فاجأت تصريحات وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو بشأن ضرورة المصالحة بين النظام والمعارضة السوريين الكثير من المراقبين والمحللين المهتمين بالشأن السوري.
صدور هذه التصريحات بعد تصريحات الرئيس التركي بشأن مقترح بوتين بحل الخلافات مع الحكومة السورية وتأكيد أردوغان على اللقاءات الاستخباراتية مع سوريا، وتزامنها مع تسريبات صحفية تركية (مقرّبة من الحزب الحاكم) عن إمكانية إجراء اتّصال هاتفي بين الرئيسين السوري والتركي، جعل المراقبين والمحللين يبالغون في تفسير أبعاد تصريحات رأس الدبلوماسية التركية إلى حدّ التصوير بأننا قد نرى قريباً الرئيس الأسد في قصر (جانقايا) في أنقرة أو الرئيس أردوغان في قصر (الشعب) في دمشق.
في الواقع، يصعب تحليل التصريحات التركية بهذه الدرجة من البساطة والتسطيح، مثلما يصعب فهم هذا التفاجؤ بالموقف التركي غير المقطوع عن مسار التحوّل فيه. هذه التصريحات أشعلت الداخل التركي واستجرّت مواقف وتحليلات مختلفة ومتناقضة في الأوساط السياسية والإعلامية، تراوحت بين الترحيب بها واعتبارها تصحيحاً لمسار السياسة التركية من جهة واعتبارها فشلاً ذريعاً لهذه السياسة من جهة أخرى. ولا يزال النقاش والجدل حولها حادين داخل تركيا.
التحوّل التركي ليس جديداً!
في الحقيقة، منذ التدخّل الروسي العسكري لصالح الحكومة السورية في أواخر أيلول 2015، أدركت تركيا أنّ المعادلة في سوريا تغيّرت وأنّ هدف إسقاط النظام قد أصبح من الماضي، وأنّ هذا التدخّل الواسع ما كان ليحدث من دون الموافقة الأمريكية، لذلك عمدت تركيا إلى إعادة ترتيب أولوياتها في سوريا من خلال التركيز على مواجهة نفوذ قوات سوريا الديمقراطية في المناطق المتاخمة لحدودها وقطع الطريق على توسّع الإدارة الذاتية أوّلاً وقطع أوصالها ثانياً، وتدميرها ثالثاً.
في البداية، عمدت تركيا إلى التفاهم مع أمريكا للدخول إلى الأراضي السورية عبر بوابة محاربة داعش في المنطقة الممتدّة من جرابلس غرب الفرات إلى أعزاز المتاخمة لمنطقة عفرين الكردية، فأطلقت عملية عسكرية في 24 آب 2016، تحت اسم عملية (درع الفرات)، واستمرّت لغاية 29 آذار 2017، حيث أعلن الرئيس التركي انتهاءها، بعد سيطرة القوات التركية والجماعات المساحة التابعة للمعارضة السورية الموالية لها على مثلّث جرابلس - الباب - أعزاز. في نفس عام 2016، تفاهمت تركيا مع روسيا على إخراج المعارضة من مدينة حلب، كبرى مدن البلاد، بعد عملية (فجر النصر) التي أطلقتها القوات السورية بدعمٍ روسي، في شهري تشرين الثاني وكانون الأوّل، لتنتهي بتاريخ 13 كانون الأوّل بعد التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية روسية-تركية انسحبت المعارضة المسلّحة الموالية لتركيا بموجبه من كامل أحياء حلب التي كانت تسيطر عليها.
شكّل هذا الاجتياح التركي انقلاباً حقيقياً في معادلة توازنات القوى الدولية والإقليمية في خارطة الأزمة السورية وعزّز الدور التركي، خاصّة بعد تطبيع العلاقات التركية-الروسية، بل ووضع تفاهمات حول سوريا قبلت بموجبها تركيا ببقاء الأسد ونظامه جزءاً من الحل مقابل موافقة روسيا على دور ونفوذٍ تركيين على الأرض في شمال سوريا يؤهلها لعقد مقايضات على المناطق السورية برعاية روسية وسكوتٍ سوري. والجميع يعرف كيف تمّت هذه المقايضات بفرض الانسحاب على المعارضة السورية المسلّحة من مناطق سيطرتها مقابل إشراكها في عمليات احتلال مناطق خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية.
جرت سياسة المقايضة هذه في إطار مسار أستانا ومن ثمّ سوتشي في صيغة (الدول الضمنة)، وهي روسيا وتركيا وإيران. وهذا المسار هو في الحقيقة تجسيدٌ حقيقي لتحوّل سياسة تركيا في سوريا حينما توافقت مع روسيا على تغيير تسلسل خطوات حلّ الأزمة السورية بموجب القرار 2254 الأممي الصادر عن مجلس الأمن الدولي في 18 كانون الأول 2015. حيث تجاوزت نقطة الحكم الانتقالي وقفزت إلى خطوة تشكيل اللجنة الدستورية من ممثلي الحكومة والمعارضة، وهذا ما شكّل خروجاً عن القرار المذكور فعلياً مع الإبقاء عليه غطاءً شكلياً. فتجاوز نقطة الحكم الانتقالي كان اعترافاً فعلياً بالحلّ مع النظام وليس على حسابه، وأرغمت تركيا المعارضة الموالية لها ومجموعاتها المسلّحة على الانتقال من سياسة إسقاط النظام إلى سياسة التحاور والاتفاق معه في تسوية سياسية برعاية إقليمية حقيقية وتيسيرٍ دولي شكلي.
خطوة تركية إضافية
لكن ما هو الجديد في دلالات التصريحات والمواقف التركية الأخيرة التي باتت توحي بانتقالٍ علني من سياسة المقايضة إلى سياسة المصالحة مع دمشق؟
يبدو أنّ قمّة طهران الأخيرة، في ظلّ الأوضاع الدولية والإقليمية المستجدّة، كانت فرصة مناسبة لكلّ من روسيا وإيران لممارسة سياسة الضغط والترغيب مع الرئيس التركي أردوغان للتحوّل من سياسة المقايضة (التي يبدو أنّها نفدت فرصها) إلى سياسة المصالحة والعمل العلني والمباشر مع دمشق على أساس ليس فقط المواجهة المشتركة لمشروع الإدارة الذاتية القائمة وإنّما أيضاً أيّ مشروع أو طموح كردي قائم على وضعية خاصّة ضمن سوريا. وكانت اتفاقية أضنة وإمكانية تعديلها أساس هذا الطرح الروسي.
التصريحات التي أطلقها الرئيسي التركي ومن ثمّ وزير خارجيته، كانت إشارة إلى أنّ تركيا مستعدّة للسير في هذا الخيار ولكن ما هو الثمن والمكافأة اللذين ستحصل عليهما ليس في سوريا فحسب بل وفي ملفّات الصراع الإقليمي والدولي، وخاصّة المكاسب الإقتصادية التي ستساهم في تخفيف التدهور الاقتصادي في تركيا الذي يسلّط سيف الناخبين على رقبة الحزب الحاكم في الانتخابات التركية المقبلة في منتصف العام القادم. وفي محاولة لضغطٍ معاكس على روسيا لتحسين مكتسبات هذا الخيار، أثارت تركيا المعارضة السورية الموالية لها عبر الحديث عن ضرورة تصالحها مع النظام، لتندلع مظاهرات غاضبة في مناطق الاحتلال التركي لتستثمرها تركيا في محاولة لاستجرار روسيا إلى تقديم حوافز أكبر لها.
هل نجحت الوساطة الأميركية؟
منذ سنوات هناك مساع أميركية لدفع تركيا وقوات سوريا الديمقراطية إلى اللقاء والحوار على قاعدة إخراج العمال الكردستاني من مناطق قسد وتوسيع الإدارة الذاتية وإقامة العلاقات بين قسد والمعارضة السورية وضمان أمن الحدود مع تركيا. في ذروة التهديدات التركية الأخيرة بشنّ عملية عسكرية جديدة ضدّ مناطق قسد، وصل وفدٌ أميركي برئاسة السيناتور ليندسي غراهام إلى غرب كردستان (6 تموز) والتقى مع قيادة قسد. غراهام الذي زار، في طريقه إلى غرب كردستان، أنقرة (4 تموز) والتقى الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن، عرض على قسد أفكاراً كان قد ساقها في مقالٍ له جوهرها: «إنشاء مناطق عازلة بين العناصر التي تعتبرها تركيا جماعات إرهابية، ودعم أولئك الذين ساعدونا في تدمير الخلافة الإرهابية، وضمان عدم ظهور داعش مرة أخرى... الحل الذي أرى أنه الأكثر قابلية للتطبيق، هو معالجة مصالح الأمن القومي لتركيا مع تطوير علاقة تجارية في الوقت نفسه بين الحكومة التركية وسكان شمال شرق سوريا. فهناك حقول نفط في شمال شرق سوريا يمكنها مع المزيد من الاستثمار إنتاج كميات أكبر من النفط، وهو ما يعود بالفائدة على كل من سوق النفط العالمية، واقتصاديات شمال شرق سوريا وتركيا. أفضل طريقة لحل هذه المشكلة بمرور الوقت هو جعلها مربحة للجانبين لسكان شمال شرق سوريا وحلفائنا الأتراك، سواءً على الصعيد الأمني أو الاقتصادي». يبدو أنّ التدخّلات لمنع تلقّي الطرح الأميركي بحماسة أدّى إلى ممارسة ضغط عسكري على قسد من خلال تكثيف الهجمات بالمسيّرات التركية خلال الأيام العشرة الأولى من الشهر الجاري تخلّلتها عمليات استهداف وقصف عبر الحدود على طول منطقة الجزيرة في غرب كردستان.
يبدو أنّ التصريحات التركية الأخيرة التي أرسلت إشارات على تفاهمٍ روسيٍّ - تركي - إيراني على حساب حلفاء أميركا ودورها قد نشّطت المساعي الأميركية لقطع الطريق على هذا التفاهم وفعّلت جهودها لمحاولة خلق اتصالات بين تركيا وقسد. والمعلومات المتوفّرة تفيد بأنّ أميركا ربّما تكون قد نجحت في الأيام الأولى من هذا الأسبوع في تحقيق تواصل بين مسؤولين أتراك وقيادة قسد، وربّما هذا ما يفسّر غياب مسيّرات تركيا عن أجواء غرب كردستان وصمت مدفعيتها منذ السبت ولغاية أمس (الاثنين ).
التوتير والقصف والاستهداف على الحدود بدءاً من زركان ومروراً بالدرباسية وعامودا فجر اليوم (الثلاثاء)، وصولاً إلى تربسبية شرقاً وكوباني غرباً صباح اليوم، قد يكون في إطار مسعى من قوى محلية وإقليمية ودولية تشترك في العداء للجهود الأميركية في دفع تركيا وقسد إلى الحوار بدل الاحتراب الذي تعتقد أميركا أنّه سيكون لصالح الحلف المعادي لدورها ووجودها في سوريا.
بات معظم المتابعين للشأن السوري والدور التركي فيه على قناعة أنّ أنقرة باتت جاهزة لأن تسلك طريق المصالحة مع دمشق. لكن الخبراء في تفاصيل الشؤون التركية وأوضاعها وتعقيدات الأزمة السورية والمروحة الواسعة للأطراف المتداخلة فيها يُشيرون إلى وعورة هذا الطريق.
روداو