ست وثمانون درجة أرتقيها لأصل إلى باب حديدي ضخم ذي مصراعين يعلوه آيات من البيان الإلهي تنتأ حروفها من جدر سميكة جليلة، أجتاز البوابة وأسلك ممرات وعرة ودهاليز وقاعات وقناطر حجرية بديعة حتى أصل إلى مقام الخضر الرابض بجوار الأسدين: الضاحك والباكي،
أقرأ الفاتحة عليه، ثم أصعد إلى قاعة العرش المهيبة وأتخيل الملك الأيوبي الظاهرَ غازي بن صلاح الدين جالساً على كرسيه يمارس سلطانه ويحمي المدينة والأمة من الغازين البرابرة، أطيل النظر في الأوابد وألتقط صوراً لها ثم أغادر القاعة وأنحو شمالاً لأستحضر السلاجقة الزنكيين الأتراك في جامع إبراهيم الخليل والأيوبيين الأكراد في الجامع الكبير ذي المئذنه العلية والقبة البهية. أمعن البصر ملياً في الأسوار والأبراج داخل القلعة الشامخة أحسبها تنثر المدنية وتوشوش بالرومانية والعربية والتركية والكردية . ولا أنسى قبل المغادرة احتساء القهوة من حانوت الأخوة الثلاثة أولي االشوارب المميزة رفاعةً وطولاً.
على يمين مدخل القلعة يشدني شدوُ البلبل الكبير ينبعث لحنه من مقهى القلعة يصدح بالمقامات الأصيلة بصوته العذب الرنان منادياً:
حبيبي على الدنيا إذا غبت وحشةٌ ... فيا قمراً قل لي متى أنت طالعُ
لقد فنيت روحي عليك صبابة ... فما أنت يا روحي العزيزة صانعُ
أقتعد كرسيّاً خشبياً وأطيل في شرب الشاي عَلَلاً حتى تقضي آذاني وطرها من رحيق النغم وتنال نفسي غايتها من منظر القلعة المهيب, ثم أقوم وأسير باتجاه الشمال رمية حجرٍ وأدور يساراً وأنزل درجتين لأكون في سوق المدينة التراثي العريق بأزقته الضيقة وجمه الغفير وخلقه الكثير ودكاكينه الصغيرة وسقفه المغلق وأرضه المرصوفة بأحجار سوداء مربعة، وحيث لا مكان للآلة الحديثة أسمع حمحمة الخيول وخبيب سنابكها، لكأنها تعيدني إلى زمن الحمدانيين أو زمن الإسكندر ذي القرنين.
ألج البوابة الشرقية لجامع زكريا، أتأبط خفيَّ وأتوضأ في باحة الحرم ثم أدلف نحو المسجد وأصلي ركعتين وأدعو لوالدي وأنتظر آذان الظهر وتهافت المصلين على المسجد جماعات جماعات، ثم أخرج من الباب الشمالي أقصد ساحة باب الفرج، وحين أشم رائحة صابون الغار والزعتر البري وأسمع أغاني كردية فلكلورية من ستيريو الشرق الأوسط أتيقن أنني دنوت من مقصدي دون أن أرفع رأسي وأنظر إلى ما حولي، فعلى يميني دار الكتب الوطنية وبرج ساعة باب الفرج، الصرحان الحضاريان القائمان منذ أواخر العهد العثماني، وعلى يساري مطاعم شعبية يؤمها أهل الريف وبعض السواح الأجانب، ولكن معدتي لا تشتهي إلا فول أبي عبدو في السويقة التي تلي ساحة باب الفرج من جهة سوق التلل المشهور. ومن السويقة أعرج على العزيزية حيث الكنائس ونواقيسها المجلجلة تنعش روحي بالطمأنينة والمحبة والسلام وعشق الحياة .
ولا بد من الحديقة العامة، وهل يتم حجٌ دون صلاة! أدخل من حيث ينتصب تمثال أبي فراس الحمداني ، أحييه، ثم أتابع السير، يجذبني صوت كوكب الشرق من كشك الحديقة فأقاربه وأهنئ نفسي، أشرب كأساً دهاقا، ناظراً حولي وأرى ما ارى، حدائقاً وأعناباً، وكواعب أتراباً، نواهد، جميلات الثغور، ممشوقات القامة تدرو واثقات الخطى كأنهن حبات من اللؤلؤ .
دائماً ينتهي المشوار في الأشرفية بين الأهل والأصدقاء، أدورها صديقاً صديقاً، عيادة عيادة، أذوقهم عسلاً وأشمهم مسكاً، ودونهم تبقى الحياة ناقصة أيما نقص.
آه يا نفسي، هل سيتكرر مشواري هذا في المستقبل؟
بل هل سلمت القلعة من غزو هولاكو وبراميله المتفجرة؟
وهل بقي آذان في جامع زكريا؟
وهل لا زالت أجراس الكنائس تقرع في العزيزية؟
وهل من خبز في مطعم أبي عبدو الفوال في السويقة ؟
آه أيتها المنكوبة هل لنا لقاء في قادم الأيام؟