Share |

لنتذكر مبدعينا – كربيت خاجو ( 1907 – 2005)...اعداد: هوزان أمين

كربيت خاجو

سنتذكر في هذه الحلقة من سلسلة لنتذكر مبدعينا فنان ومغني آخر عتيق كالتحفة الاثرية كنز لن يفنى ابداً قدم خلال عمره الطويل مئات الاغاني الملحمية والفولكلورية الكوردية بداً من شمال كوردستان الى غربها وصولاً الى قفقاسيا لقد كان أرمني الاصل والقومية ولكنه في الآن ذاته كان كوردي الفن والهوى و كرّس جل حياته  للغناء الكوردي .

في السادس عشر من شهر كانون الثاني يمر ذكرى رحيله السابعة عشر وجدت انه من الضروري التعريف بهذا المغني الكبير وسرد قصه حياته المليئة بالمعاناة والالم اسوة بجميع الفنانيين والمثقفين الكورد من ابناء جيله، وكان لا بد لنا من وقفه على هذا الفنان الذي قدم للشعب الكوردي خدمات جليله في اطار الفن والغناء والفلكلور ولكن للاسف لم ينل حقه الطبيعي من تقدير وعرفان على خدماته وظل فقيراً بائساً منذ نشأته الى مماته، واثناء اعدادي لهذه الحلقة لم اجد اي معلومة عنه او حتى تعريف مبسط عنه على شبكة الانترنيت باللغة العربية سوى بعض الاغاني على اليوتيوب، ولكنني حصلت على مبتغاي من معلومات عن حياته في كتاب مشاهير الموسيقى الكوردية باللغة الكوردية للكاتبة زينب ياش واكملت به هذه الحلقة من سلسلة لنتذكر مبدعينا، فقد استطاع  كربيت خاجو ان ينال اعجاب الملايين من متتبعي وعشاق الفنّ الكوردي الاصيل، فمن منا لم يسمع اغنية (لاوكي متيني) المشهورة فنبرة الحزن والاسى طغت على أغانيه حسرتاً على بني قومه من الأرمن وحزنه على الشعب الكوردي المظلوم كما غنى اغاني الملاحم التي كانت تتحلى بالعشق والحب والبطولة والفداء والتي تأخذ طابع الفولكلور الكوردي الغني بالبطولات وقصص العشق والغرام و المستوحاة من حكايات الكورد القدامى.

قدم الراحل اغاني لا تعد ولا تحصى خلال مسيرته الفنية التي تجاوزت الثمانين عاماً، التزم بالفن والغناء الكوردي اكثر من التزامه بنسبه واصله وعبرصوته الشجي جسد أخوة الشعبين الكوردي والارمني فهو المثال الحي والشاهد على أواصر العلاقات التاريخية المتينة بين الشعبين العريقين الكوردي والارمني.

 حياته:

ولد كربيت خاجتريان والمشهور بـ كربيت خاجو في بدايات القرن العشرين عام 1900 بحسب سجلات الاحوال المدنية الارمنية ولكن ربما يكون هناك خطأ في تاريخ ميلاده حيث يذكر في اكثر من مناسبة انه واثناء حملات الابادة الارمنية عام 1915 كان عمره بين سبع اوثماني سنوات اي ربما يكون تاريخ ميلاده 1907 في احدى قرى بشيرية التابعة لمنطقة باطمان في شمال كوردستان .

وعند صدور قرار الابادة بحق الشعب الارمني والسرياني والايزيدي على يد السلطان عبدالحميد العثماني الثاني في عام 1915 فقد والديه وعدد كبير من اقاربه في تلك الحملات التي حلت بالشعب الارمني على وجه الخصوص، وهرب كربيت مع اخيه واخته من بين ايدي العساكر وهو ما زال والداً الى منطقة رشكوتيان حيث كانت اخته الكبرى متزوجة هناك وقام برعي الغنم وخدمة رئيس عشيرة رشكوتيان ابناء فليتي قطو المعروف. والذي الف عنه كربيت أغنيه مشهورة بقي هناك سنوات طويلة عمل في حراثة الاراضي ورعي المواشي، عانى كربيت كثيراً من الحرمان والعوز وبقيت صورة مقتل والدية واهله وابناء قريته امام عينه وعلقت في مخيلته، وكان يتردد الى مضافة القرية بين الحين والآخر ومن تلقاء ذاته بدأ بالغناء وتأليف الاغاني على نفسه وشقائه وماتعرض له من ظلم على يد السلطات العثمانية، وتعرف على مغني تلك المناطق والازمان ساكو المسيحي وخوديدا المسلم وبدأت تتكون بداياته الفنية حينذاك، خاصة بعد ان سمع به رئيس العشيرة فجلبه الى مضافته واصبح مغني المضافة وهو ما زال شاباً صغيراً وذاع صيته في عموم منطقة غرزان لا سيما بعد ان الف أغنية (فليتي قتو) حيث يتحدث عن مقتل فليت وبدأ الحرب بين عشيرتي رشكوتان واتمانكيان والتي ادت الى مقتل اكثر من 52 رجلاً من عشيرة اتمانكيان ثأراً لمقتل فليت قطو.

في روزآفا كوردستان

 

اصبح كربيت مشهوراً وبدأ بالتجول والترحال بين القرى و مناطق غرزان الى دياربكر (آمد) الى اندلاع ثورة الشيخ سعيد بيران عام 1925 وبدأ حملات الاعتقالات والقتل اثر فشل الثورة فر في ليلة ظلماء مع عدد كبير من الوطنيين الاكراد الى غرب كوردستان عام 1929 وسكن منطقة القامشلي ولكن نتيجة ظروف الفقر والبطالة هناك اضطر الى التطوع ضمن صفوف الجيش الفرنسي عام 1931 الذي كان يحتل سوريا ولبنان آنذاك مقابل اجر مادي ليستطيع تدبير امو حياته ومعيشته واستمر في الخدمة العسكرية الفرنسية لغاية خروج الفرنسيين من سوريا عام 1946 اصطحبوه معهم الى ميناء بيروت وخيروه بين الذهاب معهم الى فرنسا حيث كانت الباخرة التي ستقلهم الى فرنسا متوقفه في الميناء واكدوا له انه سيتمتع بكامل حقوقه في فرنسا بعد 15 عاماً قضاها في الخدمة التي كانت تعتبر بمثابة التقاعد بالنسبة له ولكنه رفض ذلك العرض واختار الرحيل الى بلده الاصلي الى قفقاسيا ( أرمينيا).

على الرغم من خدمته في الجيش الفرنسي لم تنقطع علاقاته بالفن والغناء وكان يتردد على مضافات المدينة والقرى المجاورة لها ويغني في المناسبات والاعراس، في تلك الاثناء تعرف على الفنان المعروف سعيد آغا جزيري، وتشاركا معاً بالغناء في العديد من المناسبات والمضافات وكان له تأثير كبير عليه ويحترمه جداً.

زواجه

 

اثناء خدمته في الجيش الفرنسي كان يتلقى راتب شهري واستطاع بذلك الراتب تحسين وضعه المعيشي نوعاً ما واصبح افضل من السابق وتعلم اللغة الفرنسية وتعرف على رفيقه دربه وحبه الاول والاخير في مدينة القامشلي وهي يفا ابنة هاكوب من عائلة عزيزيان وتزوجا عام 1936 واسس عائله مؤلفة من صبي و أربعة بنات ولد ابنهم البكر عام 1942 في القامشلي وابنتهم سيروب في الحسكة عام 1944 والبقية ولدو في أرمينيا، كان كربيت عطوفاً محباً لعائلته ووفياً لزوجته التي كان يلقبها بـ ( ملوكه) والتي توفيت في أرمينيا عام 1976 حزن عليها كربيت حزناً شديداً ولم يتزوج بعدها حيث كانت رفيقة دربه طوال أكثر من أربعين عاماً لم يفترقا ابداً وكان يتردد على قبرها باستمرار ويغني عليها حتى رحيله ويقول في احدى مقابلاته ( لقد رحلت يفا ولن تعود تركتني وحيداً لقد كانت حبي الابدي ولا زالت كذلك وتعيش في قلبي وستظل حياً الى الابد.).

في أرمينيا

 

صدر قرار من الاتحاد السوفييتي آنذاك بأنه يمكن لأرمني الشتات في العالم العودة الى بلدهم أرمينيا بعد ان انتهت الحرب العالمية الاولى فقرر كربيت حين ذاك نتيجة مشاعره القومية الذهاب الى بلده الذي كان يفكر بأنه سيكون ملاذاً آمناً للارمن جميعاً و يقول كربيت في أحدى مقابلاته في ذلك الصدد ان الضابط الفرنسي سأله بعد ان رفض الذهاب الى فرنسا واختياره الذهاب الى أرمينيا، لماذا تريد الذهاب الى قفقاسيا ؟ هل انت بلشفي حتى تريد الذهاب الى السوفييت !؟ فرد عليه كربيت قائلاً انا لست بلشفياً سوفيتياً أنا كوردي ! وركب باخرة آخرى كانت متوقفة في الميناء وبعد ايام وصعوبات جمة وصل الى ارمينيا واختار قرية صولخوزا للعيش فيها ولكنه لم يلاقي حسن المعاملة من ابناء جلدته لانه كان يجهل التحدث باللغة الارمنية ولاقى معاملة الغريب ومذلة وحياة قاسية جداً بسبب الفقر المدقع بين ابناء القرية والبلد عموماً الى ان تعرف الى الاكراد المتواجدين في القرى المجاورة.

في إذاعة ييرفان ( القسم الكوردي)

بعد ان تعرف على المثقفين الكورد الكبار أمثال عرب شمو وجاسم جليل واورديخان جليل ...الخ وغنائه وذياع صيته في المنطقة قرر العمل في إذاعة ييرفان حتى تم اطلاق القسم الكوردي في الإذاعة عام 1955 بدأ بالغناء وتسجيل أغانيه هناك على الرغم من حظرالإذاعة للاغاني التي تمجد الاغوات والعشائر وتركيز الاذاعة على الاغاني العاطفية إلا انه تجاوز كل ذلك وغنى كما احب وكان يقول انا مغني الحروب والمعارك الكبيرة ان لم اغني على تلك الاحداث فعن ماذا اغني؟

غنى كربيت في الإذاعة طوال سنوات طويلة وذاع صيته واشتهر أكثر بين ابناء الشعب الكوردي الذين كانوا يستمعون الى الإذاعة الكوردية وخاصة أغانيه المشهورة مثل ( لي لي دايكي- لاوكي متيني- زمبيل فروش- حسنيكو...الخ) وتعرف على العازف المشهور عكيد جمو، ومغني تلك الايام أمثال سوسكا سمو. أفوي أسد وغيرهم وتشاركوا معاً بالغناء في الكثير من المناسبات.

رحيله

ظل يتردد على الاذاعة الكوردية طوال أكثر من أربعة عقود حتى انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي مكث بعدها في منزل ابنه البكر حيث كان يقيم واصبح من الفنانين المحببين لدى الشعب الكوردي وبالاخص بين أكراد قفقاسيا يشاركهم افراحهم واتراحهم كان محبباً يحب الصغار والكبار بالرغم من الفقر المدقع الذي حل بهم في تلك السنوات ظل وحيداً يقاسي شظف العيش في حياته ويعاتب ويلوم الكورد الى ان وافته المنية في 16 كانون الثاني 2005 وترك خلفه ارثاً فنياً وغنائياً كبيراً صدر منها على شكل اسطوانتين تحتوي على قرابة 40 أغنية من اغنياته في اسطنبول عام 2001 كما سجل مئات الاغاني في إذاعة ييرفان.

سيظل كربيت خاجو قيمة من قيّم الشعب الكوردي وسيبقى صدى صوته يلامس الجبال من بشيرية الى غرزان وسرحد وروزآفا الى قفقاسيا عمل جسور بين كل تلك الاماكن وغنى عنها، خامة صوته العميقه ونفسه الطويل وقدرته على الغناء لايام وليالي بكل يسر ودون عناء ينساب صوته وشدى الحانه كالسلسبيل والمياه العذبة في زمن الظمأ، وعرف عنه ذكائه وفطنته حيث كان يلتقط الاغنية بمجرد ان يغنى امامه وباستطاعته تكرارها مباشرة، كل تلك المؤهلات جعلته يتربع على عرش الاغنية التراثية الكوردية لعقود طويلة من الزمن، لم يعرف قيمته عندما كان حياً يرزق ولكن عندما فارقنا ورحل علمنا بقيمته اكثر وبدأت المؤسسات الثقافية والاحزاب السياسية بإلقاء الخطب والشعارات على رحيله واعتباره خسارة للامة الكوردية لانه وهب حياته في خدمة الشعب الكوردي وفنه وتراثه.

لا بد من الشارة هنا الى ان الكاتب صالح كفربري ألف كتاباً عن حياته واغانيه بعنوان (صرخة القرن) وصدر قبل رحيله بأعوام واصبح مصدراً للمعلومات عنه، كما عمل السينمائي الكوردي محمد أكتاش فيلماً وثائقياً عن حياته بإسم (صوت من ذاك الزمان) بالاضافة الى عدة مقابلات اجراه في التلفزيونات الكوردية.

 

  

 

التآخي-العدد والتاريخ: 7280 ، 2017-01-17