نزل الكرد على جبل لبنان منذ أمد طويل، ويشكلون اليوم شريحة كبيرة داخل المجتمع اللبناني الحديث، وقدر لبعضهم أن يلعب دوراً بارزاً في صناعة تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي والاقتصادي خاصة في العهد العثماني وفي العصر الحديث.
ومن هذه الأسر الكردية العريقة في لبنان: المعنيون، آل العماد، آل جنبلاط ، آل المرعب، آل عبود، آل سيفا في عكار وطرابلس في الشمال، آل الفضل والصعبيون في الجنوب، وقد تمتعت هذه الأسر بصفة الإقطاعية والنفوذ الكبير.
هاجرت هذه الأسر الكردية إلى جبل لبنان في فترات زمنية مختلفة، ولأسباب مختلفة أيضاً، فمثلاً الأيوبيون نزلوها في فترة الحروب الصليبية لحماية الثغور الإسلامية، وبعضهم من قدم في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي ونزل في منطقة طرابلس وعكار والضنية بهدف توطيد حكم المماليك على بلاد الشام.
أما الجنبلاطيون فقدموا إلى جبل الشوف في القرن السابع عشر الميلادي هرباً من ملاحقة الصدر الأعظم مراد باشا العثماني ومن والي الشام سليمان باشا بعد ثورة جدهم (علي باشا جانبولارد) في منطقتي حلب – سيواس سنة 1606م.
وقد عرفت مدينة زحلة في البقاع اللبناني الأكراد ردحاً طويلاً، وتعاملت معهم عندما كانت نقطة تلاقي الطرق التجارية التي يقصدها البدو وأكراد كردستان ليبادلوا منتجاتهم الحيوانية ومواشيهم بالبضائع اللبنانية والأوروبية.
يذكر أن الدولة العثمانية اعتمدت بالدرجة الأولى على الأمراء الأكراد في المناصب الإدارية، فكان منهم الولاة والمتصرفين وقادة الجيش والشرطة في الولايات العربية المختلفة، وهذا يفسر بروز شخصيات كردية مؤثرة على مسرح الإحداث السياسية في البلدان العربية، ولكن هذه الشخصيات لم تلبث أن قويت واستقرت في أماكن وجودها، وكثر عددها، ولم تلبث أن تكيفت مع البيئة الجديدة، واعتنقت المذاهب والأديان السائدة فيها.
لقد لعب كرد لبنان دورا حيوياً وبارزاً على مسرح الحياة السياسية، بل تجاوز نفوذهم إلى خارج حدودها، فعندما تزعم المعنيون الكرد جبل لبنان بسطوا نفوذهم على شمالي فلسطين وجبل عجلون في شمالي الأردن ومدينة حلب خلال القرن السابع عشر الميلادي،
كما برزت عائلة جنبلاط كقوة حقيقية في لبنان خلال القرن الثامن عشر واستمر نفوذها السياسي منذ ذلك الحين حتى الوقت الحاضر،
وهناك أمراء رأس نحاش الأكراد الذين برزوا في منطقة الكورة في شمالي لبنان، وآل مرعب الذين حكموا منطقة عكار في شمالي لبنان.
كما هاجرت جاليات كردية كثيرة إلى لبنان في مطلع العصر الحديث من مناطق الجزيرة وعفرين من كردستان الغربية، ومن مناطق ماردين وبوطان في كردستان الشمالية بعد فشل الثورات الكردية ضد الدولة التركية الحديثة منذ فترة العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي،
يتمركز غالبيتهم اليوم في مدينة بيروت وضواحيها، ويبلغ تعدادهم نحو 150 ألف نسمة، منهم (15) ألف يسكنون في بيروت الغربية بمنطقة زقاق البلاط بالذات.
كما اعتنقت العائلات والأسر الكردية التي هاجرت إلى لبنان واستوطنته مختلف المذاهب الإسلامية والأديان السائدة فيه، فكان الأيوبيون ومن بعدهم آل سيفا وآل مرعب على المذهب السنَّي، وبنو حمية متشيعين مع المتاولة في الجنوب، وآل جنبلاط والمعنيون وآل العماد يعتنقون المذهب الدرزي، وقليل منهم من اعتنق الدين المسيحي.
جرت لكرد لبنان صولات وجولات كالأمراء المراعبة وآل جنبلاط، ولا تزال قرية (طاريا) تتحدث عن التاريخ النضالي والعلاقة المشتركة بين العرب والأكراد، فهناك المناضل أحمد المير الأيوبي المنحدر من مدينة طرابلس، وقائد الحركة الوطنية اللبنانية الشهيد كمال بك جنبلاط. الذي حرص على زيارة الملا مصطفى البارزاني في منطقة (قلالة) بكردستان العراق عام 1971م، وقاسم شوك قائد ثورة سير الضنية سنة 1927م ضد الاستعمار الفرنسي.
خلافاً للأسر الكردية التي توطنت لبنان منذ العصر الأيوبي والعثماني السالفة الذكر والتي تكلمنا عنها في الحلقات السابقة(1-7). يوجد اليوم تجمع كردي آخر هاجر إلى لبنان في مطلع القرن العشرين، حيث يشكلون ثاني أقلية مسلمة في لبنان بعد الفلسطينيين، وثاني أقلية قومية بعد الأرمن، ويقدر عددهم بنحو (100) ألف مواطن، بينهم (20) ألفاً يحملون هويات (قيد الدرس)، أو (مكتومي القيد).
لا يزال هؤلاء الكرد محافظين على لغتهم وعاداتهم الكردية، ولهم ارتباط روحي بالكرد وكردستان، وقد هاجروا إلى لبنان من مناطق ماردين وطور عابدين وبوطان في كردستان تركيا على مراحل متفرقة، بسبب ضيق سبل العيش في مواطنهم الأصلية من جهة، وخوفاً من الاضطهاد التركي الذي أرعبه التحرك السياسي للأكراد في كردستان تركيا، وفشل الثورات الكردية هناك، وبالذات ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925م، وسقوط جمهورية مهاباد في إيران عام 1946م وإعدام عشرات الكرد هناك، وما نتج عنها من تهجير جماعي للأكراد في منطقة ديار بكر، بالإضافة إلى رخاء العيش في لبنان.
في أعوام 1930-1932م وفدت مجموعات كردية أخرى إلى بيروت بعد سحق ثورة (جبل آكري داغ) في كردستان تركيا، وفي الأربعينيات من القرن العشرين حضر القسم الأكبر من الأكراد الحاليين إلى لبنان.
أما المحطة الأخيرة للهجرة فكانت في العام 1980م بعد الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال كنعان أفرين في تركيا، إذ تعامل مع الكرد بشدة وقمع متناهيين، مما هيأ لهجرة مجموعات الكردية أخرى إلى لبنان.
لذلك يمكن القول بأن الغالبية الساحقة من أكراد لبنان الحاليين قدموا من كردستان الشمالية في تركيا عبر التوجه إلى منطقة الجزيرة السورية من نصيبين- القامشلي- الحسكة- دير الزور- حلب- حمص – حماة- طرابلس- حتى بيروت، وبنسبة بلغت نحو 95% من مجموع أكراد لبنان، أما النسبة الباقية 5% فقد قدمت من سورية والعراق.
أما بخصوص توزيعهم الجغرافي في لبنان، فيجتمعون في ضواحي بيروت وأحياؤها، كزقاق البلاط، ومنطقة رياض الصلح، والكرنتينا، والمسلخ، والمزرعة، والمصيطبة، وحي السباعي في برج البراجنة، ونطقة وادي أبو جميل، والباشورة، وفرن الشباك، والمرجه، والمرفأ، وعين المريسة، والمنلا، والظريف، والبسطة الفوقا والتحتا، ومار الياس، والخندق العميق، والاوزاعي، والجناح، والضاحية الجنوبية. ويقدر عدد الأكراد المسجلين على لوائح الشطب نحو (15) ألف مواطن.
بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976م، هاجر الأكراد من مناطق سكناهم في ضواحي بيروت الشرقية من الاشرفية وسن الفيل، والمسلخ - الكرنتينا، وتل الزعتر، والنبعة، وانتقل بعضهم إلى قرى جبل لبنان إلى عالية، وبشامون، ومنهم من سكن في مدينة طرابلس في أحياء التربيعة، والزاهرية، وظهر المغر، والقبة، ومنهم من سكن في قرى البقاع في الخيارة، والفرزل، وكفر زبد، ودير زنّون، وشتورة، وبر الياس. والقليل منهم سكن في مدينة بعلبك وصيدا.
من عائلاتهم المعروفة في لبنان: عميرات، فخرو، سعدو، رمّو، السيالا، عتريس، الزين، اسماعيلات، الراشديون، المحمليون، والأومرليون، معسرتي، علي خان، الخميس، العمري، الكردي، محيو، محّو...
يقدر عدد أكراد لبنان - بدون الاسر الكردية القديمة
في لبنان -حسب تقديرات عام 1983م بنحو(90) ألف نسمة، وأكثريتهم يعتنقون المذهب السني، ويتكلمون اللغة الكردية بالإضافة إلى العربية، ولا يزال لهم أقرباء في كردستان (سوريا وتركيا والعراق). ويوجد أكثر من 70% منهم بدون جنسية، ويحملون ورقة هوية (قيد الدرس) التي تجدد كل سنة.
الدكتور محمد علي الصويركي : هو أردني الجنسية، كردي الأصل، و حائز على درجة الدكتوراه في الفلسفة/ في التربية والمناهج، وهو عضو اتحاد الكتاب والأدباء الأردنيين، وحاصل على جائزة الدولة التشجيعية في تاريخ الأردن الحديث، وشغل أستاذاً مساعداً في المدارس والمعاهد والجامعات الأردنية والخليجية ومؤلف الموسوعة الكبرى لمشاهير الكرد عبر التاريخ" بالإضافة الى ما تأليف العديد من الكتب والوثائق التي أغنت المكتبة العربية والكردية بالمصادر الهامة عن تاريخ شعب وتاريخ أناس اشتهروا وعرفوا على أنهم من رواد العلم والمعرفة في الثقافة العربية والإسلامية، وكانوا في حقيقة الأمر يعودون بأصولهم الى جذور كردية..