Share |

قصة حب من التراث الكوردي .. فرهاد وشيرين ...عبد الباقي يوسف

إن حالة حب واحدة يمكنها أن تقدم صورة جلية عن جانب من سيكولوجية مجتمع برمته، ذلك أن الفرد هو جزء من المجتمع، والمجتمع هو مجموع أفراده الذين يقومون بعملية تشكيله.

من هنا فإننا نتعرف إلى المجتمعات من خلال تفاعلها مع مظاهر ومقومات الحياة، وممارستها للمزايا والقيم والنوازع الإنسانية.

لذلك بات الأدب في أية أمة ممثلاً صادقاً لهويتها، وما ذلك إلاّ لأن أبناء الأمة يتغلغلون بين سطور هذا الأدب الذي يقدمهم خير تقديم، ويسلط الضوء على مزاياهم وخصوصياتهم بشيء من الدرس والتحليل.

من هنا يمكننا أن نرى شخصية زمبيل فروش في أي حي من الأحياء الكوردية، وكذلك يمكن أن تجلو لنا شخصية (خجي) في أي شارع من شوارع الكورد، أو نرى سالار أو ميديا كما أننا يمكن أن نرى أبطال ملحمة رستم وزوراب وملحمة شريف هموند وملحمة قلعة دمام في بعض الميادين الكوردية في آي زمان ومكان.

ثمة مقولة موجزة للمستشرق ابو فيان يقول فيها: تكمن روح الشاعرية في نفس كل إنسان كوردي مهما كان عمره، أو مستواه التعليمي، حتى عند الشيوخ الأميين، فإنهم جميعاً يمتلكون القدرة والموهبة في الغناء، وهم يغنون ببساطة وهدوء، يغنون لوديانهم وجبالهم وشلالاتهم وأنهرهم ودورهم وأسلحتهم وخيولهم، وهم يغنون للشجاعة ولجمال بناتهم ونسائهم، وهذا لا يتدفق إلاّ من أعماقهم وسيكولوجيتهم.

أمسى الحب في التاريخ الأدبي والفكري والفني الكوردي مصدراً للإلهام، فنهلت منه هذه الإبداعات الفذّة لآلئ الرقصات والدبكات والأشعار والأغنيات والغزليات والسرديات، فباتت تلك الحالات الغرامية الاستثنائية في تاريخ العاطفة الكوردية جزءاً من تراث هذه الأمة ومشكلاً لجانب من معالم هويتها.

العلاقة بين فرهاد وشيرين هي قصة حب أذهلت كل قارئ لها بجميع لغات العالم، وقد خلّد الأدب هذه القصة التي وقعت بين شاب كوردي وفتاة كوردية، فكانت مصدراً لغزليات وسرديات وقصائد ودبكات وأمثال، حيث نهلت منها هذه الإبداعات بما تحتويه من غنى في مدلولاتها، وتصوير دقيق لرهافة شعرية حالة الحب البشري التي تربط بين رجل وامرأة.

إنها قصة نابعة من وجدان المجتمع الكوردي الذي يلخص قضية الإخلاص والتفاني بالنسبة لهذا المجتمع، وهي من ضفة أخرى تقدم صورة عن شخصية الإنسان الكوردي ومفهومه لعاطفة الحب.

في قصة فرهاد وشيرين نقف أمام قوة مشاعر العاطفة الإنسانية من جهة، وكذلك ضعف الإنسان تجاه المشاعر في تمازج وتداخل وتناغم بحيث يستمد الضعف ذراته من جبل القوة، وتستمد القوة معالم قوتها من ذرات الوهن في ثنائية متكاملة من شأنها أن تعطي جانباً من التفسير عن حالة الحب بصورة عامة.

البطل هنا يقبل أن يقوم بأعمال عضلية تعجيزية لقاء أن يظفر بمحبوبته حينما يطلب منه الملك هذا الأمر، فيذهب في عمليات الحفر الرهيبة وهو يذكرنا بسيزيف، بيد أنه في ذروة فرحه عند تنفيذه للمهمة التي يعتبرها مهراً لمحبوبته شيرين وهو يشق قناة من خلال جبل بيستون كي يوصل المياه إلى الجهة الأخرى تتم حياكة مؤامرة لاختبار قوة مشاعره، فيأتي إليه في عمله مَن يُخبره أن شيرين ماتت مصادفة بأجلها المحتوم، وما ذلك إلاّ لشدة غيرة الملك، وأن العمل التعجيزي تم، ومن جهة أخرى فقد أثبت هذا المهندس الشاب مدى قوة حبه لشيرين حيث كان حبه معيناً له في تنفيذ هذه المهمة البالغة القسوة والآن حان موعد وفاء العهد معه كي يظفر بها، بيد أن الملك لا يفي بعهده، ويلجأ إلى الغدر والمكر حتى تلبث شيرين محظيته.

هنا تحل مرحلة الضعف القصوى مقترنة بمشاعر القوة العظمى عندما يقرر اللحاق بها بالانتحار على طريقة السيبوكو، طريقة فرسان اليابان الشجعان، لأنه أحبها حباً جماً ولا يتخيل الحياة من دونها، فلا يتردد فرهاد من الانتحار مصدقاً ما سمع من الدسيس.

إن مثل هذه الحكاية التي تلألأ بها التراث العشقي الكوردي تقدم من جانب تأويلي آخر مرحلة ازدهار الرومانسية الكوردية التي طغت على تعدد حالات الحب في الموروث الكوردي مثل (مم وزين) وتلك الأشعار البديعة التي أبدعها الشاعر الكوردي المرهف أحمدي خاني من خلال تدوينه لملحمة الحب الكبرى هذه.

إن الملك كسرى ملك ساسان يقدم على خديعة فرهاد لأنه لمس أن شيرين آثرته عليه وهو الذي وقع في حبها، وهو بذلك ظن بأنه سيزيح هذا العاشق من طريقه كي تلبث له، بيد أن ذلك لا يحدث كما يتوسم الملك، بل يقع العكس حيث تقرر الامبراطورة شيرين اللحاق بمحبوبها عند سماعها نبأ انتحاره، معلنة بذلك تفانيها وإخلاصها، ومعبرة عن انتصار مشاعر الحب على مشاعر الحقد والضغينة، وكأن لسان حالها يقول إن الملك كسرى لم يربح شيئاً نتيجة حقده، بل خسر كل شيء، بما في ذلك خسرانه لنفسه، في حين أن فرهاد قد ظفر بكل شيء، وأن عدم بقاء شيرين مع كسرى هو بحد ذاته تعبير عن ظفره بها كونها لحقته إلى المجهول، متخلية عن واقع كسرى هذا الملك الذي كان زير نساء ولديه نحو ثلاثة آلاف امرأة، إلا أن شيرين كانت المرأة الأثيرة لديه، وكان الملك قد وقع في غرامها عندما وصفها له شابور قائلاً:

إنها فتاة ملائكية

مضيئة الليل كضوء قمر ساطع

سوداء العينين كماء الحياة

باسقة القوام كنخلة فضية

يسيل لعاب الصدف من بعيد

حسرة على لألئ أسنان شبيهة بالنور

أما شفتاها السكريتان فهما عقيق نضر

وقد اتخذت من عينها الساحرة ساحرا

يدرأ بتعاويذه عين السوء عنها.

لا يملك كسرى وهو المعجب بوصف شابور سوى أن يأمره كي يعود إليها ويصف لها مزايا مليكه، فيذهب إليها ويقول:

أنك تشاهدين دنيا خلقت من النور

جميل رشيق ماهر شجاع

في حنان الغزال وغضبة الأسد

هو كالشمس

تضيق شوارع الدنيا بموكبه

تئن الأرض من وقع أقدامه

وتبطئ سرعته دوران الفلك

وقد هوى ذلك المضيء بكل عظمته

أسير هوى حبك

حيث شاهد طيفك في نومه

فما عاد يحتسي الشراب

ولا ينام ليله ولا يجد راحة في نهاره

ولا يطلب غير شيرين

هنا تسلط الحكاية الضوء على عفاف المرأة الكوردية عندما يترك الملك كسرى دياره ويقدم إليها، وعندما تلتقيه شيرين، وتخرج معه في بعض المواعيد كي تتعرف إليه عن قرب، تتفاجأ بأنه يريدها عشيقة وليست زوجة، ولا تملك آنئذ إلاّ ان تعبر له عن رفضها لهذه العلاقة، وهي التي صدّقت قول شاغور بأن مليكه هائم في حبها، وقد تراودت له في الحلم فأمسى عاشقاً ولهانا كما في وصف رسوله إليها ، فتعلن له موقفها الحازم قائلة:

بذلك الحي الذي لا يموت

وبتلك اليقظة التي لا سنة فيها

بالمالك الذي وهب الأجساد زادها

وبالمعبود الذي رعى الأرواح

لن تحقق رغبتك مني رغم أنك ملك بغير زواج

فكم حملت من ألوان الاضطراب في رأسي

وكم من المساكين قتلوا على هذا الباب

فاذهب كي لا أسفك دمك

ففي رقبتي كثير من دماء أمثالك

فأنت صخري الفؤاد، وأنا فولاذية الروح

ولا يصلح لذلك القلب إلا تلك الروح.

هذه الحكاية كانت مصدراً لإلهام الكثير من الإبداعات ولعل أشهرها كتبه الفردوسي، علاّمة بلاد فارس في كتابه الشاهنامة، وفي سنة 1181 عندما ماتت زوجة الشاعر الأذري نظامي كنجوى وهي لا تزال في صباها، لم يملك أن يهديها الشاعر سوى ملحمة شعرية نظمها عن فرهاد وشيرين وجعلها هدية لذكرى زوجته، كما نظم الشاعر الأوزبكي نوفوي ملحمته التي اتخذت عنوان فرهاد وشيرين عام ،1484 هذه القصة سحرت الكثيرين للكتابة عنها، وكل كتابة تضيف أحداثاً جديدة، بيد أن العمود الفقري لها لبث عاملاً مشتركاً لجميع هذه الملاحم الأدبية.

 

التأخي