أثار الفيلم الوثائقي "أكراد طوكيو" لمخرجه الياباني فومياري هيوغا جدلا واسعاً لم تنتهِ تداعياته حتى الآن، فقد استفز موضوعه الحكومة التركيّة وأرّقها لعرضه والاحتفاء به في العديد من المهرجانات السينمائية الدولية لأن ثيمته تتمحور حول القمع والاضطهاد والتمييز العنصري الذي يتعرّض له كرد تركيا، الأمر الذي يدفعهم إلى الهجرة ليس إلى بلدان أوروبا القريبة نسبياً وإنما إلى مشارق الأرض ومغاربها من أجل أن يعيشوا حياةً حرةً كريمة لا ينغصها الاستبداد، ولا يربك هدوءها زوار الصباح،
ففي عام 2019م قَدِم إلى اليابان 10,375 مواطناً من جنسيات مختلفة طالبين حق اللجوء ولكن دائرة الهجرة اليابانية قبِلت 44 شخصاً فقط؛ أي أنّ نسبة القبول لم تتعدَ 0, 4 % من المتقدمين بطلبات اللجوء؛ وهي نسبة ضئيلة جداً ولا تتناسب مع بلدٍ حضاري متقدّم يمتلك ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية.
وفي التسعينيات من القرن الماضي قَدِم إلى اليابان 2000 لاجئ كردي يحملون الجنسية التركية استقرّ منهم قرابة 1500 مواطن في العاصمة طوكيو والمناطق المُحيطة بها، بينما توزّع البقية في مدنٍ يابانية متناثرة، وعلى الرغم من مرور سنوات طوال على إقامتهم في اليابان إلا أنهم لم يحصلوا على الإقامة الشرعية التي تتيح لهم حق العمل لتأمين هاجس العيش لهؤلاء اللاجئين الذين فرّوا من السجون والمعتقلات وما يكتنفها من تعذيب تقشعّر له الأبدان.
تركز ثيمة الفيلم على ثلاث شخصيات رئيسة وهم أوزان (18 عاماً)، ورمضان (19 عاماً) و ممت (38 عاماً)، وتقف خلف هذه الشخصيات ثلاث أسر كردية تسعى كلها للحصول على الإقامة الرسمية، وتصاريح العمل كي يوفروا النقود اللازمة للعيش في العاصمة اليابانية طوكيو، درس المخرج هيوغا كل شخصية على انفراد متتبعاً هواجسها، وأحلامها، وطريقة تفكيرها، فوالد "أوزان" جاء مع زوجته سنة 2000، وقدّم خمسة طلبات لجوء متتالية، لكنه كان يُرفض في كل مرة، بل إنه أُحتُجز من قِبل دائرة الهجرة لسنتين ونصف السنة، وظل يعمل بطريقة غير قانونية طوال هذه السنوات كلها، يعتمد المخرج على تقنية الاستعادة الذهنية ليتيح لنا فرصة التعرّف على ماضي والد أوزان (48 سنة) فنفهم أنّ صديقه كان ناشطاً كورياً قتلته القوات التركية، كما كان عمّه ناشطاً سياسياً فقبضوا عليه وأودعوه في السجن وقلعوا أظفاره، وحينما خرج هرب إلى ألمانيا وتلقّى العلاج لم يجد الأطباء بُداً من قطع أصابع يديه وقدميه، فشعر والد أوزان بالخوف والترهيب، وغامر بالهجرة إلى اليابان على أمل الحصول على اللجوء السياسي أو الإنساني في أضعف الأحوال، لم تكن علاقة الوالد بابنه أوزان جيدة، ولا يعرف كيفية التواصل معه بسبب صراع الأجيال، فالأب لا يزال متمسكاً بعاداته وتقاليده القروية بينما انفتح أوزان على أحدث الصرعات في الأزياء والموسيقى والغناء، ولأنه كان يُتقن اللغة اليابانية أراد أن يُصبح ممثلاً هزليا يمتّع الناس وقد تجاوز اختبارات الكفاءة وتجسيد التعبيرات التي تتعلق بالخوف والدهشة والغضب والفرح والحزن وما إلى ذلك لكنه فشل في الحصول على تصريح العمل، فلم يجد مفراً من العودة لعمله الشاق في تقويض المنازل والأبنية القديمة. لم تكن علاقة أوزان بأبيه جيدة فقد ارتبكت في الأيام الأخيرة ووصلت إلى حد القطيعة، ولم يجد حرجا في القول بأنه يكرهه ولا يريد الحديث معه البتّة، كما أنّ أزمته النفسية قد تفاقمت وبدأ يشعر بالدونية والاحتقار لنفسه حتى بات يقول: "أنا أحطُّ من بقّة، وأقلُ من حُثالة"، خصوصاً بعد أن اعترف بتردده وخشيته من العودة إلى وحدات الحماية الشعبية الكردية في سوريا لمقارعة الإرهاب، يطرح أوزان سؤال الهوية والانتماء: فهل هو كردي أم تركي أم ياباني؟ فيأتينا الجواب رغم ضبابية تفكيره بأنه كردي تركي شاء أم أبى ذلك.
يمثّل "رمضان" الشخص المفعم بالأمل رغم صعوبة العيش في بلدٍ يُطارد اللاجئين والمُهاجرين إليه، ويجيد التركية والكردية والإنكليزية واليابانية، وهو يدرس الترجمة الفورية لكي يُصبح مترجماً فورياً بعد أن يحصل على الإقامة ورخصة العمل وعلى الرغم من مرور هذه السنوات الطويلة لا يزال يكافح من أجل الفوز بقضيته القانونية والتشبث في البلد الذي أحبهُ وتعلّم لغته.
أما الشخصية الثالثة فهو محمد أو "ممت" كما يُلفَظ بالتركية ويبلغ من العمر 38 عاماً، إذ قبضت عليه السلطات الأمنية بعد أن عاش 16 عاماً في هذا البلد، ووضعته في الحجز الذي استمر لمدة 520 يوماً خرج إثرها مطأطئ الرأس وهو جالس على كرسي متحرّك لا يستطيع أن يرفع رأسه أبداً مكتفياً بالقول بصوت مهموس: "أنا أموت"!
يفشل أوزان في الحصول على الإقامة لكنه يعاود العمل بشكل غير شرعي في تقويض البنايات والمنازل، ويستعين "رمضان" بأحد المحامين الذين يعِدونه بالحصول على الإقامة ورخصة العمل لكنه يظل عُرضة للحجز أو الترحيل، أما "ممت" فيخرج من الحجز وهو أقرب إلى الإنسان المحطّم والمُعاق لكن زوجته وأطفاله يخفّفون عنه وقع المحنة التي تعرّض لها في أشهر السجن الطويلة.
ثمة لمسات في قصة الفيلم تحيلنا إلى أعياد نوروز حيث تلتقي الجالية الكردية في أحد المتنزهات وتقيم حفلاً كبيراً يحضره غالبية المواطنين الكرد، ولعل أهم ما في هذه المناسبة هي الرسالة التي يوجهها الناشطون الكرد إلى الحكومة اليابانية ويطالبونها بإخلاء سبيل المحتجزين الكرد الذين غُيبوا في السجون اليابانية وحُرموا من نعمة اللقاء بزوجاتهم وأطفالهم لا لشيء وإنما لأنهم كانوا يحلمون بالحرية والعيش الرغيد فهربوا من جحيم السجون التركية وعذابها المرير ليجدوا أنفسهم في السجون اليابانية الأكثر عُزلة وقسوة وفظاظة وكأنهم كانوا يستجيرون من الرمضاء بالنار.
عدنان حسين أحمد– جريدة الصباح