Share |

شيرين أبو عاقلة: مزمور القدس الحزين...بقلم: سمير حاج

شيرين أبو عاقلة
شيرين أبو عاقلة

 

القدس مدينة الأسوار، والتلال السبع بتوصيف الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا، بناسها الطيبين وكروم زيتوناتها وصخورها وحجارتها السوداء، وجيعة، تعيش جُمعَةً حزينةً، تلبس المسوح السوداء، وتتشح بصور شيرين التي أضحَتْ بغيابها القاسي والحارق موناليزا فلسطين.

راهبة الصحافة وصاحبة الصوت المجلجل والصورة الجميلة الشامخة، تُقتَطَعُ زَيتونةً من حواكير القدس بلا ذنبٍ أو خطيئة. أجراسُ القدسِ تُقرعُ حُزْنا للرحيل الكاوي، وتستعيد صوت فيروز المُتَسرب شُموخا، بين أزقتها وحاراتها العتيقة، «مريت بالشوارع… شوارع القدس العتيقة.. وعينيهن الحزينة… من طاقة المدينة» حِدادا على رحيل نجمة الصحافة والإعلام المهني الصادق، المُلتزم بالهم الفلسطيني والوجع الإنساني.

القدسُ تبكي ابنتَها شيرين الإعلامية الصادقة المميزة، المُراسلة الميدانية الرمز والهوية، أيقونة الصحافة والإعلام المُلتزم الراقي، الباحث في العمقٍ الفلسطيني التراجيدي، عن التفاصيل والهموم اليومية الصغيرة في حياة الناس، خاصةً في المخيمات، التي سطرت أنصع وأرقى الصفحات في سفر الإعلام والصحافة المعاصرة. نجمةُ القدس سَقَطَت في بث حي ومُباشر مُضرجةً بالدماء، برصاصة مُجرم، وهي تؤدي رسالتها الإعلامية بأمانةٍ وشفافيةٍ، في مخيم جنين أمام الكاميرا، حاملةً بشموخِ وتحد، صوتها الهادر وميكرفونها وهاتفها النقال.

في البدء كانت الكلمة، هكذا آمنت شيرينُ، التي نذرت حياتها للكلمة والصورة المعبرة، والتي هبطت بمحبةٍ وفرحٍ في قلوب وعقول مشاهديها ومستمعيها. شيرين امتطت صهوة جواد ٍ حرونٍ مُجازفٍ يُدعى الإعلام، اجترحت منه، رسالةً وهويةً ، الوعرَ والشائكَ ، مُراسلة ميدانية بين الحواجز، في الحروبِ والمظاهرات والاقتحامات وكانت سباقة في الوصول إلى قلب الحدث، بين الطوق والحصار والحواجز والرصاص، نقلَت بالصوت والصورة الحقيقة التي يصعبُ الوصول إليها. نذرت حياتها فِداءً لهذه الرسالة السامية، لتُسمِعَ صوتَ شعبها السيزيفي المُعَذب، صوتَ مَن لا صوتَ لهُم في زمن موحِشٍ، وضحت بروحها في سبيل إسماع صوت وكلمة شعبها الفلسطيني، في زمن الجريمة بلا عقاب. صوتُها صحافي موضوعي بامتياز، انسيابيٌ واضحُ اللغة وعميقُ المعنى، بعيد عن المرصعات البلاغية والحشو الزائد. أعطت درْسا في امتلاك الفرد لمحبة ملايين السامعين والمشاهدين، بأسلوبها المهني المميز، وصدقِ أقوالها، واحترامها وإيمانها برسالتها الإعلامية الراقية.

شيرين هويتها قلوب أبناء شعبها في أطراف الكون والقرى والمخيمات الفلسطينية. حملت خريطة فلسطين وناسها، في صوتها العاصف الممهور بسمفونيتها العذبة – اسمها والقناة الفضائية التي تعمل فيها، «كانت معكم شيرين أبو عاقلة ـ قناة الجزيرة». وبغيابها الصادم أعادتِ القدس إلى مركز الحدث، في خريطة العالم، ورسمَت الصورة الأجمل لمدينتها وشعبها ووطنها المصلوب على خشبة الصليب.

مسيرتها تاريخُ شعب، ومدرسة في الإعلام الفلسطيني المهني الراقي، وأرشيفٌ للتاريخ الفلسطيني المُعاصر بالصوت والصورة، وهي صورة ساطعة ومميزة، للمرأة الفلسطينية الإعلامية الجريئة. شيرينُ التي كانت تنقلُ الأحداثَ بالصوت والصورة، رحل صوتُها وأضحت صورةً جامدةً مُضمخة بالأحمر. أيتها الرائيةُ المقدسيةُ! يا مَن كتبتِ وتماهيتِ يوما مع المقولة (في بعض الغياب حضور أكبر)، حدسُكِ أصابَ، فأصبحتِ حاضرةً أكبر، في غيابك القسري الباكر، رُغمَ حُرقة رحيلك الموجع.

اليوم سارَت شيرينُ بلا صوتٍ، جُثمانا مُسجى في نعشٍ، محمولا على أكتاف مُحبيها من أبناء شعبها، في شوارع القدس العتيقة، على غير عادتها، بلا ميكرفون وبلا صوتٍ، دون أن ترصد وتلتقطَ بالصوت والصورة، كما عودتنا، جحافل الجنود المدججين بالسلاح، المُغتاظين حتى من موكب جنازتها المهيب وجموع مُودعيها.

شيرين مزمور فلسطينيٌ حزينٌ، ستبقى بحياتها وموتها رواية فلسطينية مهمة، وسفرا جميلا في تاريخ شعبها وذاكرته، وصوتا إعلاميا مميزا، وشاهدا ملكيا على الكلمة القتيلة.

القدس الحزينة ودعتها بالورود والشموع، والدموع والقُبُلات والأناشيد والرايات، ورسمتها نجمةً مُضيئةً بجنازةٍ مهيبة واستثنائية. إنها كما كتبت (في بعض الغياب حضور أكبر).. لقد رَحَلْتِ بحضور أكبر فَزِدْتِ الموتَ بهاءً وَحُزنا. طوبى لمدينة القدس التي أنجبتكِ ودرجتِ ومشيتِ في أزقتها وشوارعها وعِشتِ فيها! وطوبى لثرى القدس الذي احتضنَكِ، أيقونَةً وامتزج وتعطر برحيق نعشك!

 

كاتب فلسطيني– القدس العربي