Share |

عفرين… جرح مفتوح في جسد الجغرافيا السورية…بقلم : م. أحمد زيبار

الكاتب م. أحمد زيبار
الكاتب م. أحمد زيبار

لم تكن عفرين يوماً مجرد مسطح جغرافي على خريطة سوريا، بل شكلتعبر عقود رقعة نابضة بالهوية والثقافة والانتماء الكردي. تمتد على سفوحجبل الكرد، في خاصرة قريبة من البحر الأبيض المتوسط، حيث تلتقيالطبيعة الخصبة بالتاريخ العريق، وحيث يكاد الزيتون أن يتخذ شكلاً رمزياًيتجاوز الزراعة ليصبح هوية كاملة متجذرة في الأرض. ومن هذه الجغرافيا

خرج أربعة من أصل سبعة مؤسسين لأول حركة سياسية كردية منظمة في  سوريا عام 1957 م، في دلالة على الدور الريادي لأبنائها في الوعيالسياسي الكردي الحديث.

لطالما مثّلت عفرين إحدى أعمدة الوجود الكردي الثلاث في سوريا إلى جانب الجزيرة وكوباني، لكنها تحوّلت بعد العام

2018 إلى واحدة من أكثر ملفات الصراع السوري تعقيداً وإيلاماً، بعد أن سيطرت عليها تركيا مدعومة بفصائل مسلحة ذات

توجهات راديكالية، في عملية عسكرية لا تزال آثارها الإنسانية والسياسية ماثلة حتى اليوم.

بين سلطة منسحبة وأخرى مفروضة

عقب انسحاب النظام السوري من المنطقة في بدايات الأزمة، كانت عفرين إحدى التجارب الإدارية التي تولّاها حزب الاتحاد

الديمقراطي، ونجح – رغم محدودية الإمكانات – في ضمان حد معقول من الاستقرار والخدمات. غير أن التدخل التركي غيّرالمشهد جذرياً، فأفرغ المنطقة من أمنها السابق، وفتح الباب أمام سلسلة متواصلة من الانتهاكات والجرائم: قتل، تعذيب، نهبممتلكات، اعتقالات تعسفية، فرض إتاوات، تغيير ديمغرافي، وتعديات على الملكيات العامة والخاصة، بما فيها بساتين

الزيتون التي تحولت إلى مصدر تمويل للفصائل المسيطرة.

ورغم مرور أكثر من سبع سنوات على الاحتلال، لا تزال المنطقة تعيش فيما يشبه «السجن المفتوح»، بين قوى الأمر الواقع

المدعومة من أنقرة، وبين سكان يعيشون الخوف والتهجير، فيما تتراجع إمكانية العودة الطوعية يوماً بعد يوم، بعد الرجوع

النسبي الذي تزامن مع سقوط نظام الأسد.

مشهد سياسي غائم ومعادلات متشابكة

على مستوى سوريا الأوسع، شكّل إعلان الرئيس أحمد الشرع عن حكومة انتقالية وجيش نتج عن دمج بعض الفصائل في

دمشق محطةً جديدة في مسار الأزمة، لكنه لم يقدم حتى الآن رؤية واضحة لمستقبل الداخل السوري، ولا سيما الشمال

بتعقيداته المختلفة. ففي الشمال وشرقي سوريا، تواصل قوات سوريا الديمقراطية، بقيادة الجنرال مظلوم عبدي، إدارة منطقة

واسعة تضم مناطق كردية وأخرى ذات غالبية كردية. وفي الجنوب يشهد جبل العرب حراكاً درزياً متقطعاً في السويداء،

بينما يستمر الساحل السوري في احتضان المكوّن العلوي وسط قلق من مستقبل غير محسوم.

أما على مستوى التداخل الدولي، فقد تحوّلت الساحة السورية إلى مسرح تتقاطع فيه الإرادات التركية والإسرائيلية، وتتداخل

فيه الحسابات الروسية والصينية والأوروبية، في ظل حضور أمريكي مستمر. وفي ظل هذا المشهد، تجري مفاوضات بين

الشرع، وعبدي برعاية، واشنطن، وباريس.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن دور كل من حزب العمال الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني لم يأتِ هذه المرة في إطار

تنافسي، بل ساهم – بصورة أو بأخرى – في تهيئة مناخ أكثر توافقاً داخل الساحة الكردية السورية. وقد انعكس ذلك في

مخرجات مؤتمر نيسان في قامشلو، الذي شكّل خطوة مهمة نحو بلورة مقاربة سياسية مشتركة تفتح المجال لتعزيز وحدة

الموقف الكردي السوري.

 

ومع ذلك، تصرّ دمشق الرسمية على تجاهل الوفد المنبثق عن ذلك المؤتمر، رغم أنه الجهة المخوّلة بتمثيل المطالب الكردية

السورية. هذا التجاهل يرسل رسالة سياسية واضحة: القضية الكردية ليست في دائرة الأولويات حالياً، بل تحضر كمادة

تفاوض مؤجلة قد تُستثمر عند الحاجة.

 

عفرين في قلب السؤال الوطني

في خضم هذا التعقيد، يبقى سكان عفرين أمام سؤال وجودي: ما هو مصيرنا؟

إن أسوأ السيناريوهات المطروحة – وربما أقربها إلى الواقع الحالي في المدى القريب – هو بقاء الاحتلال العسكري

والفصائل المتشددة في المنطقة، الأمر الذي يعني استمرار الانتهاكات، واستمرار التغيير الديمغرافي والاجتماعي والثقافي،

وتحويل أبناء المنطقة إلى غرباء داخل وطنهم. أمام هذا الواقع، تتسارع هجرة الشباب، وتتآكل الهوية الكردية لعفرين، بينما

يكتفي المجتمع الدولي بمواقف رمادية، ويكتفي السوريون أنفسهم بالصمت.

أما السيناريو الأفضل – وهو السيناريو القابل للحياة – فهو عودة عفرين إلى جانب شقيقاتها الجزيرة وكوباني ضمن وحدة

سياسية إدارية متكاملة في إطار سوريا اتحادية، كما نصت ورقة قامشلو – نيسان، في إطار حل سوري دستوري يضمن

الحقوق القومية والمدنية، ويتيح عودة السكان بلا خوف، ويعيد للمنطقة توازنها الاجتماعي والثقافي بعيداً عن سطوة الاحتلال.

أهل عفرين يعيشون اليوم مرارة الواقع بين احتلالٍ يثقل حياتهم وغيابِ الأمان، لكنهم رغم كل ذلك يتمسّكون بالأمل. تتآكل

هويتهم تحت الضغوط، ويضيق بهم المكان، إلا أن رجاءهم بعودة عفرين إلى حضن أبنائها لا ينطفئ، حلمٌ يخفف عنهم قسوة

الأيام ويمنحهم قوة للاستمرار.

إن أي تسوية سياسية لا تضع ملف عفرين في صلب مطالب الحل، ستكون تسوية ناقصة وغير عادلة. فعودة المهجرين،

وخروج القوى غير الشرعية، واستعادة الحقوق، هي شروط لا يمكن تجاوزها إذا كان المطلوب حلاً حقيقياً، لا مجرد صفقة

جديدة لإعادة توزيع النفوذ.

خلاصة القول:

عفرين اليوم ليست قضية كردية معزولة، بل هي معيار لصدقية أي مشروع سياسي سوري. فإذا بقي الزيتون تحت الحراسة

العسكرية، وبقي الأهالي موزعين بين المنافي ومخيمات اللجوء، فإن كل حديث عن «سوريا المستقبل» سيبقى كلاماً إنشائياً

لا يملك القدرة على مداواة جرح كهل واحد.

الأمم لا تُقاس بخطاباتها، بل بكيفية تعاملها مع أكثر القضايا ظلماً فيها. وعفرين، بأبنائها وأرضها وهويتها، تمثل اليوم واحداً

من أكثر اختبارات العدالة حضوراً ووضوحاً في المشهد السوري.