Share |

"كسماء أخيرة" قصائد برقّة حدّ السكّين جديد عماد الدين موسى

كسماء أخيرة”هو عنوان المجموعة الشعرية الجديدة للسوري عماد الدين موسى (دار «فضاءات» - عمّان) وهي تضمّ تسع عشرة قصيدة نثريّة أو «توقيعة» على حدّ تسمية عز الدين المناصرة لهذا النوع من الشعر الذي تتّصف فيه الكتابة بالتركيز والشفافية وكثافة التوتّر. وهي توقيعات نهضت شعريتُها على مجموعة من التقنيات لعلّ أكثرَها جلاءً حَيَويةُ التشبيه، حيث ساهم حضوره في النصوص في تحويل دلالة منظوراتها، وتنظيم إيقاعات أفكارها، وتخفيف تَرَهُّل لغتها.

ولا نخال المبرّد وهو يقول: «والتشبيه جَارٍ كثيراً في كلام العرب، حتى لو قال قائل: هو أكثر كلامهم لم يَبْعُدْ» إلا متفطِّنًا إلى ما للتشبيه من أهميّة في صفاء مضمون التخاطب بين الناس عبر تقصُّدهم إخراجَ الأغمض من القول إلى أوضحه لبيانِه. غير أن كثرةَ حضور التشبيه في الكلام وفي الكتابة وتَعَوُّدَ السامع/القارئ عليه أمران قد يُفقدانه سرَّ أسراره وهو «إثبات الخيال في النفس بصورة المشبَّه به أو بمعناه» كما يقول ابن الأثير في حديثه عن وظائف التشبيه. وهو أمر تفطّنت إليه قصائدُ ديوان «كسماء أخيرة» فنزعت إلى استخدام التشبيه استخداماً جديداً فيه صَونٌ لألقِه البلاغي عبر تنزيهه عن مألوف وظائفه وتنزيله منزلة التقنية الجمالية التي مثّلت سبيل الشاعر إلى إدراك كنه الأشياء وإعادة خلقها لغوياً في صور شعرية بِكْرٍ. ذلك أننا نقف في نصوص المجموعة على استعمال للتشبيه جديد تنهض صورته على دعامة المزج بين البصريّ والتخييليّ والسمعيّ، وبين المحسوس والمتخيَّل، وبين النقيض ونقيضه مزجاً تحضر فيه الأشياء وفق إهابات لها طارئة على ذهن القارئ، حتى لتبدو وكأنها فارقت مملكة دَلالاتها الأولى التي أنهك التواصلُ اليوميّ كيانَها، وراحت تتكوّن في الذّهن تكوّناً أثيلاً تكفّلت فيه القصائد بمهمّة إعادة تعريف ما يقع أمام عينيها تعريفاً جديداً يمنحه وجوداً مفاجئاً ومستفِزّاً في آن. إذْ نُلفي كل مفردة موصوفة تحتفي بتخفُّفِها من ثقل ماديتها التي ترسّبت فيها بفعل التكرار، وتصنع لها بصفاتها «كياناً» طريّاً قادراً على مواجهة عواصف المكرور من القول وعاديِّه عبر «إخراج ما لا قوة له في الصفة على ما له قوة فيها» كما يذكر أبو هلال العسكري. وصورة ذلك ما نقف عليه في قصيدة «موسيقى» من تعريف بليغ للأصابع يُجْمِلُه قول الشاعر: «الأصابع حيتانٌ/ وتحلمُ/ بمزيدٍ من المياهِ الراكدةِ»، أو في قوله: «أيتها البلاد الواقفة على ربوةٍ/ أو بركان/ صامتاً كتمثال/ وحزيناً كقبرٍ مهجور/ ما من أثر لجرحٍ في خاصرةِ أيامنا/ سوى ندبةٍ غائرةٍ في القلبِ/ سوى نَصلٍ في يَدِ الريحِ/ يُنذر بالعاصفة» (قصيدة: أثر).

ومن وجوه جماليات التشبيه ما ينهض على تفصيل المشهد التشبيهي إلى عناصره الصغرى المكوّنة له وفق توقيع لفظيّ خفيف لا يُخفي أوجُهَ التعالق بين الشيء ونظيره، وذلك من خلال توزيعٍ معلومٍ لكميات المعنى بينهما وتطويع جريانه من المشبّه إلى المشبَّه به ذهاباً وإيّاباً على غرار ما جاء بالمقطع التالي من قول الشاعر: «خريفٌ أخيرٌ/ كحطّابٍ ثملٍ/ وقطيع حيوانات رماديّة» (قصيدة: خريف آخر)، حيث لا نعدِم إمكانَ توزيع هذا المقطع من حيث أصنافُ الموجودات فيه إلى (خريف، حطاب، قطيع حيوانات) أو من حيث صفاتُ تلك الموجودات (أخير، ثمل، رمادية)، وكذلك من جهة تعالُقِ الدَلالات (خريف يقطع سنوات العمر، حطاب يقطع أشجار الغابة، قطيع/يقطع حشود الحيوانات)، وهذه الموجودات وصفاتها تُكوِّن جميعاً معنى جديداً يحتاج تمثُّلُه إلى وفرة في التخييل وتختصره عبارة «خريف آخر» الواردة بعنوان القصيدة.

وإذا كان التشبيه في عرف معظم البلاغيّين ينعقد على ما بين المشبّه والمشبّه به من اشتراك في الصفة أو في بعضها، فإنّه يحضر في نصوص «كسماء أخيرة» حضوراً يقطع مع المتعارَف عليه من استعمالاته، إذْ نلفي المشبَّه الواحد يحتاز صفتيْن متناقضتيْن في الآن نفسه، ما يخلق في القارئ إدهاشاً وتحيُّراً يحفزانه على تخيّل علاقة جديدة بين تَيْنِك الصفتيْن من جهة، وبينهما وبين الموصوف من جهة ثانية. ومثال ذلك قول الشاعر: «لا تتوغَّلي بين الأغصانِ/ وهي نائمة.. يا الناعمة كأنشودةٍ صباحيّةٍ/ أو كحَدِّ السكين» (قصيدة: الغابة لا تحتمل الغابة)، حيث أصبغ على حبيبته التي دخلت الغابة صفتيْن ضديتيْن: فهي من جهة أولى ناعمة «كأنشودة صباحية»، وهي من جهة ثانية ناعمة «كحدّ السكّين». ولا شكّ في أن هذه الفجوة الدّلالية القائمة بين عبارة «أنشودة صباحية» بإيحاءاتها المعنوية الموجبة وعبارة «حَدّ السكين» بكلّ حمولتها السلبية إنّما هي تتقصَّدُ خلخلةَ ما ألِف القارئُ من علائق بين الموجودات، بل وتروم إرباكَ وعيه بالأشياء التي توجد حوله وبمعنى «النعومة» فيها إرباكًا هو من الفعل الشعريّ جوهرُه ومبتغاه. وهو ما نراه قد منح المشهديات المحمولة في نصوص الدّيوان جُرأةً على الإيحاء بما يخالف طبيعتها المألوفة في الذهن، والترقّي بكيانات عناصرها إلى مراقي الرّمز.

وتقصّدنا في عرضِنا مجموعة عماد الدين موسى الشعرية الوقوفَ على مظهرٍ من مظاهر شعريتها، ولذنا في ذلك بسبيلِ تبيّن أشكال حضور التشبيه فيها وما كان لوجوه تصريفه في القول الشعريّ من إيقاعات وتحويلات دَلالية.

 

جريدة الحياة