تحتفظ الذاكرة الشعبية للسوريين بأسماء كردية بارزة في ميادين مختلفة، تلك الأسماء والشخصيات خدمت المجتمع السوري بكل مكوناته وبكل إخلاص، ولا يخلو ميدان من ميادين الثقافة والفن والسياسة والعسكر وميادين النضال من أجل حرية وتقدم سوريا منهم.
و سنسلط الضوء في هذه المقالة على شخصية خدمت السوريين وخاصة أبناء كردستان سوريا في أربعينات وخمسينات القرن الماضي في مجالات عدة من الثقافة والسياسة ولكن احتفظت الذاكرة الشعبية باسمه كطبيب يوم لم يكن في المنطقة كلها أطباء وإن وجدوا كان يمكن عدهم على أصابع اليد الواحدة.
إنه الدكتور أحمد نافذ زازا، الذي ورد اسمه في قصائد الشعراء وأغاني المطربين الشعبيين لما كان يقدمه من خدمات طبية جليلة بروح مفعمة بالإنسانية والوطنية ومساعدة المحتاجين والفقراء والسعي الحثيث لتخليص مجتمعه من براثن الجهل والفاقة والعوز، فأمسى نجماً ساطعاً في سماء وطنه يقتدي بنوره أجيال وأجيال وما زال ذكره على الألسنة رغم وفاته قبل أكثر من نصف قرن.
ولد أحمد نافذ في مدينة مادن التي تتوسط ولاية آمد (ديار بكر) وولاية العزيز في كردستان الشمالية في عام 1899 لأب غني ومقتدر. كان أبوه يوسف بك زازا باشا، أحد أكبر شخصيات المدينة وعلى قدر كبير من المعرفة بالعلوم الدينية والأدبية وإليه يرجع حل الكثير من مشاكل وأمور المدينة، اعتنى بولده أحمد نافذ جل الاهتمام وكان حريصاً أشد الحرص على تعليمه العلم والأخلاق والوطنية.
أنهى نافذ وهو الاسم الذي سيعرف به لاحقاً وتحتفظ به الذاكرة الشعبية مسقطاً اسم أحمد ومحتفظاً بنافذ فقط، ويسمى الكثير من مواليد أهل وطنه وبالأخص الكرد منهم باسم نافذ تيمناً واحتراماً لطبيبهم الذي سخر جل حياته في خدمتهم. كانت دراسته الابتدائية والثانوية بين مدينتي مادن وآمد، ثم أرسله والده إلى اسطنبول لدراسة الطب، وبالإضافة إلى دراسة الطب، التحق نافذ بالحركة القومية الكردية التي كانت قد انتعشت في ظل تدهور أوضاع الخلافة العثمانية وتوجه العنصريين الأتراك إلى تتريك الدولة ومحاربة كل ما هو غير تركي، مما أنعش الآمال القومية عند العرب والكرد والأرمن وغيرهم.
قضى نافذ أيامه في اسطنبول بين قادة الفكر والسياسة من بني قومه أمثال البدرخانيين وأبناء الباشوات كأبناء جميل باشا ود. فؤاد حاج إبراهيم وسواهم من الذين أنشأوا الجمعيات والأحزاب إلى جانب تفوقه في دراسة الطب ليغدو طبيباً ماهراً لمحاربة أمراض الجسد وأمراض المجتمع من الجهل والتخلف على حد سواء.
مع الانتصارات التي حققها الكماليون الأتراك في الأيام والسنوات الأخيرة من عمر الخلافة العثمانية وإلغاء مخرجات اتفاقية سيفر التي وقعت في منتصف عام 1920 وإعلان اتفاقية لوزان التي أنكرت كل الحقوق التي حصلها الكرد في معاهدة سيفر، وإعلان تركيا جمهورية تركية لا حياة لغير الأتراك فيها، انتفض الكرد وأعلنوا الثورة تلو الأخرى، كانت البداية مع ثورة الشيخ سعيد بيران، حيث اشترك فيها د. نافذ مع إخوته ووالده وأفراد عائلته.
ومع القضاء على الثورة وفشلها في تحقيق أهدافها وقمع الناس في كردستان بطرق وحشية، بدأت قافلة الهجرة من كردستان. وزج بالآلاف في السجون ومنهم د. نافذ ووالده، ثم أفرج عنهم في عام 1928.
وبعد أن تم القضاء بوحشية على ثورة آكري بقيادة إحسان نوري باشا أيضاً، كان معظم قادة الحراك الكردي قد التجأوا إلى المناطق الكردية في سوريا (كردستان – سوريا) التي كانت تحت حكم الاستعمار الفرنسي، وبما أن العلاقات بين فرنسا وتركيا الكمالية قد تحسنت وقل الدعم الفرنسي للكرد على طرفي الحدود، فقد فرض الفرنسيون على قادة الكرد الإقامة الجبرية في دمشق لتكون بعيدة عن الحدود السورية التركية التي قسمت كردستان بين الدولتين المستحدثتين، تلك القيادة التي أسست حزب خويبون (الاستقلال)، وكان نافذ على علاقة مع أغلبهم مما سهلوا له ولأخيه نور الدين الذي كان في عمر الحادية عشر من دخول سوريا من بوابة حلب وكان ذلك في أيلول من عام 1930. (أصبح نور الدين زازا رئيس أول حزب كردي في سوريا لاحقاً).
سكن نافذ مع أخيه الصغير دمشق في ضيافة الشخصية الوطنية علي آغا زلفو وحسين بك ايبش و التحق بكوكبة اللاجئين الكرد في دمشق ليصبح عضواً في حزب خويبون. ثم افتتح عيادة في حي العرنوس الدمشقي وبنفس الوقت ترأس جمعية مساعدة الفقراء الكرد في الجزيرة.
في عام 1932 حصل د. نافذ على رخصة مزاولة مهنة الطب من الحكومة الفرنسية، وبعدها أصبح بإمكانه فتح عيادة أينما يريد، وكان بإمكانه أن يبقى في دمشق ويمارس عمله كطبيب بعيداً عن مشاكل وتعقيدات القضية الكردية ولكنه آثر الانتقال إلى قرية عين ديوار في المثلث الحدودي بين سوريا والعراق وتركيا، و صار يعمل في أقصى البلاد حيث لا خدمات ولا مدن، وتعاني المنطقة من الفقر والعوز والجهل بعد تقطيع أوصال البلاد وقطع تواصل السكان مع المناطق الحضرية في الشمال. ومن هناك بدأ رحلة نضاله ضد الأمراض المعدية كالكوليرا والتيفوئيد وغيرها التي كانت تفتك بأهل المنطقة وأصبح اسمه أشهر من نار على علم.
بعد ذلك انتقل إلى مدينة القامشلي في بداية الأربعينيات من القرن الفائت وتابع فيها عمله متنقلاً بين المدن والقرى لخدمة مرضاه إلى آخر حياته.
يعتبر د. نافذ أول طبيب كردي كتب باللغة الكردية بالأبجدية اللاتينية في مجلة هاوار التي أصدرها في دمشق الأمير جلادت بدرخان، إذ كان يكتب فيها زاوية طبية متحدثاً عن أوضاع أهل كردستان سوريا المزرية من الناحية الطبية وكيف يلجأ الناس إلى رجال الدين والسادة وغيرهم ليشفوا أمراضهم.
استمر نافذ في عمله بكل إخلاص مساعداً الفقراء لدرجة أنه كان يمنحهم حق الدواء ويعفيهم من دفع الكشفية، وحاول كل جهده مع الحكومة الفرنسية لإرسال المواد الطبية والأدوية الضرورية إلى المنطقة، ويعود له الفضل في القضاء على مرض الكوليرا الذي كان منتشراً وقتها في أرجاء المدن.
في عام 1950 تزوج د. نافذ من سيدة مسيحية ليجسد حتى في زواجه طموحه ورؤيته المختلفة والحضارية إلى بلد حر وديمقراطي لا حواجز أمام أبنائه في العيش الكريم وفي ظل قوانين مدنية ومتطورة.
ذكره الشاعر الأشهر بين كرد سوريا جگرخوين في أشعاره مسمياً اياه بطبيب الوطن، وذكره الشاعر أحمد نامي كذلك في أشعاره مثنياً عليه وعلى نضاله الدؤوب لخدمة الوطن، كما ذُكِر اسمه في الأغاني والحكايات الشعبية.
انتقل د. نافذ في عام 1968 إلى بيروت ليتعالج من المرض الذي ألم به قبل سنين، وهناك انتقلت روحه إلى الخلود الأبدي في المشفى الأمريكي ببيروت. رحل نافذ في بيروت ولكنه دفن في قرية دوكر شرق القامشلي إلى جانب العديد من رفاق دربه، لتبقى سيرته على لسان كل مكونات وطنه، سيرة رجل خدم بني قومه وخدم الإنسانية أينما حل وارتحل.
________________________________________
إدريس حسو
كاتب ومترجم كردي
مجلة كوردستان بالعربي