Share |

دراسة في أدب الفولكلور الكردي-الحلقة الخامسة...القصص الأسطورية...حيدر عمر

حازت الأساطير على اهتمام المفكرين والباحثين، وذلك لأنها احتوت على ألوان الفكر الإنساني، وحملت هواجس المجتمعات وهمومها، وعكست طرق التفكير الإنساني،

وصاغت مخاوف الحضارات ومطامحها على شكل قصة أو حكاية أو حادثة، وهي "الشكل الأول للثقافة الروحية التي صنعتها البشرية، وأقدم شكل من أشكال إدراك العالم لدى الإنسان البدائي"([1]). وفي هذا المعنى يقول بشير زهدي: " لقد قدَّمت الأسطورة أقدم الأفكار والقصص والأحكام التي تدل على تطلعات الذكاء الإنساني وعطائه عبر العصور التاريخية،و أولى محاولاته الفكرية في فهم قضايا الكون و الكائنات."([2]) و من هنا يمكن اعتبارها " من وجهة نظر الفلسفة نوعاً من الوعي الاجتماعي البدائي، أو محاولة بدائية للإنسان القديم في سعيه إلى معرفة العالم و فهمه "([3]). ولعل هذا ما يقصده الدكتور أحمد محمود الخليل في قوله: "ميثولوجيا الشعوب خلاصة رؤيتهم إلى الوجود."([4])

و لا يقتصر ظهور الأسطورة على شعب واحد، بل " لكل شعب من شعوب العالم قصصه الميثولوجية التي تجسِّد خيال ذلك الإنسان البدائي، و تمثِّل فكره، و تدل على أولى محاولاته الفكرية في فهم القوى الطبيعية المختلفة، التي تأمَّل فيها الإنسان طويلاً محاولاً تعليلها و تفسيرها و شرحها وتبريرها.([5])

وللأساطير ارتباط وثيق بالأديان والعقائد الدينية لدى الشعوب البدائية، كما أنها تعبر عن واقع ثقافي لمعتقداتهم عن الموت والحياة، ولهذا صارت الأسطورة حكايات مقدسة لدى الشعوب، كجزء من تراثها الروحي وممتلكاتها الثقافية، تتوارثها الأجيال المتعاقبة عن طريق الرواية الشفاهية، وقد يصيبها بعض التغيير خلال مسيرة انتقالها من جيل إلى جيل ومن عصر إلى عصر. و لهذا " تبدو الأسطورة متجدِّدة كالحياة، متطوِّرة مكانياً و زمانياً، رافقت الإنسان في مختلف مراحل حياته و أحاديثه و رحلاته و حواره و مناقشاته."([6]) وهي مجهولة المصدر و المؤلف، تُنسب إلى مجموع الشعب،و يمكن أن يُبحَث عبرها عن معتقدات الأمم و أديانها، و من هنا جعل بعض الكردولوجيين أمثال فيلجيفسكي و غيره و الكاتب و عالم الفولكلور الكردي البارز عرب شمو من الأساطير  وسيلة للتوصل إلى حقيقة  معتقدات الكرد القديمة و إلى الأديان التي آمنوا بها([7]).

أما في الآداب، فيمكن اعتبارها من أقدم أنواع الأدب الشعبي في آداب الأمم الشفاهية، لأنها من نتاج العهود الضاربة في القِدًم، حيث كان الإنسان مشدوهاً أمام الطبيعة، عاجزاً عن تفسير حوادثها التي كانت فوق مستوى إدراكه و طاقته، غير قادر على السيطرة عليها، مما جعل الإنسان القديم يطلق العنان لخياله، و ينسج قصصاً تعكس صوراً ساذجة " لتفسير ظواهر الطبيعة " التي كانت تصادفه في حياته اليومية، بحيث كان يضع لكل ظاهرة إلهاً خاصاً، ينسج حوله قصصاً خيالية خارقة.

إن قسماً كبيراً من قصص الأساطير الكردية تدور حول الصراع ضد العفاريت، و البطل في هذه القصص هو الإنسان، و هو في صراعه مع العفاريت، رمز قوى الشر، يخرج منتصراً دائماً، فيغدو هذا الصراع في الأساطير الكردية رمزاً للصراع بين الخير و الشر،و ينتهي بانتصار الخير. إن هذا الانسان المنتصر،وفْق ما يراه الدكتور عزالدين مصطفى رسول([8])، ليس دائماً من الفقراء و الكادحين، ففي حين كان بطل أسطورة " ضحاك " فقيراً و من عامة الناس، كما سنرى في الصفحات القادمة، نرى البطل في ( قصة بنكين )([9]) ابن أمير  يتعرض لأحابيل العفاريت و ظلمها، و رغم أنه يتعرض للأهوال و المصاعب، فما أن يتغلب على أحد العفاريت، حتى يظهر له عفريت آخر، فإنه في النهاية ينتصر.

تدور أحداث هذه االأسطورة حول الأبناء الثلاثة لأحد الأمراء هم على التوالي زنگين و دنگين و بنگين، و بناته الثلاث  روژبانو  و هيسربانو  و هيڤبانو. يوصيهم الأب قبل موته بأن ثلاثة أشخاص سيأتون إليهم طالبين الزواج من شقيقاتهم، وعليهم أن يوافقوا، لأنهم لن يقدروا على قتالهم.

بعد وفاة والدهم يأتيهم أحدهم و هو في هيئة عفريت، يقدمنفسه باسم (چولو ) ملك البراري، خاطباً شقيقتهم  الكبرى، فيرفض الأخوان الكبيران،و يوافق أصغرهم تنفيذاً لوصية والدهم، و عند ما يسمع العفريت ما يدور بينهم من جدل،يخطف شقيقتهم الكبرى و يمضي في سبيله. ثم يأتيهم الثاني، مقدماً نفسه باسم ( دورو ) ملك الغابات اللانهائية، و الحيوانات البرية، و يحدث الأمر نفسه، فيخطف الأخت الثانية و يمضي دون أن يستطيع الأخوة الثلاثة اللحاق به. ثم يأتيهم الثالث، مقدماً نفسه باسم ( گرو ) ملك الجبال العالية و الأودية العميقة التي لا قرار لها، و يخطف الأخت الصغرى، و يمضي دون أن يتمكن الأخوة الثلاثة اللحاق به، و تحرير شقيقتهم من بين يديه. وتتعرض زوجة الأخ الأصغر بنگين للمحنة نفسها، فيتبعها زوجها لاستعادتها.

وأثناء بحثه عن زوجته يتعرض للأهوال والمخاطر، يتجاوز بعضها بمساعدة أصهاره العفاريت، إذ يلتقيهم أثناء بحثه عن العفريت الذي خطف زوجته. في إحدى المحن التي يتعرض لها، و هو في عالم آخر في أعماق الأرض، يلتقي كهلاً مهموماً، يستوضحه عن سبب همومه،  فيخبره أن تنيناً يسد مجرى الماء، فيمنعه عن المدينة كل عام مرة، و يبقى كذلك إلى أن يلقي سكان المدينة إليه فتاة في ربيعها الرابع عشر. لذلك يضطر أمير  المدينة أن يجري القرعة، فمن تقع عليه، وجب عليه أن يقدم ابنته للتنين، و قد وقعت القرعة السنوية عليه هذه المرة، و  يجب أن يقدم ابنته للتنين غداً. يقترح  بنگين على الكهل أن يلقي به إلى التنين بدلاً عن ابنته. 

و إذ يبيت ليلته لدى الكهل، يتراءى له " الخضر "([10])، و يحذره من مغبة ما عزم عليه. أما إذا كان مصمماً، فينصحه  بأن يبقي على أحد رؤوس التنين السبعة، لأن قطع الرأس السابع يعيد الحياة إلى التنين،  فيغدو أقوى من ذي قبل. بعد إلقائه في البئر ، يلتقي  التنين، فيحتدم الصراع بينهما، فينتصر عليه، و لا يستجيب لتوسلاته بقطع رأسه السابع، فتعم الأفراح تلك المدينة، مما يجعل سكانها ينسون منقذهم في قاع البئر التي بدأت مياهها تتدفق على مدينتهم. أمابنگين، بطل القصة، فإنه يهيم على وجهه في ذلك العالم المظلم، و إذ يغلبه الإرهاق، يجلس تحت شجرة، فيغفو، إلا أنه يشعر بقدوم ثلاث من بنات الجن في هيئة طيور، يحطن على الشجرة، فيتظاهر بالنوم. و إذ يرينه، يتبادلن الحديث بشأنه، و يرشدنه إلى أمير أحد البلاد، ربما يستطيع مساعدته، ثم يرمين إليه ريشتين من ريشهن ، و يوصينه، بأن يفرك الريشتين ببعضهما حين يتعرض للأخطار، فيأتين لمساعدته.

يمضي بنگين إلى ذلك الأمير، و يشاركه قتالاً عنيفاً ضد أعدائه من العفاريت، و  حين يرى الأعداء يكادون ينتصرون عليهم، يفرك الريشتين، فتأتي بنات الجن مع عدد كبير من أنصارهن، و ينصرنه و الأمير على أعدائه. ثم أخبره الأمير بأن زوجته لدى أحد العفاريت المعروف بقوته و بطشه، و هو في مكان، لا يمكن أن يصل إليه أحد غير طائر السيمر غ(العنقاء)، و يرشده إلى مكانه.

و إذ يصل بنگين إلى حيث طائر السيمرغ، يرى تنيناً يتربص بفراخه، فيجرد سيفه و يقضي عليه، و حين يعود الطائر من رحلة الصيد، و يرى أنه قد أنقذ فراخه، يعرض عليه مساعدته في أي أمر يشاء. فيطلعه بنگين على ما عزم عليه، فيحمله الطائر، و يطير به إلى حيث ذلك العفريت الذي خطف زوجته، و يشتد القتال بين الطرفين إلى أن يقضي على العفريت، و يحرر زوجته، التي كان العفريت قد قيدها و سجنها لأنها رفضت الزواج منه، ثم يحمله طائر السيمرغ مع زوجته، و يطير بهما إلى بلادهما، فتعم الأفراح بعودة بنگين منتصراً و قد قضى على العفريت و حرر زوجته.

هذه العفاريت تعيش دائماً حسب الأساطير الكردية تحت الأرض، في الكهوف  والأماكن المظلمة، فهي تخاف الشمس و النور، رمز العلم و المعرفة، فتختفي حين يسطع النور.

إن قوى الشر في الأساطير الكردية لا تتمثَّل في العفاريت فقط، بل نجد الحية أيضاً إلى جانبها، ففي القصة المذكورة أعلاه، وجدنا تنِّيناً يتحكَّم في مصير مدينة كاملة. و يصادفنا التنين في القصة نفسها، و هو يتربص بفراخ طائر السيمرغ. وتطالعنا صورته في أسطورة أخرى، هي قصة ( ضحَّاك ) المشهورة بين الكرد، و تمضي أحداثها حول شخص اسمه  ( گاوا )، و هو أحد الفقراء من عامة الناس، قتل الملكَ  المستبد ( ضحَّاك ) و حرَّر الناس من ظلمه و استبداده.

تقول الأسطورة إن ملكاً ظالماً اسمه ( أزدهاگ/ ضحاك )([11]) أصابته لعنة الآلهة، بأن منعت الشمس تشرق على بلاده، فمات الزرع و الضرع، و أصاب الجوع الناسَ. ظهر له الابليس في هيئة طباخ  فقبَّل كتفيه، فنبتت على الكتفين زائدتان لحميتان على شكل تنينين، و كانتا تؤلمانه ألماً شديداً، عجز  أطباء زمانه عن إيجاد دواء للبُرء من تينك الزائدتين، و ظهر له الابليس مرة أخرى في هيئة طبيب، فنصحه بقتل شابّين كلّ يوم، وتغذيةِ التنينين بمخّيهما( في رواية أخرى استغل أحد الأطباء وضعه الصحي، فنصحه أن يقتل كل يوم شابين و يدهن الزائدتين اللحميتين بمخيهما، و ذلك لتأليب الناس عليه و الإطاحة به )، ولكن الخادم المكلف بذبح الشابين، رق قلبه، فكان يذبح  أحدهم، و يخلط مخه بمخ شاة، و  يدفع الشاب الآخر إلى الهرب و الاختفاء في الجبال، حيث تجمَّع عددكبير منهم. و حين بلغ الدور ابنة حداد اسمه ( گاوا )([12])، و كان قد ذُبِح أبناؤه الستة عشر سابقاً، ثار هذا الرجل و نادي في أولئك الفتيان الذين كانوا قد فروا إلى الجبال، و تقدمهم إلى قصر الطاغية، و هوى عليه بمطرقته، فقتله، ثم أشعل النيران في القصر، في إشارة إلى الانتصار على المستبد و الاستبداد، و  شروق شمس الحرية، و جادت السماء بالمطر بعد مقتل الطاغية، فنبت الزرع و نما الشجر. و قد أُطلِق على ذلك اليوم اسم ( نو روژ )، الذي يعني في اللغة العربية ( اليوم الجديد ). كان ذلك في اليوم الحادي و العشرين من شهر آذار / مارس، الذي يصادف بداية الربيع. و قد جعله الكُرد عيداً قومياً لهم يرمز إلى الانتصار على الظلم و انبثاق فجر الحرية، ومازالوا يحتفلون به كل عام. كما تحتفل به شعوب أخرى.         

يظهر الشر في الأساطير الكردية أحياناً في صورة عجوز شمطاء، ضخمة الجسم، آكلة البشر، تلقي المرء في فمها مضغةً بين أسنانها، نهداها كبيران طويلان، تلقيهما على كتفيها، يتدليان على ظهرها. و لكي ينتصر عليها بطل الأسطورة، فهو يحرص أن يتحايل عليها، فيأخذها على حين غرَّة، ويقفز إلى أحد نهديها، فيرضع جرعة من حليبها. عندئذ تقول له: " لو لم ترضع حليبي، لألقيتك في فمي، و هرستك بأسناني هرساً "([13])، و ترقُّ له، وتستمع إليه. هل تشير الأسطورة الكردية هنا إلى مكانة حليب الأم في الثقافة الإنسانية؟! ربما. و قد يكون في ذلك إشارة إلى أساطير الخلق القديمة كانت ترى المرأة / الأم أصل الكون([14]).

لا تكون هذه العجوز دائماً عنصر الشرِّ  في القصص الأسطورية الكردية، بل نجدها في ملحمة " رستمي زال "، قد تحوَّلت إلى رمز للخير، فهي على الرغم من ضخامة جسمها، و شكلها الذي يبعث الخوف و  الرعب في النفوس، فإنها تتمتع بقدر كبير من العطف و الحنان، و قد ظهر هذا الجانب منها عندما لبَّت طلب " زال " ، و أرضعت طفله " رستم " ، كما ورد في الملحمة([15]). 

إن الصراع بين العفاريت و التنين من جهة و الإنسان من جهة أخرى في الأساطير الكردية و انتهائه بانتصار الإنسان، إنما هو " رمز لذلك الصراع الناشب منذ عصور قديمة في المجتمع الإنساني، بين قوى الخير و قوى الشر "([16])، و انتصار الخير في النهاية، لكأننا نسمع في الأسطورة الكردية صدى الديانة الزرادشتية التي تدعو إلى " الفكر الخيِّر،بحيث لا يتداول المرء في عقله إلا الأفكار الطيبة، و يُبعد عنه الأفكار الخبيثة. و العمل الخيِّر، الذي يفيد به نفسه و أسرته و مجتمعه، و لا يبادر إلى أذية أي مخلوق. و القول الخيِّرفلا يصدر عنه سوى الكلام الطيب([17]). و انتصار " آهورامزدا " على " أهريمان "مسبِّب الشر.

إن قوى الشر في الأساطير الكردية تعمل جاهدة أن تخدع الإنسان، و لا سيما حين ترى نفسها محاصرة بقوة هذا الإنسان و تصميمه على القضاء عليها، و هذا ما يتجلى في رجاء التنين ذي الرؤوس السبعة البطلَ أن يقطع رأسه السابع بعد أن قطع ستة رؤوس، كي يريحه مما صار إليه من عذاب، ولكن البطل لا ينخدع بتوسُّلاته، لأنه يدرك أن قطع الرأس السابع سيعيد للتنين كامل قواه، و لذلك لا يُقْدم على قطعه، مثلما وجدنا في" قصة بنكين ".

لا تخلو الساحة في الأساطير الكردية دائماً  لقوى الشر، بل نجد إلى جانبها قوى الخير أيضاً، متمثِّلة في بنات الجن الخيِّرات اللواتي يُسَميَن " پيري / په ري ". و قد رأيناهن في القصة السابقة، يقمن بمساعدة بطلها، و يسرعن إلى نجدته. و نجدهن أيضاً في بعض المشاهد الأسطورية في  بعض الملاحم الكردية.  ففي ملحمة " ممي آلان " نجد ثلاث شقيقات جنيات،  يجمعن بين بطليّ الملحمة " مَمْ و زِين "، إذ يحملن " زِين " ذات ليلة مع سريرها و هي نائمة، و يطرن بها مسافات طويلة إلى حيث " مَمْ "، فيما هو حلم تراءى لهما معاً([18]). و من هذا اللقاء بدأ حبهما الذي عانا فيه معاناة كبيرة. سنتحدث عن هذه الملحمة في غير هذا الموضع.

كما تظهر بنات الجن في قصة " الباشا و ابن الأرملة "([19])،فيقدمن العون للفتى الذي يقع بين يديَ الباشا و شروطه التعجيزية و الخطيرة، و الذي لو لا بنات الجن لَهَلك.

تقول الأسطورة: كان يعيش في مدينة ما رجل و زوجته مع ابن وحيد لهما في الخامسة عشرة من عمره. يموت الأب، فتتعرض الأم لمضايقات الآخرين، الذين يريدون الزواج منها لجمالها، و لكنها كانت قد قررت ألا تتزوج ثانية، لئلا يتعرض ابنها للمعاملة السيئة التي يعامل بها الأعمام أبناء زوجاتهم، فلم تر بداً من الرحيل إلى مدينة أخرى حيث لا يعرفها أحد. بعد سير طويل، و قد أخذ منهما التعب و الإرهاق مأخذاً، و أدركهما الليل، يخيِّمان عند شاطئ بحر، للمبيت في تلك الليلة، ثم متابعة السير عند الصباح.  ترى الأم أحجاراً جميلة الشكل ترميها الأمواج إلى الشاطئ، فتقوم مع ابنها، يجمعان بعض تلك الأحجار، و في الصباح يتابعان السير ، فيصلان إلى مدينة أخرى، و يتخذان لهما بيتاً في أطرافها، و في اليوم التالي ترسل الأم ابنها إلى سوق المدينة ليبيع بعض الأحجار ، و يشتري بقيمتها طعاماً و بعض الحاجات الأخرى.

كان الباشا في ذلك اليوم يتجول في المدينة، و لما رأى تلك الأحجار مع الفتى، اشتراها منه، و سأله عن داره، و عندما عاد إلى قصره،  رأى  وزيره و مستشاره الأحجار الكريمة التي اشتراها من الفتى، فأعلماه بقيمتها الكبيرة. قصد الباشا في اليوم التالي بيت الفتى، هناك وقعت عيناه على المرأة الجميلة، فطلبها للزواج. إلا أن المرأة رفضت طلبه بسبب ابنها. عاد الباشا إلى قصره، و هو يفكر بحيلة يتخلص بها من الفتى، فطلب من بعض الخدم إحضار  الفتى إلى القصر، و أمره أن يحضر له كمية من هذه الأحجار، تكفي لأن يزيِّن كل قصره بها، فإن فعلها، فسوف يغدق عليه أموالاً كثيرة، و إلَّا فسوف يقتله.

مضى الفتى حزيناً مهموماً إلى خارج المدينة، و  لما أخذ التعب منه مأخذاً، مال إلى إحدى مزارع الفاكهة، و جلس في ظل شجرة واضعاً رأسه بين راحتيه، لا يدري ماذا يفعل. في تلك الأثناء كانت ابنة ملك الجن مع صديقتين لها قد حطت في هيئة ثلاثة طيور على تلك الشجرة، فلما رأته مهموماً، و كان على قدر كبير من الجمال، وقعت في حبه، و قررت أن تساعده في جمع كمية كبيرة من الأحجار الكريمة.

 عاد الفتى إلى قصر الباشا و معه أحمال من الأحجار الكريمة، فوقف الباشا مندهشاً، و راح يفكر بطريقة أخرى للتخلص منه. إن عودة الفتى بهذه الكمية من الأحجار تعني أنه سيعود سالماً دائماً. هكذا حدَّث الباشا نفسه، و راح يفكِّر بتدبير حيلة أخرى، فتفتق ذهنه عن أخرى، يكون فيها هلاك الفتى مؤكَّداً، و هي أن يرميه بين ألسنة النيران، بحجة أن يرى والده المتوفى، و يأتيه بأخباره.

جمع خدمه كمية كبيرة من الحطب بجانب القصر، و أشعلوا النار فيها،  فارتفعت ألسنة النيران عالياً، و رموا الفتى من أعالي القصر إلى النار، و لكن ابنة ملك الجن وصلت في الحال، و التقطت الفتى في الهواء، و وضعته بين الناس المجتمعين في ساحة القصر. و بعدما هدأت النيران بعض الشيئ، تقدم الفتى من الباشا، و أخبره بأن والده يعيش حياة الغنى و الهدوء و الراحة و السعادة، و  يريده أن يذهب إليه. خروج الفتى حياً من بين النيران جعل الباشا يعتقد بصحة كلامه، فألقى بنفسه بين الجمر  الملتهب، ملبياً دعوة أبيه! فاحترق و مات. 

تتجسد صورة الخير في الأسطورة الكردية في الشخصية الأسطورية ( خضر ) أيضاً، و هي شخصية خالدة و شيخ كبير لا يموت ما وُجِدَت الأرض و السماء، و يرمز إلى أن قوى الخير خالدة، بينما قوى الشر تسير نحو الموت و الهلاك. إن ( خضر ) موجود في كل مكان، يغيث الملهوفين، و يعين الفقراء و المظلومين، و ينصح الملوك و الأمراء، و يهديهم إلى طريق الخير.

يَرِد ذكر ( خضر ) في ثقافات أمم كثيرة، و إنْ بأسماء مختلفة. ففي الديانة الكردية الأيزيدية يرد باسم ( خدر- لياس ) و في الديانة الموسوية اسمه ( آليا أو تاليا أو إيليا أو الياهو )([20])، و لدى الديانة المسيحية يرد بأسماء متعددة منها القديس ( مار جرجس ) أو ( مار جريس )، والإسلام متمثِّلاً في القرآن الكريم، لا يذكر اسماً له، إلا أن بعض المفسرين يذهبون إلى أنه هو ( العبد الصالح ) الذي ورد ذكره في سورة الكهف  ( الآية 65 )، و الذي التقى النبي موسى عليه السلام. و هذه الثقافات، و إن اختلفت في اسمه، فإنها جميعاً تتفق على أنه رجل صالح، يهب لمساعدة الناس.

بالإضافة إلى ظهور الخضر في القصة السابقة، فقد ظهر في ملحمة " ممي آلان "، أيضاً، كما سنجد ذلك في الصفحات القادمة.

إن السمة الغالبة للأسطورة الكردية هي ترجيح كفة الخير، بل الانتصار للخير في مواجهة الشر، و البطل فيها دائماً إنسان، يتعرَّض للويلات، دون أن يحيد عما يسعى إليه، و ينتصر في النهاية على قوى الشر. إنها صور تخيُّلية لحياة شعب لاقى الصعوبات و المشقات طوال مسيرته الحياتية، و لمَّا يصل بعدُ إلى مبتغاه في العيش الحر الكريم.

 

([1])  د. جمال رشيد أحمد: ظهور الكرد في التاريخ. ج 2، ط 1، دار آراس للطباعة والنشر، أربيل 2005، ص 563.

([2])  بشير زهدي: مقدمة في الميثولوجيا. مجلة المعرفة، العدد 197، دمشق تموز 1978، ص 19.

([3])  د. عزالدين مصطفى رسول: دراسة في أدب الفولكلور الكردي. مرجع سابق، ص 13.

([4])  د. أحمد محمود الخليل: الشخصية الكردية، مرجع سابق،  ص 116

([5])  المصدر نفسه، ص 20.

([6])  المصدر نفسه، ص 34.

([7])  د. عزالدين مصطفى رسول: دراسة في أدب الفولكلور الكردي، مرجع سابق، ص 13.

([8])  المرجع نفسه، ص 16.

([9])  Mehmet Öncü: çîrokên efsaneyî yên Kurdan, çapa yekem, Nûbihar, Istanbul 2014,  rû 25 – 50  

([10])  الخضر شخصية اسطورية مقدسة لدى العديد من الديانات. سيرد التعريف به مفصَّلاً في غير هذا الموضع من الدراسة. 

([11])  في الحقيقة إن الملك المقصود في الأسطورة هو الملك الفارسي المستبد (بِيوَراسْپ) و ليس أزدهاگ الذي كان أحد أقوى الملوك الميديين، فبعد انتصار الفرس على مملكة ميديا بمساعدة القائد العسكري الميدي (هارپاگ) و إلقاء الملك الميدي (أزدهاگ) في السجن، ثم القضاء عليه و قتله بطريقة وحشية، أراد الفرس أن يصوروه للميديين و الفرس في صورة طاغية، مستغلين الشبه اللفظي بين اسمه (أزدهاك) واسم التنين (أژدها) في اللغة الكردية،فحلُّوااسمهفي= =الأسطورة  محل اسم بِيوَراسْپ الذي اغتصب العرش من الوريث الشرعي الذي كان يُدعى فَريدُون. انظر: د. أحمد محمود الخليل: شخصيات و مواقف من التاريخ الكردي، مخطوط، الحلقة 6.

([12])  يُلفظ حرف الكاف كما يُلفظ الجيم في اللهجة المصرية.

([13])   107  Mehmet Öncü: Heman jêder, rû 25 - 50. Û 105

([14])  ميادة كيالي عن خزعل الماجدي أنه ذهب إلى أن الأساطير السومرية حين تحدثت عن بدء الخليقة، اعتقدت بوجود الإله الأم. مقالة إلكترونية. انظر: http://www.mominoun.com/pdf1/2017-02/rafidayne.pdf

([15])   Edîb Polat: Ristemê Zal,  çapa yekem, Ezgi Matbaasi,Istanbul 2007, rû 67

([16])  د. عزالدين مصطفى رسول: دراسة في أدب الفولكلور الكردي، مرجع سابق، ص 15.

([17])  انظر فراس السواح: الزرادشتية و ميلاد الشيطان. مقال إلكتروني.

http://www.souriyati.com/2018/04/02/98795.html

  و تُسمىهذه الأمور الثلاثة في الديانة الزرادشتية بـ( الثالوث المقدس)  و ترد في آڤستا كثيراً. انظر: آڤستا، الكتاب المقدس للديانة الزرادشتية، إعداد الدكتور خليل عبدالرحمن، الطبعة الثانية، روافد للثقافة و الفنون، دمشق 2008، ص 154، 759، 762. آهورامزدا هو  الله في الديانة الزرادشتية. أما أهريمان، فهو مسببالشر، وليس إلهاً. و قد أُشكل هذا الأمر على بعض من درس الزرادشتية، فاعتبرها ديانةثنوية،أي تؤمن بوجود إلهين هما آهورامزدا للخير، و أهريمان للشر، و هم في ذلك يجانبون الصواب. 

([18])   Memê Alan: Danehev Roger Lescot , çapa duwem, Köln1990, weşanên Riya Azadî, rû 46, 47

الصحيح هو أن هذه ليست الطبعة الثانية، بل هي الطبعة الرابعة، فالثانية طُبعت من قِبَل  چيروك نڤيس (الدكتور نورالدين زازا) عام (1957) في دمشق، بعد طبعة ليسكو، و طبعها للمرة الثالثة  الباحث محمد أمين بوز أرسلان في استانبول في سبعينيات القرن الماضي مع ترجمة تركية (أحرقت السلطات التركية نسخ هذه الطبعة، فلم يبق منها إلا القليل جداً). و هذا يعني أن طبعة كولن / ألمانيا المؤشَّر عليها  بالثانية هي في الحقيقة الطبعة الرابعة

([19])  Mehmet Öncü: Heman jêder, rû 113 -115

 

 

([20])  محمد أحمد سليم: الخضر من هو؟ مقالة إلكترونية. 

https://forums.graaam.com/587783.html