يعد الأدب الكردي، المكتوب بغير اللغة الأم، حالة استثنائية، وقد نشأ في ظل ظروف اضطرارية، نتيجة صناعة خرائط الدول التي تقتسم- كردستان- إذ توزعت كردستان بين أربع دول هي: سوريا- العراق- تركيا- إيران،
بالإضافة إلى كردستان الحمراء. ذات المسرح الشسيع من المؤامرات على كرد المكان، قبل وبعد جريمة جوزيف ستالين الذي أجهز عليها بعد العام 1924، الأمر الذي جعل الأدب الكردي المكتوب بغيراللغة الأم متوزعاً بين ثلاث لغات هي: العربية في كل من سوريا والعراق- والتركية والفارسية، وهو ما بات يؤثر على الأدب الكردي منذ قرن من الزمن، في أقل تقدير، أي منذ نشوء هذه الخرائط المصطنعة التي باتت كل دولة مقتسمة للجزء الكردستاني الذي ألحق بها تفرض لغتها الرسمية، والتي ستكون لها آثار بعيدة المدى، إن كان ذلك في المدرسة، أو مكان العمل، أو الشارع، أو الدائرة الرسمية، وثمة الكثير الذي كتب في إطار رصد سياسات التعريب أو التتريك، على نحو استراتيجي، على الأدب الكردي، ضمن إطار مجمل خصوصياته وثقافته،
إذ تم إنتاج أدب كردي باللغات الثلاثة المشار إليها، منذ تلقي الكردي ضمن انتمائه الجغرافي المصطنع تعليمه باللغة الرسمية في هذه الدولة أو تلك، في ظل محاربة لغته الرسمية، سواء أكان ذلك في إطار سياسة التتريك أو التفريس أو التعريب، ما جعل المبدع الكردي- وكلمة المبدع تعني هنا الشاعر كما القاص أو الروائي أو المسرحي- بالإضافة إلى الصحفي الذي يكتب في حقل خاص لا يندرج ضمن الإبداع، في مفهومه العام، باستثناء الحقول التي يتم نشرها في وسائل الإعلام، وقد تتضمن نصوصاً تنتمي- في الأصل- إلى الأدب والإبداع- على سبيل الصحافة الثقافية!
وإذا ضَّيقنا مجال الاستعراض- هنا- إلى الأدب الكردي المكتوب بالعربية، فإننا أمام واقع هذا الأدب عينه في كل من: سوريا والعراق، وإن كنا سنجد أن واقع هذا الأدب في سوريا مختلفاً عن واقعه في العراق الذي شهد مرحلتين، أولاهما بدأت مع اتفاقية الحادي عشر من آذار 1970، والثانية مع انتفاضة آذار 1991، إذ تم التعلم باللغة الأم، في المرحلة الأولى، وخصص في الجامعات فرع الأدب الكردي، إلى جانب إصدار الصحف والمجلات ووجود إذاعة كردية باللغة الكردية، وإن كان الحرف- الآرامي/ العربي- هو المعتمد، كما لدى كرد إيران، بينما يتم اعتماد الحرف اللاتيني لدى كرد كل من سوريا وتركيا.
الكرد في سوريا
أطوار دورة محو الهوية:
بلغت سياسات النظام العنصري في سوريا، في مجال التعريب أقصى أمدائها، من خلال فرض ثقافة أحادية، مقابل الحرب على كل ما هو غير عربي، ولاسيما فيما يخص هوية الكردي التي أعلنت الحرب عليها، واعتبار الكردي مشروع نواة إسرائيل ثانية، في تعريفات دهاة عنصرييه، ليس بشكل شفاهي، متداول، فحسب، وإنما كان ذلك يجيء على ألسنة كثيرين من هؤلاء، ما جعل صورة الكردي مشوَّهة، وأصبح الكردي محارباً، مؤلَّباً عليه، ومورست سياسات التمييز بحقه، وبات على الطفل الكردي أن يواصل تعليمه عبر هذه اللغة المفروضة عليه، يتلقى تعليمه عبرها، خلال مراحل دراسته، منذ سن الحضانة وحتى نيل درجة الدكتوراة، إن توافرت له ظروف توافر استكمال دراسته، في مواجهة الظروف الصعبة، بدءاً بعامل اللغة والظرف الثقافي تحت نير آلة القمع، وانتهاء بعوامل تجاوز التحديات واستكمال التعليم.
وإذا تحدثنا، هنا، عن الكتابة لدى الكاتب الكردي، فإننا لنجد أن أكثر هؤلاء اضطر إلى إنتاج الأدب في المجال المتخيَّر من قبله، باللغة العربية، ما عدا حالات جدّ قليلة، لاسيما قبل العام 1991، بعد تأسيس تجربة- إقليم كردستان- تدريجياً، وهبوب رياح الشرق على غربي كردستان، أو" روج آفايي كردستان" من جنوبها ، إذ تم إصدارمجلات مستقلة باللغة الكردية الأم، إلى جانب مجلات كانت تصدر عن جهات حزبية، ولسنا في صدد استعراضها، إلا إنها راحت تلقى صدى واسعاً، بين أوساط الشباب الكردي، بعد أن كانت هناك نويات منتديات ثقافية، منذ ثمانينيات القرن الماضي، كانت تقام في البيوت، وتقرأ فيها القصائد والقصص وحتى المحاضرات باللغة الكردية الأم، إلى جانب اللغة العربية أو الآشورية كما في" منتدى الثلاثاء الثقافي" 1982، وهكذا منتدى التقدمي، أو غيرهما من المنتديات والملتقيات التي كانت تقام في البيوت، وقد آزر هذه الحالة وصول الكثير من المطبوعات باللغة الكردية الأم من إقليم كردستان، وظهور تلفزيونات كردية تم فك الحصار عن اللغة الكردية، إلا إن هؤلاء الذين نشروا إبداعاتهم باللغة الأم ظلت متأثرة، بالثقافة العربية، في الدرجة الأولى، بالإضافة إلى تأثرها بالأدب المترجم الذي كان يصل- في أكثره- عبر اللغة العربية، في حدود معايشتنا وتفاعلنا اليومي، مع هؤلاء المبدعين!
خيارا الكتابة أو اللاكتابة
لقد عانى الكاتب الكردي الذي كتب بلغته الأم، نتيجة الثقافة الأحادية المفروضة من انحسار دائرة قرائه، منذ بداية انتشار منابر الصحافة وإصدار الكتب باللغة الكردية الأم، وهذا ما جعل الكاتب الكردي الذي كتب ويكتب باللغة العربية أكثر مقروئية وانتشاراً. صحيح أن القصيدة أو القصة المكتوبتين باللغة الكردية كانتا تبدوان أكثر تأثيراً في متلقيهما ابن هذه اللغة، في هذه الأمسية الأدبية أو تلك، لمخاطبتهما وجدان هذا المتلقي فائض المشاعر والظامىء تجاه كل ما يمت إلى قوميته نتيجة مقموعيتها تحت نير أنظمة الاحتلال، و نتيجة بساطتهما- لاسيما في أطوارهما الأولى- إلا إن مثل هذه القصة أو تلك القصيدة ما كانتا لتقرآن، من قبل جمهرات المتلقين، نظراً لضعف القراءة باللغة الأم، ومن هنا فقد كانت الكتابة بهذه اللغة مغامرة من لدن المبدع الكردي، وهذا- تماماً- ما كان يدعو بعض هؤلاء يكتب باللغتين: الكردية والعربية في آن واحد- أنى استطاع ووفق- بالإضافة إلى إن بعضهم، في حالات نادرة، كان ولايزال يترجم ما يكتبه إلى العربية، أو العكس، حفاظاً على دائرة القراءة، ونجاح عملية الإيصال!
الكتابة بغير اللغة الأم
لقد استطاع الإبداع الكردي، في حقول: الشعر- القص- الرواية- المسرح- رغم قلة الكتابة في مجال المسرح ماعدا أسماء محددة إذا اتخذنا عامل النشر لا المسرحة والتمثيل معياراً- أن يكون، عند كثيرين من المبدعين الكرد، صدى لعوالمهم وأرواحهم، إذ ظهرت في نتاجهم الإبداعي خصوصيتهم من خلال: رموزهم وألمهم وأحلامهم، بل وبيئتهم، إذ لم يقتصر تأثير هذا الإبداع في جمهرات القراء الذين ينتمي إليهم هؤلاء المبدعون، فحسب، وإنما بات ذلك يدعو الرقيب يتخذ موقفه من هذه الإبداعات، وتتم محاربتها من قبل دوائر عنصرية راحت توظف بعض أدواتها لممارسة دور الرقابة على هذا الإبداع، ليتم تغييبه عن النشر الرسمي، وإعدامه، بعد إدراجه على قائمة الممنوعات المعادية، حتى وإن كان نصاً محض جمالي، ناهيك عن التضييق على كثيرين من هؤلاء، ما جعل أكثر الكتب التي طبعت لهؤلاء تصدر عن طريق دور نشر خاصة، أو من دون موافقة طباعة رسمية، وهذا ما يدل على تشكل هوية الأدب الكردي باللغة العربية التي تستفز الرقيب وموظفيه، ما عرض كتاباً كثيرين إلى التضييق عليهم، ومحاربتهم في لقمتهم، لنكون أمام أدبين بهذه اللغة: أدب منتم إلى ثقافة ووجدان هذه اللغة، وإن كان له موقفه من الاستبداد، كما في حالات قليلة، نظراً لقوة شوكة- الدكتاتور- وأدب مكتوب بهذه اللغة ذاتها، إلا إن له عالمه، وأسئلته، التي تجعله متمايزاً عن أولهما.
كما إن المتلقي الكردي- في إطار النخبة وحتى العوام- يعنى إلى حد بعيد بالإبداع الكردي المكتوب باللغة العربية، ويرى فيه مجسداً لروحه، ورؤاه، في مواجهة آلة الظلم التي كانت تستهدف وجوده، وكانت قصائد أو قصص بعض المبدعين: شعراء أو كتاباً، تصور، فوتوكوبياً، ويستظهرها، ويتداولها طلاب وطالبات الجامعة، أو أوساط القراء المتابعين، لاسيما في بعض المحطات الزمنية، ويتم التباهي باستظهار مضامينها، وهكذا بالنسبة إلى الرواية أو المسرح أو حتى المقال، فيما بعد، ما كان يدفع هذا النوع من الكتابة كي يصبح أكثر انتشاراً، لاسيما وإنه يقرأ في الوقت نفسه، من قبل القارئين: الكردي والعربي، في آن، وكانت بعض أوساط المعارضة، تبدي تعاطفها مع هذه الكتابات، وإن أظهرت دورة التاريخ انخداعنا بكثيرين، واعتبارنا بعضهم: أصدقاء للكرد، بينما تبين خطل ذلك، في أمثلة معروفة، لدى كل متابع، مقابل أصوات أصيلة مستوعبة لخصوصية شريك هذا الفضاء، وفق شروطه المستحدثة المفروضة.
وإذا كان هناك مبدع كردي، يكتب بلغته الأم، فإن بعض هؤلاء، ونتيجة ردة فعل تجاه المبدع الذي يكتب باللغة الأم، يذهب إلى دعم رؤيته بأسانيد تظهر تمايزه، بعكس هذا الأخير، واعتبار ما يكتب باللغة الكردية أدباً كردياً، كيفما كانت القيمة الجمالية لهذا الأدب، ومن ثم اعتبار ما يكتب بغير اللغة الأم أدباً ينتمي إلى مكتبة اللغة التي كتب بها: عربياً كان أم فارسياً أم تركياً، ليواجهه المبدع الذي يكتب بغير لغته الأم بالحديث عن أدباء عرب أو عالميين، كتبوا بغير لغتهم الأم، وقد أفادوا شعوبهم، وحسبت إبداعاتهم لمكتبات شعوبهم، وللإنسانية، ناهيك عن جملة مسوِّغات أخرى، من بينها: إمكان الأدب المكتوب بغيراللغة الأم إيصال صوت الكردي- جمالياً- إلى قراء غير كرد، بالإضافة إلى القارىء الكردي، وهكذا بالنسبة إلى تمكن ما يكتبه من فرض ذاته في ساحة أخرى غير ساحته وبلغة تلك الساحة، إلى درجة استدراج القارىء غيرالكردي إلى الاعتراف بهذا الأدب، مقابل الاستشهاد بأمثلة غير ناضجة من الأدب المكتوب باللغة الأم- كان هذا قبل عقود وقبل نضوج أدب حقيقي باللغة الأم- والتباهي بأن الكتابة بجمالية عالية بأية لغة كانت أكثر أهمية من الكتابة غير الناضجة، إذ كانت هناك عقدة لدى كل طرف تجاه الآخر، ضمن نطاق من لا يرى غير ما يكتبه في خدمة أدبه، في الوقت الذي كنا نجد أصواتاً أكثر اعتدالاً واستيعاباً للمرحلة العابرة، ألا وهي أن لكل من هذين اللونين الكتابيين دورهما، ولا طرفاً منه يلغي الآخر.
دواعي الكتابة بغيراللغة الأم
لم تكن الكتابة بغيراللغة الأم مجرَّد خيار لدى الكاتب الكردي الذي كتب بالعربية، أو الفارسية أو التركية، وإنما باتت مفروضة عليه، نتيجة سطوة هذه اللغات التي تعلمها منذ طفولته في مدارس هذه الدولة أو تلك التي منعت تعلم الكردي بلغته، وباتت الكتابة باللغات غيرالكردية لدى الكردي الذي يعيش في وطنه مفروضة عليه، ولا مناص منها، كما إن التحرر من إسار هذه اللغة الرسمية لم يكن يأتي إلا نتيجة جهد فردي، وقلما استطاع متابع الدراسة باللغة الرسمية أن ينشىء لذاته معجماً ذاتياً، تستوي فيه الكتابة باللغتين، بالقدر ذاته من السلاسة، ولا نعني هنا الحديث الشفاهي الذي قد يتفوق الكردي في مجال التواصل بلغته الأم بأكثر من التواصل باللغة الرسمية، إلا إن الكم الكتابي التعبيري الفائض باللغة الرسمية يجعل الكتابة بها أسهل من الكتابة باللغة الأم- بشكل عام- وإن كان بعضهم قد تخلص من هذه الهيمنة، في إطار تشبثه الكتابي بلغته الأم.
يضاف إلى كل هذا أن قارىء الكردية في ستينيات وسبعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي قلما كان يجد الوعاء القرائي بلغته الأم، إذ إن قلة من البيوتات الكردية توافرت فيها دواوين: الأحمدين المليين: الجزري 1570-1640 و الخاني 1670-1707 و من ثم جكرخوين 1903-1984- على سبيل المثال- لاسيما إن ضبط مثل هذه الكتب في أي بيت، كان يعرض صاحبه للاعتقال، وكأنه ارتكب جريمة كبرى، وكثيراً ما تحدثت عن تفاصيل بعض حالات الحرب على اللغة الكردية، من بينها تعذيب أحد عاملي المؤسسة الحديدية عن طريق- المكبس الكهربائي- *ما أدى إلى كسر عموده الفقري، ناهيك عن اعتقال من ضبط معه كتاب- الألفباء الكردية- وسجنه، وتعذيبه، وهذان المثالان غيض من فيض أمثلة العداء للغة الكردي وثقافته، بل ووجوده، ضمن إهاب خصوصيته المتمايزة، كحق إنساني مشروع!
ازدواجية الأدب الكردي
وطالما إن الحديث عن الكتابة بين لغتين هما: الكردية الأم والعربية، ضمن إطار جغرافي محدد، وفي ظل التعلم والدراسة بالعربية، فإن هذه الازدواجية جزئية. إنها جزء من ثالوث لغوي، أو حتى رابوع، إذا وضعنا كرد- كردستان الحمراء حتى العام 1925- ومن ثم: الانضواء ضمن أرمينيا المحدثة، بعين الاعتبار، ممن يتم تناسيهم وكانوا في مرحلة ما مركزاً ثقافياً تنويرياً، من خلال مجلاته وصحفه وقبل كل ذلك: إذاعة إيريفان، إذ إن ثمة أكثر من حيف وقع عليهم، منذ القرن التاسع عشر، في أقل تقدير. وما دمنا في إطار ازدواجية اللغة في إطار جغرافي محدَّد، يمكن أن يطلق المصطلح على كل جزء على حدة، فإن ازدواجية الأدب الكردي كانعكاس لازدواجية لغوية: اللغة الرسمية المفروضة ولغة البيت الممنوعة، الملغاة، المحاربة، فإن هذه الازدواجية لم تكن خياراً بالنسبة لمن وقع عليه الحيف، نتيجة واقع سياسي مرير، لما يوضع له الحد، بسبب- مخططات دولية- أقصي فيها الكردي عن مسرح الاعتراف به، من دون أن تتم أية مراجعة لرفع هذا الظلم الذي تجاوز مئويته.
وباعتبار اللغة الرسمية باتت لغة تلقي الثقافة، على حساب اللغة الأم، فإن اضطرار المبدع الكردي إلى الكتابة باللغة المفروضة عليه زوراً، والإنتاج الإبداعي المعرفي الثقافي بوساطتها، غدا إلزامياً. قسرياً، وهو واقع معروف من قبل المتابع: في الشأن الثقافي الأدبي والسياسي كما في حقل اللغات. هذا الواقع ملزم التفهم، ولا نقول: لابدَّ من تفهمه، وذلك باعتبار هذا الأدب قد استطاع أن يكون خزان وجدان المبدع الكردي الذي أنتجه في ظل ومواجهة واقع مرير- وأقصد الأدب الذي حمل رؤى وهموم وآمال إنسانه الكردي- وقد لعب دوراً أكثر فعالية. أكثر جدوى، أكثر أهمية في المنظور اليومي من الأدب المكتوب باللغة الأم الذي كان يكتب في جزء كبير منه- غالباً- بأسماء مستعارة، قبل أن تتاح ظروف الإعلان عن الذات، وكان موجهاً للكاتب الكردي، ولم يعرف حتى العام 1990 غير عدد من مبدعيه، منذ جلادت بدرخان 1893-1951 ومروراً بما يقارب بضعة أسماء، أو أزيد ممن نشروا نتاجاتهم في تلك المرحلة، وفق تقديري القابل للتصويب في حال مجافاة الواقع، مع ملاحظة أمر جد مهم ألا وهي أن بعض الأسماء الكردية الكبيرة في حقل الإبداع التي جاءت بعد مرحلة الشاعر جكرخوين لم تنشر نتاجاتها، إما بسبب عدم توافر الطباعة وأسبابها: نتيجة الرقابة والواقع الاقتصادي الصعب وكل هذا من ضمن مفردات واقع أليم، أو عدم إقدام بعض المبدعين على طباعة نتاجهم، نتيجة استبداد آلة القمع، وقد رويت لنا قصص كثيرة عن ضياع مخطوطات إبداعية لعدد من الأسماء الذين كانوا يعيشون ازدواجية أخرى: إذ إنهم شعراء وكتاب في وسطهم الكردي، وغير معروفين، أو غير معترف بهم، في وسط الخريطة العامة التي ابتلعت جغرافيتهم، ولعل هناك من لم يخلق ظروف انتشاره، وأستثني في هذا الموقع من قدم أغانيه للفنانين المغنين الكرد، بتواقيع أسمائهم الفعلية بالدرجة ألأولى أو دونها. إن من أعلن عن اسمه الحقيقي، في مواجهة آلة الاستبداد وعنى بذاته، من خلال تعلم الكردية، في مرحلة لم تكن متوافرة، بل ممنوعة- ما خلا مرحلة انتشار الصحافة الكردية على يدي جلادت بدرخان- فإن من حق من أصرَّ على نشر نتاجه باسمه: في أوعية النشر من صحافة أو حتى الكاسيت، مساءلة من لم يكتب بلغته الأم، وحتى اتخاذ حالة تموقع الرفض لهوية هذا النتاج، رغم عدم صمود هذا الطرح أمام محاكمة الواقع، في ظل معايير لحظة إنتاج هذه الكتابة، من دون أن ننسى أن هناك من وقع نتاجاته الإبداعية الشخصية المكتوبة باللغة الرسمية، باسم مستعار. هذه الحالات يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار، أنى تمت محاكمة النص الإبداعي الكردي المكتوب بغير لغته، ويمكن التوسع فيه من قبل أي دارس أو باحث، عبر استعراض الأسماء والنتاجات الأدبية، مع إدراك أمر جدّ مهم أن عدم طباعة النتاج الكردي بلغته الأم كان بحد ذاته أمراً مفروضاً، ماعدا حالات إقدام بعضهم على استنساخ نتاجاتهم بخطوط أيديهم في مخطوطات متعددة، وتوزيعها على النخب القارئة، في تلك المرحلة، وقد كان- الدكتيلو- الآلة الكاتبة قادرة على أداء هذا الدور رغم إنها كانت ممنوعة، وأن ضبطها في أي بيت كردي يؤدي إلى إنزال أشدِّ أصناف العقاب بحق مقتنيها. أتذكر أن نتاجات بعضهم، بالإضافة إلى بعض المجلات والصحف كانت تنشر بوساطتها، سواء أكان ذلك بتواقيع صريحة لمبدعيها أو بتواقيع مستعارة.
عوامل تكوين هوية النص
صحيح، أن الكتابة باللغة الأم مطلوبة في المقام الأول من الكاتب الكردي، وهذا ما أدركه جيل الرواد: جلادت بدرخان- جكرخوين، وغيرهما، لأكثر من داع، من بينها تلازمية اللغة والإبداع، وقد أكدت اللغة الكردية من خلال أمثلة مهمة إمكان استيعابها لروح الكردي، وأسئلته، وواقعه، من خلال غناها، وإن كان ثمة خوف حقيقي، الآن، على اللغة الكردية التي بتنا نفتقد جزءاً كبيراً منها، لاسيما إذا علمنا إن معجم اللغة الرعوية أو الجبلية بات مغيباً، وتكاد أجيال كاملة لا تعرف المفردات التي سمعنا أمهاتنا وجداتنا يستخدمنها أثناء حديثهن وقصصهن أو حياتهن اليومية، وقد فاقمت هجرة أو حالة تهجير ما بعد ربيع 2011 من هذه المأساة، وتكاد مفردات معاجم أبنائنا وبناتنا أو حفيداتنا وأحفادنا الذين تلقوا تعليمهم في هذا المهجر أو ذاك أن تكون جد ضحلة. إلا إن أمام هذا الواقع كله فإن اللغة في النص الإبداعي هي أداة إيصال، وإن في إمكان هذه اللغة أن توصل بحر مشاعر وأحاسيس المبدع المتمكن إلى متلقيه، وإذا كان هذا في مجال: القصة- الرواية- المسرح، فإن كتابة الشعر باللغة الأم ذات جد ضرورية، وقد بتنا نجد لاسيما منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي ظهور قصائد كردية باللغة الأم باتت تشكل ملامحها وهويتها.
ولطالما ذكرت مصطلح الهوية في النص الإبداعي، فإن في إمكان المبدع المتمكن تشكيل هوية بديلة لنصه، أو رفع نصه ليكون ذا هوية كردية كاملة، من خلال تفاعل مجمل جماليات النص ورؤاه ورموزه وأدواته لتطرح روحاً كردية، ذات علامة فارقة، غير ممكنة الضياع، وقد يكون ذلك أقرب إلى مفهوم- البذرة خارج الرحم- كي نكون أمام مولود متكامل، ذي صلة بوالديه، جيء به نتاج واقع اضطراري، و قد تتاح فيه و له ظروف التفوق على سواه، ممن خلق في ظروف طبيعية. إن اللغة في حقل الإبداع الكتابي- وخارج قداستها وضرورتها في ظل ظروف حاجة الكردي من دون سواه- مجرد أداة. لباس، يمكن الاستعانة بكساء آخر، أنى غاب الرداء الأصلي، وإن كان المبدع هنا في حاجة ماسة للاستعاضة عن غياب عنصر اللغة عبر تفعيل بؤر نصية أخرى، ليتم تلافي الخلل، وهو ليس مبذولاً بسهولة، وإنما يحتاج المزيد من الروح والموهبة والأحاسيس والمشاعر.
إن توافر اللغة في أي نص لا يمنحه الهوية، ضمن هذا المفهوم، وأكرر باستثناء النظر إليه كرباط ومقوم قومي لابد من الاشتغال عليه إزاء واقع الخطر الداهم والحرب الحقيقية عليه، لاسيما في هذه المرحلة، تحديداً. إن هوية النص تكمن في إبداعه، وخطابه، ورؤاه، كنتاج جملة عوامل وأدوات صانعة للجمال، وهذا لا يعني تشريع الاستمرار في الكتابة بغير هذه اللغة، عند توافر أسباب الكتابة بها، كحالة ترفية، غير اضطرارية!؟
بين مأثرتين
إزاء واقع الأدب الكردي، في ظل ازدواجية اللغة، وفرض لغة رسمية على حساب لغة البيت، وعلى ضوء نتاجات إبداعية مكتوبة باللغة الرسمية: العربية، وبتقنيات عالية، أو مميزة، تتوافر فيها الهوية الكردية، أو إنها مكتوبة كأدب كردي بلغة أخرى، مستعارة، فإننا عند مقارنة هذا التراث من النتاجات التي تشكل مكتبة كبيرة ذات خصوصية، بالنتاج المكتوب باللغة الأم والذي تتوافر فيه: سمتا الإبداع والهوية، فإنه لابد من الاعتراف أن لكل جزء من هذين الجزأين، أو الأجزاء بالنسبة للإبداعات المكتوبة بالتركية والفارسية مأثرة خاصة، فها نحن نتقبل قصيدة الشاعر الكردي المتصوف التي تترع بمفردات: عربية تركية فارسية، معتبرين إياها ركناً مهماً من المكتبة التأسيسية الكردية. إذ إن الحديث في هذا المجال يجب أن يحسم، أية كانت دوافعه: سواء أكانت نتاج عقدة ما من لدن هذا الطرف إزاء ذاك أو العكس، فهي غير مفيدة، وتأتي نتاج محاولة فرض الاستفراد بالحضور، على حساب مكانة ودور الإبداع الكردي، بكل مكوناته، مفردات تشكيله، بهذه اللغة أو تلك، لأن جزءاً جد مهم مما يكتبه المبدع الكردي باللغة الأخرى، لايصنف، ضمن مكتبات اللغة المضيفة، المستعارة، باعتبار اللغة أداة كتابة، وجسر قراءة، في النتاج الإبداعي، ومن الأولى أن يكتب بلغته الأم، إلا إن مجرد الكتابة باللغة الأم، من دون توافر الروح الكردية والإبداع في النص تضعنا أمام نتاج غير ذي جدوى، وهوما يبين بجلاء قيمة كلا جانبي الإبداع الكردي، المكتوب منه بلغته الأم أو باللغة المفروضة على كاتبه!
مجرد سؤال فحسب!
بات التشكيك يطرح، على نطاق واسع، من لدن بعضهم ممن يكتبون باللغة الأم، وهكذا بالنسبة إلى دائرة محددة، فيما يتعلق ب- هوية الأدب الكردي المكتوب بغيراللغة الأم- وتحديداً المكتوب بالعربية، بالنسبة إلى وسطنا المحدد، إذ إن هذا التشكيك الذي لايصمد أمام المحاكمة ذو آثار مسيئة، في أكثرالأحيان، باستثناء من يردده من قبيل ردة الفعل، أو تحت وطأة العاطفة، إلا إن الرد على هؤلاء، وفق رؤيتي هو: مادام الإبداع الكردي المدون يحتاج إلى الترجمة، فهل ترجمته إلى أية لغة عالمية أو محلية تسقط عنه كرديته؟، وحين تسأل مثل هؤلاء المشككين: ما الذي يتوافر في هذا النص بعد خلع لباس اللغة عنه من كرديته؟، فإن جوابهم: هو روحه. رؤاه. ربما كردية كاتبه إلخ، ويمكن الرد على هؤلاء بالقول: كل ماتذكرونه، الآن، متوافر في النص الكردي المكتوب بغيراللغة الأم، وقد يبز هذا الأخير نص الترجمة أو حتى النص المكتوب باللغة الأم!؟
وطالما إن الجواب بالنفي فإن من السهل قطع باب الحجة أمام هؤلاء المشككين، لاسيما من ينطلقون من نوايا طيبة، لا من يريدون إعدام وحرق جزء كبير من مكتبة كردستانية، لأسباب عديدة، قد يكون من بينها محاولة تتويج الأدب المكتوب باللغة الأم، في فضاء الإبداع، في الوقت الذي نمضي فيه بعيداً لتأكيد كردية من كتب قصيدته بالفارسية، أومن تشابكت إبداعاتهم- تاريخياً- بلغات أخرى غير اللغة الأم!
بنوة الإبداع الكردي المكتوب بالعربية!
حقيقة. إن الأدب الكردي قد خسر الكتابة بلغته الأم، من قبل كثيرين من الكتاب الكرد في أجزاء كردستان، وهكذا بالنسبة إلى من اضطرَّ إلى العيش خارج أجزاء كردستان، وتمَّ تذويب هويته بسبب البعدين الزمني والجغرافي، خارج مهاده، ومركزيته السكانية الرادعة للانصهار حتى بدء الحرب الأهلية في سوريا، وتضافر عوامل عدة أدت إلى الهجرة والتهجير، بحسب كل حالة على حدة، لذلك فإننا وجدنا أدباً له كل مقوِّمات كرديته، من داخل نصوص هذا الأدب، عبر- شهادة ولادته- وأوراقه الثبوتية الرسمية، وزمرة روحه وجمالياته، أو حتى دمه، لنكون أمام واقعين متناقضين:
أحدهما اعتباره إثراء للمكتبة الكردية بأدب كردي آخر مكتوب بالعربية أو الفارسية أو التركية، والآخر باعتباره رسولاً إلى شريك المكان في جغرافيا الشرق وما تحتويه من خرائط طارئة، مصطنعة، كسند إقامة إبداعية للكردي، في ترجمة لغوية أخرى. في أداة تواصل أخرى، وهو ما يعزز جسور التواصل مع هذا الشريك، حيث يتم عبره تبادل الثقافات، ولا يمكن على سبيل المثال النظر إلى الشعر الكردي قديماً وحديثاً من دون تأثيره وتأثره بشعر الأثنيات المتعايشة في فضائه الجامع، كما لا يمكن النظر إلى الشعر العربي أو التركي أو الفارسي، بعيداً عن تأثيرات الشعر الكردي و الثقافة الكردية، وقد قرأت للشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد في تقديمه لصفحتي أدب الجمعة- كما أتذكر- في صحيفة تشرين ف
ي مطلع ثمانينيات القرن الماضي ما فحواه: إن الشاعر الكردي أثر في القصيدة الجديدة، من خلال رموزه إلخ!
من هنا، فإن المكتبة الكردية تظل من المكتبات الأكثر غنى في الشرق والعالم، من خلال وجود روافد إبداعية، دونها بنوها، في ظل مراحل زمنية، جعلت هذه المكتبة ذات حضور أوسع، من خلال لغات الكتابة المكونة لها، في الوقت الذي استطاع المبدع الكردي الذي كتب بلغته الأم، في مختلف الظروف: ظروف التحدي وظروف توافر شروط الكتابة الحرة، وإنه من الظلم، أو من دواعي الجريمة إعدام هذا الإبداع الذي ظل جزءاً من ذاكرة ووجدان أجيال، وسفيراً لدى القارىء، وشهادة تعريف بوجدان الكردي وألمه وأمله وحلمه، وخدمة مجانية لمن خلق واقع فرض هذه اللغة أو تلك، بدلاً من توفير ظروف التعلم والتعليم باللغة الكردية، وكان من نتائج ذلك: تشطير جسد الإبداع الكردي، وثمة أمثولة تخطر في بالي الآن، ألا وهي التنكر لمكان كردستاني لمجرد تغيير اسمه، من قبل محتلي الخريطة، وعدم النظر إلى جوهر وروح المكان وأرومته!
-عن " رواق الأدب" العدد 11
*
تحاشيت ذكر أية أمثلة من الإبداع الكردي المكتوب باللغة العربية مقابل ماهو مكتوب باللغة الأم، في لحظة وصول أولهما إلى الآخر، على نحو أسرع، في مرحلة زمنية صعبة لم يكن ذلك متوافراً لماكتب باللغة الأم، وذلك لأن هذا وذاك ليسا إلا ضحيتين، من قبل جلاد واحد، أوأربعة جلادين وأكثر!
** محمد أمين عباس- يعيش حالياً في ألمانيا كلاجىء سياسي
***للاستزادة يمكن قراءة تقديمي للشعر الكردي المكتوب بالعربية- مجلة أوراق العدد الأول 2013- رابطة الكتاب السوريين
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=372518
ينظر إلى رأيي في- طلعنا على الحرية--
https://freedomraise.net/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D8%A8/
كما يمكن قراءة شهادتي ضمن ملف: الأدباء الكرد بين مفهومي اللغة والهوية- مجلة شرمولا- إعداد عبدالمجيد إبراهيم قاسم
https://shermola.net/?p=930
-يقول شيركو بيكس في حوار أجريته معه في مجلة العربي- عدد سبتمبر- 1993
أن تفكر ككردي..وتكتب بالعربية، اصطدام بواقع مؤلم. فعلى شعرائنا الشباب تجاوز هذه الإشكالية، وتخطيها مهما كانت العراقيل، والكتابة بلغتهم الأم من أجل كتابة نصوص جميلة نلتقي فيها مع دموع العراقيل، والكتابة بلغتهم الأم من أجل؟ كتابة نصوص جميلة نلتقي فيها مع- دموع، حلبجة- ومع رماد وورد قرانا، إن الشعر الكردي الجديد في سوريا متأثر بالتجديدية السورية العربية في مجال الشعر- وهذا أمر طبيعي- هناك بصمات لشعراء وكتاب مبدعين ( ولاسيما سليم بركات ) على قصائد شعرائنا الشباب فيما يخص الأسلوب الكتابي.
مبحث مهم للباحثة فدوى حسين- موقع حرمون
https://www.harmoon.org/wp-
content/uploads/2019/02/Kurdishliteraturewritteninarabiclanguage.pdf
يقول الناقد البروفيسور عزالدين مصطفى رسول في حوار أجريته معه في العام ونشر في العدد 1- مجلة أجراس-1993:
فليس معقولاً أن تقول لسليم بركات تعال واكتب بكردية سيئة، فنخسر نحن، وتخسرالمكتبة العربية والإنسانية قلماً من أهم الأقلام الإبداعية المعاصرة!
ندوة الأدب الكردي في تونس 2018
http://www.radioculturelle.tn/%D9%83%D8%AA%D9%91%D8%A7%D8%A8-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D9%88%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A3%D8%B5%D9%88%D9%84-%D9%83%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%8A%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D9%91%D8%AB%D9%88%D9%86-
%D8%B9%D9%86/
الرواية الكردية المكتوبة بالعربية-محمود عيسى- مدارات كرد
https://www.medaratkurd.com/2024/04/13/12033/