Share |

رحلة إلى لالش… العودة إلى الضوء والذاكرة...لالش ..حين يعود المسافر الى طفولته : بدل رفو

بدل رفو مع بابا جاويش  الناسك المتعبد والذي كرس حياته للعبادة في معبد لالش
بدل رفو مع بابا جاويش الناسك المتعبد والذي كرس حياته للعبادة في معبد لالش

خذني إلى بلادي أيها المسافر

لتطوف قصائدي في وادي لالش،

لتكتسي كلماتي من ثياب محبة الإيزدي،

وتوقه للإنسان رغم الإبادات.

قمم  معبد لالش النوراني

الطريق إلى لالش ليس مجرد مسار جبلي نحو وادٍ مقدّس في كوردستان العراق، إنه رحلة إلى الذات الأولى، إلى الذاكرة التي

 

تحمل ضوء الطفولة ونسيم الطين..الى معنى الطفولة والزمن الجميل.

يقع وادي لالش في منطقة الشيخان، بين جبال هادئة احتفظت بقدسية المكان عبر آلاف السنين. هنا عاش الإيزيديون، وهنا ما

يزال التاريخ يتنفس عبر الزيت والنور والذاكرة وهنا السلام طائر يرفرف في سماء لالش.

قبب معبد لالش

سنبحرصوب الشيخ حسن،

 

لنوقد شموعًا من زيت الزيتون،

سنقطع الطرق علّنا نصل حافات البعد.

في المنفى، يضيق العالم مهما اتسعت مدنه. لكن هناك طرق حقيقية تعيدنا إلى أماكن شكلت طفولتنا.

رحلتي إلى لالش كانت عودة إلى ذاتي، إلى رائحة الطفولة، حين كنت ألعب مع أطفال الإيزيديين، أولئك الذين علموني أن الطين

يمكن أن يكون قربانًا للفرح، وأن البراءة وطن لا يُحتل. كل ميلٍ نحو الشيخان ولالش استحضر وجوهًا وذكريات، وكل خطوة

مسحت غبار الغربة عن قلبي.

 

يعد قضاء الشيخان إحد أهم مناطق تعايش الأديان ، ومنه يبدأ الطريق الحقيقي نحو معبد لالش، حين وصلت، بدا الهواء أخف،

والجبال أعمق صمتًا، كأن الأرض تمارس طقوسها الخاصة في استقبال العائدين وربما حزناً على غربتي الأزلية ووجعي السرمدي

جلس بجنبي شيخ مسن في احد المقاهي على الشارع الرئيسي ، وقال بهدوء يشبه الحكمة:

من يصل الشيخان يبدأ رحلته… فالنية هنا تُوزن قبل الخطوات، صدق الشيخ وهناك ارتشفت الشاي ورحب بي صاحب المقهى

واسمه زياد كثيرا ولكن جملة واحدة للشيخ المسن فتحت نافذة في قلبي.

الدعاء بجنب النار لو كدلولات عند الايزديين

الطريق الممتد بين الشيخان ولالش ليس مجرد طريق إسفلتي، إنه مسار قديم حجّه آلاف الإيزيديين عبر القرون.

ذكريات الطفولة كالاشجار تتشابك فوق المسار، كأنها تنحني لتمنح المارة ظلًا مقدسًا، والحجارة الصغيرة تحت الضوء تشبه بقايا

خطى من مرّوا قبلنا، هنا تدرك أن السفر ليس حركة جسد فقط، بل انفتاح روح، وأن البطء نوع من الصلاة.

 

كانت الاستراحة تمتد تحت ظلّ تلك الشجرة العتيقة، شجرة واحدة بجذرٍ هائل يتشعّب في باطن الأرض كما لو أنّه يمسك بروح

المكان، ومنه تنبثق تسع شجيرات كأنها أبناء يقفون حول أمّهم في حراسة صامتة. تحت ذلك الظلّ العميق نشأتُ، ومعي جيلٌ

كامل، نعرف خشونة جذعها، ونستظلّ بسمائها الخضراء، ونودع عندها أسرار الطفولة وأيام الشباب. واليوم، حين عدتُ إليها

كرحّالة يبحث عن أثر الماضي، اصطدمت عيناي بواقع موجع، لم يبق من تسعها سوى اربع شجيرات نحيلة، تقاوم الذبول

كمسافرات أنهكهنّ الطريق. وقد أُحيطت بسياج حديدي، لا لحمايتها من الناس، بل لحمايتها من الفناء، وكأنّ المكان يهمس لي:

هذا ما تبقى من الذاكرة… أمسك به قبل أن ينطفئ آخر ظلّ منها.

بدل رفو في معبد لالش 

لالش… القلب النابض للإيزيدية

 

ظهر الوادي أخيرًا.. قباب بيضاء ترتفع بهدوء، وأدراج حجرية تعود لقرون طويلة، ونسيم يحمل رائحة الزيت المبارك.

يحتضن وادي لالش معبد لالش النوراني، أقدس الأماكن لدى الإيزيديين، وفيه مرقد الشيخ عدي بن مسافر 1075ـ 1162م

كما انه مقر المجلس الروحاني للديانة الايزدية في العالم .  يقال إن نورًا خاصًا يهبط على الوادي عند الفجر،

حيث يحج الإيزديون مرة واحدة خلال حياتهم على الأقل إلى لالش.

 

دخلت الساحة الأولى، فاستقبلني صوت الماء المنحدر من عين (كانيا سبي ـ النبع الابيض)، أقدس العيون المائية، المكان يشبه

معبد الطبيعة نفسها: ماء يتحدث، هواء يتذكر، حجر يعرف الأقدام، وقباب تتوهج بلا نار.

اعمدة الامنيات وذلك بحل عقدة من القماش وربط واحدة اخرى

)كانيا س سبي ــ النبع الأبيض(

هناك العديد من الينابيع المقدَّسة في معبد لالش، تُنسب إليها قدسية خاصة، إلا أن النبع الأبيض يحتل مكانة متميّزة باعتباره أقدس

هذه الينابيع وأكثرها ارتباطًا بالممارسات الدينية. يشكّل ماء النبع الأبيض عنصرًا طقسيًا أساسيًا في حياة الفرد الإيزيدي منذ

ولادته، إذ تُعدّ طقوس تعميد الطفل بماء هذا النبع من أهم الشعائر التي يجب إجراؤها مرة واحدة على الأقل في حياته لضمان

الارتباط الروحي بالجذور الدينية، وحتى في حال وفاة الإيزيدي خارج موطنه تُمارَس عادة رشّ جسده أو كفنه بماء النبع الأبيض

تأكيدًا على هذا الارتباط الرمزي. ويعكس هذا الطقس أهمية الماء المقدس في العقيدة الإيزيدية ودوره في تعزيز الهوية الدينية

واستمرارية التقاليد عبر الأجيال.

احتفاليات راس السنة الايزدية 

 الشعر في قلب لالش

 

في لحظات الصمت بين القباب والمياه، ارتفع شعوري بالامتنان، وخرجت كلماتي على شكل أبيات، هنا يصبح الشعر امتدادًا

للرحلة، صدى للنور الذي يحيط بالمكان:

 

ستزهر قصائد الحرية،

وكل الطرق ستصبح كأقواس قزح

وفي راحات أيادينا شموع سلام،

 

وفي فضاءات القلب صورة للحياة،

ممتطين صهوة يوم جديد

في وادي لالش.

جرار زيت الزيتون  لاستخدامها للشعلات  

الأطفال الذين يحاورون الغيم والمطر والسماء

في طرف الوادي، ركض الأطفال فوق الحجارة كأنهم يعبرون الضوء لا الأرض

وقف أحدهم وقال بثقة:

نحن ننتظر المطر فالمطر يعرف اطفال لالش

ناسك متعبد في معبد لالش  

 

ابتسمت وفهمت ما لم تقله الكلمات ،علاقة الإيزيديين بالطبيعة ليست علاقة بشر بعناصر، بل علاقة أبناء ببيتهم الأول. كل حجر

يروي حكاية، وكل غيمة تعرف اسمها.

لالش.. بلاد لا تقبع على خرائط الحقد،

أطفالها يراقصون الغيوم مطرًا،

يحاورون السماء شهداً،

يفهمون طلاسم الإنسان،

رغم حرائق البكاء التي تتستر على حناجر عشاقها!!

الدعاء بجنب النار لو كدلولات عند الايزديين

 

خطوات الأصدقاء في ممرّات لالش

دخلتُ الممرات الحجرية التي احتضنت طقوسًا عمرها آلاف السنين: رفع الشموع، تقديس الزيت، الطواف حول القباب، وجموع

المؤمنين يتنفسون روح المكان. هنا، حيث يجتمع الإيزيديون من أصقاع العالم، يصبح الحجر ذاكرة والضوء صلاة.

في ذلك الصمت العميق، سمعتُ صدى أرواح أحبّة رحلوا: النحات حميد عجيل الذي كان يوقظ الحياة من الطين، وصديقي أيام

الموصل، والشاعران صديق شرو وخيري هه‌ژار، أبناء قريتي وتوائم روحي الحزينة، الذين رسموا بالكلمات ما تعجز الجغرافيا

عن قوله عن لالش وعن الإيزيديين.

في لالش، لا يسير الزمن إلى الأمام… بل يعود إلى نفسه. دائرة تبدأ منه وتنتهي فيه.

الباب الرئيسي لمعبد لالش

الشموع… رسائل الضوء

 

على الجدار المظلل بالسناج، تقف النساء يشعلن الشموع كأنهن يوقِدن ذاكرةً لا تريد أن تنطفئ. كل شمعة حكاية نجت من الإبادة،

وكل شعلة ذكرى قاومت الألم. فالإيزيديون شعب حمل تاريخًا من الجراح، لكنه ظلّ يواجه العتمة بالنور، والغياب بالحضور،

والوجع بالصلاة.

لالش ليس معبدًا فقط، إنه الذاكرة التي تحفظها الأجيال، ومرآة الصبر الممتد عبر القرون. ومع غروب الشمس، تتوهج القباب

بلونٍ ذهبي يميل إلى البنفسجي، كأن السماء تبارك المكان بضوءٍ نادر.

خرجت من الوادي ببطء، أحمل حفنة تراب وطمأنينة لا تُترجم بالكلمات. أدركت حينها أن من يدخل لالش يعود مختلفًا… وأن

الطريق إليه لا يغادر القلب أبدًا.

طوال سفري وترحالي..

ضريح الشيخ عدي بن مسافر

 

لم أرَ بلاداً وطبيعة

أجمل وأبهى من وادي لالش

لم أستنشق هواء نقياً يغزو

الأعماق

مثل هواء وادي لالش!!

 

رحلة العام الماضي حملت لطف صديقي الذي لا يُنسى

قبل المغادرة، رافقني الصديق العميد حبش أبو أحمد في زيارة جديدة، بدت لي كصفحة أخيرة تُضاف إلى كتابٍ روحي لا يكتمل.

سرنا معًا بين القباب والممرات الساكنة، نستعيد أعمارًا مضت، ونترك للهواء أن يكمّل ما تبقى من الكلام.

كان الوقت هناك طيّبًا بما يكفي ليذكّرني أن بعض الرفقة لا تُنسى، وأن الطريق إلى لالش يزداد نورًا حين يمرّ بخطوات الأصدقاء

الأوفياء.

كانت هذه الزيارة تجربة قلبية خالصة، عمّقت يقيني بأن لالش ليست مكانًا فحسب، بل مجتمعًا نابضًا بالحياة والثقافة والإنسانية،

حضنًا دافئًا يفتح ذراعيه للجميع. ستظل لالش، بكل نورها وذكرياتها، قلعة الطفولة ومرآة الإنسانية التي لا تخبو مهما ابتعدت

الطرق.

 

من دخل لالش هدأت روحه، ومن خرج منها حمل سلامًا لا يزول.

لم تهدأ روحي في بقاع الأرض

مثلما تهدأ في وادي لالش

 

ملاحظة

المقاطع الشعرية الواردة في هذا النص هي من قصائدي المنشورة في ديواني لالش… بلاد لا تقبع على خرائط

الحقد..هذه النصوص تعكس تجربتي الروحية والثقافية في وادي لالش ومع الإيزيديين، وتوثّق العلاقة العميقة بينالمكان والذاكرة والإنسانية.

 

 

النمسا \ غراتس