Share |

حدود التقسيم تمحو بالدم والنار..."سايكس بيكو" من صخرِ إلى رملٍ... بقلم.خالد ديريك

لم يخمن كلُ من سايكس الانكليزي وبيكو الفرنسي مهندسا الاتفاقية عام 1916 م والمكرسة في مؤتمر سان ريمو عام 1920م عما ستحول إليه الأمور بعد عقود من تنفيذ الاتفاقية التي اشتهرت باسمهما،عندما قسما جزءاً من تركة السلطنة العثمانية في الشرق الاوسط

(كردستان وبلاد الشام والرافدين) تحديداً بين فرنسا وبريطانيا العظمى،ليس فقط في تقليص وانعدام نفوذ بلديهما بعد نحو مئة عام في تلك البقعة الجيوستراتيجية المهمة من العالم ،بل في تفتيت دعائم وأساسات تلك الحدود التي أقيمت بدون إرادة شعوب المنطقة  من خلال تعرضها للمتغيرات والظروف الإقليمية والدولية إضافة إلى رياح التغيير الداخلية التي عصفت بأركان الحكم والسلطة في الدول العربية مبتدئاً من شمال إفريقيا ومنتهياً في دول "سايكس بيكو" تحت مسمى ثورات"الربيع العربي".

بيد أن معظم الكيانات التي أوجدها الاستعمار، خاصة التي تنسج بالثقافات والأعراق المتعددة، كانت منذ نشؤها قابلة للاحتراق والانفجار في أية لحظة لكثرة الترسبات والتراكمات السلبية والمظالم التي تراكمت على كاهل شعوبها من قبل حكامها المستبدين.

لم تتعرض حدود "سايكس بيكو" للخطر الحقيقي منذ نحو قرن من زمن إلا بعد "الربيع العربي" بالرغم من المعارضة وعدم الرضى اللذان يبدانهما حكام وشعوب المنطقة لهذه الحدود منذ نشوئها،الحكام استخدموها ورقة للاستهلاك المحلي من خلال رفع المزيد من شعاراتهم القومية لصرف نظر شعوبهم عن أزمات داخلية وتوجيه الأنظار إلى هدف وهمي وبراق في نفس الوقت وغير قابل للتحقيق في ظل سلطة الاستبداد،وأما الشعوب معظمها كانت بانتظار فرصة سانحة لإحداث التغيير.

تعرضت هذه الحدود لأول مرة لخطر الانهيار والذوبان بعد استفحال الأزمة السورية وكثرة شعابها بحيث باتت صخورها الآن تتفتت رويداً رويداً،وتتحول إلى رمال متحركة سواء بيد الظالمين أو المظلومين، أي بيد الاستبداد والمارقين من طرف أو بيد شعوبها المظلومة المضطهدة من طرف آخر.

وفي مقابل استمرار حكام وبعض أردافها التشبث بتلك الحدود بحجج واهية قديمة جديدة تحت يافطة وشعار الحفاظ على الوحدة والسيادة الوطنية أما في جانبه المخفي فهو الحفاظ على امتيازات سلطانهم واستمرارهم في نهب خيرات وثروات الشعوب وسلب الحقوق والحريات.

بعد تأزم الوضع السوري وظهور لاعبين وأطراف جدد في الميدان السياسي والعسكري،امتد الحريق والإرهاب من سوريا إلى الجوار بيد تنظيم "داعش" الذي ألغى مباشرة الحدود بين سوريا والعراق ليس بهدف تصحيح المسار وعودة الحق لأصحابه ،بل لأجل إقامة دولة الخلافة التوسعية المترامية الأطراف على حساب نحر أعناق أبناء الأقليات الدينية وإمحاء نسل أعراق وشعوب مظلومة أخرى لاعتقادهم إنهم يتسمون بالكفر والحاد والازدراء.

مشروع دولة الخلافة لا يهدد كيانات "سايكس بيكو" فقط ،بل يهدد معظم دول وشعوب القارات الثلاث  في جنوب غرب آسيا وشمال إفريقية وجنوب أوربا ،بمعنى يهدد الأمن والسلام العالميين.

بسبب خطورة هذا التنظيم وإعلانه حرباً مفتوحة على كل من لا يوافق مع أفكاره وعقيدته  وإبقائه حجر عثرة أمام طموحاته وبالأخص حربه المفتوحة على أقليات دينية وعرقية وتهديده المباشر للوجود الكردي وإصراره على مهاجمتهم في كل من سوريا والعراق واشعاله جبهة طويلة معهم تمتد بطول أكثر من 1600 كم من خانقين في جنوبي كردستان إلى عفرين  في غربي كردستان(شمال سوريا) نتيجة لذلك وحد تنظيم "داعش" لأول مرة القوات العسكرية الكردية  السورية والعراقية والتركية والإيرانية  في بوتقة واحدة رغم  الخلافات السياسية الكردية البينية إلى حد التناقض أحياناً.

وبدأت شرارة توحيد تلك القوات وإلغاء الحدود عند مهاجمة التنظيم لمنطقة سنجار(شنكال) الكردية الإيزيدية وارتكابه المجازر المروعة  بحق الأطفال والنساء والشيوخ  ،وهكذا تم إلغاء حدود"سايكس بيكو"  لأول مرة كردياً ولو مؤقتاً.

يبدو،كلما استمر خطر"داعش" على المدن الكردية بهدف احتلالها وإخضاعها والقيام بنهبها ،كما في كل مكان يحل فيه ، اتجه الكورد نحو المزيد من التآلف والتنسيق والوحدة،تبين ذلك عندما حاول هذا التنظيم احتلال مدينة كوباني الكردية السورية بعد سيطرته على منطقة سنجار(شنكال) الكردية العراقية،واستماتة القوات الكردية السورية في الدفاع والصمود قبل إرسال القوات المساندة من البشمركة وبعض فصائل الجيش الحر.

 وهذا انعكس إيجاباً لتلبي الحلف العربي ـ الدولي  النجدة والإسناد الجوي لهم في مدينة كوياني وما رافقته عبور قوات البشمركة الكردية من الحدود التركية إلى داخل كوباني  والتي كان له وقعاً وتأثيراً على نفوس الشعب الكردي،حيث بدا جلياً مدى انعكاس الاعتداء الداعشي في توحيد الكورد من جهة وتطور وصعود الدور الكردي الإقليمي في المرحلة الراهنة في مواجهة الارهاب ومدى اعتماد الغرب عليهم في هذه الحرب التي تهدد كل العالم من جهة أخرى،تبلور ذلك أيضاً مع ظهوراختلافات بين الأولويات الاميركية مع حليفتها تركيا وحدوث الشرخ في الثقة بينهما بسبب معارضة تركيا المتكررة للمطالب الاميركية.

 

تشابك في خرائط النفوذ

في ظل الأزمة السورية وتمددها إلى الجوار،يحاول كل طرف جاهداً  تمرير مشروعه والاستفادة من الخلل غير المسبوق الحاصل في منطقة "سايكس بيكو" على المدى القريب والبعيد،فإذا كان تنظيم "داعش" يحلم بدولة مترامية الأطراف وعابرة القارات ،ثمة مشاريع أخرى منها  مشروع تركي وإيراني قديم جديد كل على حدة،تحرك وتمايل مشروعهما ما بين المنافسة والصراع حسب الظروف والمعطيات.

تحاول إيران تثبيت وجودها في مختلف الأقطار العربية من خلال توابع لها،وقد نجحت في مشروعها إلى حد ما دون أن تدفع دماً وتستعمل سلاحاً.

 أما تركيا ومنذ وصول أردوغان الراغب ببعث العثمانية من جديد ، فإن مشروعها يمضي قدماً (داخلياً وإقليمياً) وبوتيرة  ضعيفة بالرغم من تلقيه بعض صدمات الكبح والضغط داخلياً وخارجياً،إضافة إلى رغبات وخطط الغربية في تنقية الأعداء والأصدقاء الجدد له في المنطقة على ضوء المتغيرات المتسرعة ،بحيث بات تشابك خرائط النفوذ  والمصالح  وتداخل المشاريع، سمتها الأبرز وحامي خلف الكواليس على الوضع الراهن.

 ولا شك إن روسيا هي الأخرى تبغي الاستمرار في وجودها في الساحة السورية وأقلها على منفذ ميناء مدينة طرطوس  في أي حل سوري قادم ،قد تتغير الخصوم والحلفاء لكن العين على الثروة والسلطة والنفوذ ويبقى هدفاً للجميع ،وجنوحاً واضحاً في كسب المصالح والحلفاء في منطقة ساخنة وإستراتيجية يدفع الجميع إلى تغيير هندسة السياسات بشكل البراغماتية دون اللجوء إلى المبادئ الإنسانية المعلنة وذلك للظفر بالكعكة أو بجزئها كي لا يخرج خاوي النفاد واليدين.

السؤال:هل ستنتهي اتفاقية "سايكس بيكو"  والخرائط القديمة وتحيا دول جديدة بعد نهر من الدماء ووابل من النار؟ أم ضمن التوافقات والصفقات على حساب طوائف وشعوب أخرى في المنطقه؟ ،أم سيسعى الجميع إلى عملية التصحيح وإعادة الحقوق لأصحابه ضمن ممكن ؟، بإقرار حقوق جميع الشعوب على أساس نوع من الحكم الذاتي ضمن حدود "سايكس بيكو" للإبقاء على تلك الكيانات درءاً للحروب الطاحنة. 

 

لا يمكن التكهن بشكل قاطع عن ما ستؤول إليه الأمور،لكن ثمة تغييرات كبيرة حدثت في المنطقة  وأخرى ستحدث ،ولن يعود الوضع كما كان عليه من قبل وستستمر التغييرات سواء أكان بالسلم أو بالحرب وستُزيل "سايكس بيكو" ولو بعد حين.