قس ويرقى بوصفهـا     ويكتبه يشفي به في التمائم

     وعن هذا الموضوع كتب احمد زكي باشا المصري مقالة في مجلة (رعمسيس) يقول فيها: " كان القبط يحبون هذا الملك العظيم صلاح الدين، الذي حماهم ورعاهم، وعرفوا في كل أيامه السعادة والهنا، وأي دليل على هذا اكبر من وضع صورته إلى جانب الأيقونة المقدسة". 

      كان صلاح الدين بطلا عربيا إسلاميا كرديا عالميا، ومن أهم الشخصيات في التاريخ الإسلامي، شهد له بذلك الشرق والغرب معاً، دخل الحروب وخرج منها مرفوع الرأس، مخالفا سير العظماء أمثال الاسكندر المقدوني، ونابليون وغيرهما، فالاسكندر انتصر في البداية لكنه اندحر في النهاية ومات قتيلا على يد عبيده، ونابليون دوخ العالم لكنه مات منفيا مسموما في إحدى الجزر النائية...

     نعم سيبقى العالم يذكر انتصاراته وإنجازاته السياسية والعمرانية على مر الأيام والسنون، وخير من رثاه يوم وفاته والدته التي خاطبته بقولها:" سأضع سيفك في كفنك، وسيعرفك الله، فأنت سيفه"(6).

     حكم مصر بعده الملك العادل الكبير سيف الإسلام أبو الفتح محمد أبو بكر بن نجم الدين أيوب بن شادي بن مروان (1145ـ 1218م)، وكان نائب السلطنة بمصر عن أخيه صلاح الدين أثناء غيابه في الشام، وتنقل في الولايات إلى أن استقل بملك الديار المصرية (سنة 596هـ) وضم إليها الديار الشامية، والأرمينية، وبلاد اليمن، حتى أصبح سلطان الدولة الأيوبية سنة 596هـ/1199م.

الملك الكامل يقابل فردريك الثاني

     ولما صفا له جو الملك قسم البلاد بين أولاده، وعاش أرغد العيش. ملكا ً عظيما ً حنكته التجارب، حسن السيرة محباً للعلماء.  توفي بقرية (عالقين) في حوران سنة 615هـ/1218م، وهو يجهز العساكر لقتال الإفرنج، دفن في مدرسته المعروفة إلى اليوم بالعادلية، وقد اتخذت أخيرا ً دارا للمجمع العلمي بدمشق. وفي أيامه زال أمر الإسماعيلية من ديار مصر، بعد أن قبض على كثير منهم، ولم يجسر أحد بعدها أن يتظاهر بمذهبهم(7).

      ومن سلاطين الأيوبيين في مصر الملك الكامل ناصر الدين أبو المعالي محمد ابن الملك العادل محمد أبي بكر ابن أيوب، كان عارف بالأدب، له شعر، وسمع الحديث ورواه. ولد بمصر سنة 576هـ/1180م، أعطاه أبوه الديار المصرية، فتولها مستقلا بعد وفاته سنة 615هـ، وحسنت سياسته فيها. واتجه إلى توسيع نظام حكمه، فكانت الخطبة باسمه، ودعا له بلقب " مالك مكة وعبيدها، واليمن وزبيدها، ومصر وصعيدها، والشام وصناديدها، والجزيرة ووليدها...الخ"، وله موقع مشهور في الجهاد بدمياط، إذ قاوم الحملة الإفرنجية الخامسة التي احتلتها، وأعادها سنة 630هـ، وعقد اتفاقية مع فردريك الثاني الإمبراطور الجرماني. وكان حازم عفيفا عن الدماء، مهيبا، كان فيه جبروت، ومن آثاره بمصر المدرسة" الكاملية ".

     كان ملكا جليلا مهابا، حازما حسن السيرة، يباشر أمور مملكته بنفسه، وانفق الأموال الكثيرة، وكان يحب أهل العلم ويجالسهم، ويؤثر العدل، وكانت الطرق آمنة في أيامه، مات بدمشق بعدشهرين من فتحها سنة 635هـ/ 1238م(8).

      ومن كبار الملوك الأيوبيين الذين حكموا مصر الملك الصالح نجم الدين أبو الفتوح أيوب بن السلطان الملك الكامل زوج شجرة الدر. فقد ولد ونشأ بالقاهرة 1206م. سلطنه أبوه على آمد وحران وسنجار وحصن كيفا. وملك دمشق، ثم ملك الديار المصرية ودانت له الممالك. وضبط الدولة بحزم، وأعاد وحدة الدولة الأيوبية من جديد سنة 1245م. واستعان بالأتراك الخوارزميين، فاستعاد القدس من الفرنين، وفي أواخر أيامه أغار الإفرنج على دمياط واحتلوها، وأصاب البلاد ضيق شديد، وكان الصالح غائباً في دمشق، فقدم ونزل أمام الإفرنج وهو مريض بالسلّ فمات بناحية المنصورة 1249م، ونقل إلى القاهرة.

    كان نجم الدين أيوب سياسيا بارعاً، وكان يطمح إلى إنشاء دولة كدولة صلاح الدين والكامل تتألف من مصر وفلسطين والشام وبلاد ما بين النهرين، وكانت قصوره في شبه جزيرة الروضة بالنيل، وفي الكبش، ومدرسته ذائعة الصيت في تلك الأيام(9).

     وهناك الملك المعظم توران شاه ابن الملك الصالح نجم الدين أيوب ابن الملك الكامل ثامن سلاطين الدولة الأيوبية بمصر وأخرهم، كانت إقامته في حصن كيفا (بديار بكر) نائباً عن أبيه. ولما توفي أبوه سنة 1249م كتمت ( شجرة الدر) خبر موته، فاستدعته، فسار إلىالقاهرة، والحرب ناشبة بين المصريين والفرنسيين على أبواب ( المنصورة)، فلبس خلعة السلطان بعد أربعة أشهر من وفاة أبيه، وقاتل الفرنجة، وهزمهم واسترد دمياط، ففرح الناس وتيمنوا بوجهه. ثم تنكر لشجرة الدر، فحرضت عليه المماليك البحرية فقتلوه في (فارسكور)1250م،  وبمقتله انقرضت دولة بني أيوب بمصر، وكانت مدتها 86 سنة (10) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

 (1) فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، بيروت دار الثقافة، 1951 ص162-163 محمد أمين زكي: خلاصة تاريخ أكراد:ص97،

 (2) جوليا سامسون: نفرتيتي، ترجمة مختار السويفي، القاهرة: الدار المصرية اللبنانية للنشر، 1992

(3) مشاهير أكراد:1/96-97،  كتاب تجارب الأمم: 3/228، خلاصة تاريخ أكراد:134

 (4) مشاهير أكراد:2/82

 (5) ابن خلكان 1/227، ابن خلدون 5/282، لبن الأثير 11/128، أعلام النبلاء، 4/258 ومنتخبات التواريخ وفيه:كان شيركوه من بلد دوين، قصد العراق هو وأخوه أيوب، وخدما بهروز شحنة السلجوقي ببغداد، ثم لحقا بخدمة عماد الدين زنكي، وبقي شيركوه مع نور الدين محمود، بعد موت أبيه زنكي، وأقطعه نور الدين حمص والرحمة، ولما رأى من شجاعته، وزاده عليها أن جعله مقدم عسكره.مفرج الكروب 1/148-168بعض أخباره، الاعلام4/183، مشاهير كرد:1/266-267 ، شذرات الذهب:4/211

(6) وفيات الأعيان:2/376، تاريخ الخميس: 2/378، تاريخ ابن خلدون:4/79، و5/250-330، الكامل:12/37، السلوك:1/41-114، طبقات السبكي:4/325، الدارس:2/178-188، مرآة الزمان:8/425، مفرج الكروب: 1/168، ترويح القلوب:87، 88، الأعلام لابن قاضي شهبة، النجوم الزاهرة:6/3-63، شذرات الذهب:4/298، الشرفنامة:1/80-91، دائرة المعارف الإسلامية:14/263-277، الأعلام للزركلي:8/220، مشاهير كرد:1/1-12، بدائع الزهور:1/69 ، البداية والنهاية:12/13،معجم البلدان:3/151، سنا البرق الشامي:42المواعظ والاعتبار:2/233 ، تاريخ حلب:2/154-162 ، الموسوعة العربية:2/1128، صلاح بدر الدين: موضوعات الكردية، 25، تاريخ الدول والإمارات الكردية في التاريخ الإسلامي:المقدمة

 (7) الوافي بالوفيات:2/235، ابن خلكان: 2/48 وفيه: ولادته بدمشق سنة 540 وقيل 538، ابن إياس: 1/75، السلوك1:/194 وفيه مولده سنة 538 ، مرآة الزمان: 8/594، الأعلام: 6/47 ، حي الأكراد: 126، معجم الأنساب والأسرات الحاكمة:150، خطط المقريزي:2/236.

 (8) الوافي بالوفيات:1/194، الكامل 12/126،135، 186، السلوك 1/194- 260 وفيات الاعيان2/50، الدارس 2/277،مرآة الزمان 8/705، الأعلام 7/28، خطط الشام:2/92، معجم الأنساب والأسر الحاكمة:151.

 (9) المنهل الصافي:3/227، الدليل الشافي:1/178،النجوم الزاهرة:6/319، أعيان العصر:1/95، الوافي بالوفيات:10/55، خطط المقريزي 2/236، ابن إياس 1/83، السلوك 1/339، تاريخ الاسحاقي 189، مرآة الزمان 8/775، الأعلام 2/38 ، شذرات الذهب:5/237، دائرة المعرف الإسلامية:14/115-120

 (10) الدليل الشافي:1/230، المنهل الصافي:4/183، ابن إياس:1/85، ابن الوردي: 2/181، ابن شاكر 1/97، السلوك1:/361 وفيه ما يخالف رواية غيره، فهو يذكر أن الملك المعظم ساءت سيرته مع المماليك البحرية فقتلوه، ولا يذكر شجرة الدر، ويقول: أن مدة بني أيوب بمصر 81 سنة ، مرآة الزمان: 8/781، مجلة المجمع العلمي: 16/308، الأعلام: 2/90 ، فوات الوفيات:1/263، شذرات الذهب:5/292، طبقات الشافعية:8/134.