مدينة آمد.. تلك المدينة التاريخية والقلعة الصامدة والتي تعد بأنها قلب كوردستان الكبيرة، وفي كل رحلاتي الى الوطن الام تكون استراحة صفاء ونقاء وارهاق من كثرة السماع لقصص وحكايات الاهل والاصدقاء والاحاديث التي لا تخلو من العتب والدمدمة.
اتجول كثيرا في المدن القديمة في العالم وهي التي تجذب انظار السواح والزوار وانا اعتقد بأن البلاد التي لاتحافظ على مدنها القديمة وتاريخها وحضارتها فمن المستحيل ان تشيد وطناً وبلاداً!!.
خلال جولتي في الأزقة الضيقة في مدينة (آمد) وبعيدا عن القلعة التي كتبت عنها الكثير وهي من خلال الوثائق التاريخية والاعتبارات المتعلقة بالأسلوب يتبين أنها شيدت في عهد الإمبراطور الروماني قسطنطين، وصلت الى بيت اثري مشيد من قطع صخور البازلت الاسود ويعتقد البعض بان هذه الصخور قد تكومت في المدينة نتيجة براكين الجبال ووصولها لغاية نهر دجلة ووقتها انطفأ البركان.بيت اثري من طابق ارضي وطابق واحد وفي احدى الازقة الضيقة بين العاب الصغار واغانيهم.. طرقت باب القصر الساحر المشيد من الازمنة المنصرمة ،شرفات القصر في الطابق الارضي تحتفي بصور عمالقة الفن والادب الكوردي مثل موسى عنتر واحمد قايا وجكرخوين وكل صورة على مذياع قديم للدلالة بأن هدير اصواتهم لن يهدأ ابداً ولن يتوقف. في الطابق الارضي تحف وهدايا وتذكارات للسواح الذي يطرقون ابواب القصر المكون من عدة حجرات وليس من السهولة العثور على هذا الدار الذي يرجع تاريخه الى قرون وعوائل الارمن التي قطنت (آمد). في احدى الحجرات حيث اكثر من 3 آلاف قرط تحكي حكايات واساطير المدينة والكورد وهذه الاقراط قد جلبت من بلاد بعيدة وقد حدثتني عاملة المحل بالزازاكية ولكنها استعانت بالآنسة (زيلان) التي حدثتني بالكرمانجية بأن لهم معاملاً في تركيا للنقوش وهذه النقوش انعكاس لحضارة وثقافة (آمد) وكذلك اردفت في حديثها بشغف عن مهنتها.قصر(ايلكيز) حكاية من حكايات الزمن الجميل. التقيت بالصحفي والكاتب الكوردي(هوزان امين) في القصر، صحفي ترك بصمات جميلة في مدينة دهوك حيث امضى سنوات من عمره فيها ولكن احلامه توسعت ليستقر في (آمد) وليؤسس مكتبة جميلة اشبه بمتحف صغير في القصر وسماها بدار الكتب الكوردية وحلمه بأن ينشر ثقافة شعبه وبلاده في كل اجزاء كوردستان ولهذا وجدت الكتب بكل اللغات واللهجات ولكنه لم يخلو من العتاب ايضا على رواد المكتبات وعدم الاقبال المنشود على الكتاب بشكل عام ولكنه غير ميؤوس من زرع بذرات الامل لعشاق اللغة والباحثين عن الادب الكوردي والكلاسيكي وتاريخ مدينة(آمد). هوزان امين كتلة من مشاعر نقية وروح طيبة ونشاط كثيف يرمز الى التسامح والتقارب بين الجميع واردف قائلا حول مكتبة (آمد) انا سميتها بدار الكتب الكوردية وتحدث لي عن معاناتهم مع الالف باء الكوردية والتي تكتب باللاتينية والاحرف العربية وحول هذا الحديث التقيت مصادفة استاذ اللغة (د.بابى نازى) في (آمد) وكان الحديث ايضا حول اللغة ،فالحديث حول اللغة يحتل مساحات شاسعة بين الادباء الكورد في الداخل والمهجر. هوزان امين عازم على جلب الكتب بالاحرف العربية لاغناء مكتبته من جنوب كوردستان ويتمنى ان تسعى وزارة الثقافة والمؤسسات الثقافية بدعمه وتزويد مكتبته من اجل ارساء حب التآلف بين الكورد والآخرونشر ثقافة شعبه وكذلك له طموح اكبر بأن يغدو فناء القصر مكاناً لاقامة الامسيات الثقافية وتتخطى الى احتفاليات توقيع الكتب الكوردية الجديدة ودعوة الضيوف من اجل ان يكون للكورد مكانة كبيرة في كوكبنا.
فتاة رقيقة وكأن الشمس تشرق من ابتسامتها بين جدران سميكة حيث الصراع بينهما ليكون الشاهد الوحيد هو(فن الخزف) السيراميك على صراعهما ولكنها تنتصر بفن جميل على فن الخزف والمعروف ما قبل التاريخ ولكنه اليوم وفي قصر (ايلكيز) يتجدد بأنامل الفتيات الجميلات ولتكون بصماتهن انعكاس لحضارة وثقافة هذه المدينة الكوردية والشعب الكوردي والتقاء الثقافات والحضارات والاديان والعادات والتقاليد والرموز على اعمالهن وقالت لي الانسة( فوندا) بانها تعشق فن الخزف بشغف لانها تزرع الروح في الطين وينبعث الطاووس مزهواً بريشه بين احضان القصر ليكون شاهدا على ابداع هذه الفنانة الشابة الرقيقة.
بجنب قصر (ايلكيز) يقع قصر المطربين الكورد (مالا ده نك بيزين كورد) وكم سعدت بزيارة هذا المكان الساحر الذي يطرق عوالم الفنانين الكورد الراحلين والاحياء وتحدث لي احد العاملين في الدار( محمد كوزه ل) عن الدار بانه يعمل فيه منذ 30 عاما ويعرف الفنانين عن قرب وله علاقات متينة ورائعة مع المطربين بالرغم من انه ليس مطرباً ألا انه يعشق الفن الكوردي بحرارة وقال بأن الزوار يترددون بكثافة كبيرة للاستمتاع بالاغاني الكوردية في الدار. يفتح القصر بوابته من الساعة 9 صباحا ولغاية 6 مساءً ويقدم الشاي مجاناً للزوار عكس بعض القصور التي تطلب ثمن تذكرة الدخول.افتتح المشروع من قبل مشاريع الاتحاد الاوربي للتنمية مع تركيا ووزارة الثقافة وبلدية (آمد).
تقدم الاحتفالات والكونسيرتات مجاناً ويعتمد القصر على اعمال الفنانين الكورد فقط ولانه دار المطربين الكورد. بالاضافة الى عمل السيد (كوزه ل) في الدار الا انه فنان مسرحي وسينمائي وقد عمل مساعداً للمخرج والتصوير والافلام والوثائقية. يرجع تاريخ القصر الى ايام الامبراطورية العثمانية ومشيد من صخور البازلت الاسود.
خلال جولتي في القصر وفنائه الجميل وبلاط الفناء شاهدت صور المطرب الراحل( ارام تيكرام) حينها بدت علامات الحزن على وجه (كوزه ل) وقال لي بمرارة بان اخر حديث مع المطرب الراحل حين قال له وهو على فراش المرض عبارته التي هزته: انا خدمت الكورد 53 عاما في الغناء فهلا بقيت معي ليلة واحدة في المشفى؟؟
صور المطربين والفنانين الكورد انتشرت بكثافة على حيطان الدار القديمة ومنها (ارام تيكرام وكربيتى خجو واخرون)..نزهة رائعة بين اسوار مدينة (آمد) وازقتها الضيقة وقصورها القديمة التاريخية ولكن يظل صوت الكورد مدوياً في آفاق السحر والجمال والتسامح وتظل (آمد) شعلة الكورد المتوهجة.
/النمسا ـ صوت الآخر عدد الاربعاء 22-5-2015.