لم تُخلق لغات الاقوام التي تحيا على سطح الارض ترفا، بل هي حاجة ملحة ليتفاهم من خلالها البشر بمختلف قومياتهم. كما انه لم يستطع اي مؤرخ او باحث او عالم ان يثبت تاريخا متى اكتشفت أول اللغات الانسانية، ومن المؤكد ان اللغات اقترن وجودها مع وجود البشرية فظهرت صوتيا قبل ان تُكتب.
لكن هناك توافقات واختلافات بين هذه اللغات الانسانية، وان اللغات الحية تقرب بين شعوب العالم وحضاراتهم ولا تبعدهم عن بعضهم البعض.هذا ما رصده الباحث الزميل خالد جميل محمد، الكاتب والمترجم في شبكة رووداو الإعلامية، في محاضرته الثمينة" اللّغاتُ الإنسانيةُ (التَّوافُقُ والاخْتِلافُ)" التي القاها يومالسبت 17 شباط 2024، برعاية معهد غوتة الالماني ونادي المدى للقراءة، على مركز (مالي وفاء) في اربيل.
الباحث خالد جميل محمد أكد في محاضرته، التي حرصت رووداو على حضورها ومتابعتها، على ان:"اللغة "كَنْزاً جماعياً وضعته ممارسة الكلام في أذهان الأفراد الذين يستعملونها، وبالتالي تكون اللغة مجموعةَ القواعد والكلماتِ ودلالاتِها المخزَّنةِ في أذهان المتكلمين بها ومستعمليها.. ومثَل اللغات في توافقها واختلافها كمَثَل البشَر في وحدتهم الإنسانية وتنوعهم الإثني الذي يخضع لعوامل تاريخية، جغرافية، بيئية واجتماعية، وهو تنوُّعٌ لم يُقرَّه شعبٌ بإرادته، بل انخرط فيه كلٌّ وَفْقَ شروطٍ قائمةٍ سَلَفاً دون استئذان من الجماعة اللغوية".
مضيفا: "ومن وجهة نظر كُلِّـيَّـةٍ، فإن للإنسانيةِ لغةً عامةً أكبرَ من اللغات الإنسانيةِ في تنوعها وتفرُّدها، ومهما زاد غنى لغة ما فإنها تظل قاصرة عن الإيفاء بمجمل الحاجات الكونية ومستجداتها، وما غابَ من تسميات للأشياء عن إحداها، قد تملأ لغةٌ أُخرى ما تشكل لدى تلك من فجوة معجمية".
منبها الى ان:" الدرسُ اللغوي الحديث أَبْعَدَ عن مجاله جميعَ القضايا الخارجةِ عن بنية اللغة وجوهرها، من مثل تفضيل لغةٍ على أُخرى، أو تعظيم كلمةٍ في لغة أو لهجة على كلمة تعادلها في لغة أو لهجةٍ أُخرى، ومن مثل استنقاصِ لَفْظٍ في لغة أو لهجةٍ غريبةٍ أو قريبةٍ، أو التفاخرِ بعظَمة لغةٍ والاستخفافِ بغيرها، ومن مثل الزعم بقُدسيَّة لغةٍ وتمجيدها والحطِّ من قيمة غيرها أو تسفيهِها".واصفا تسفيه لغة ما بالممارسة العنصرية، ذلك ان:"تفضيل لغة على اخرى يشبه تفضيل قومية على ثانية".
واعتبر الباحث محمد بان:"اللغات "نُظُمٌ من علامات تعكِس تفكيراً منظَّماً، وتترجمُ التجربةَ الإنسانيةَ إلى تجربة عَلامِيَّةٍ لُغَوِيَّة. ولـمّا كانت التجربة الإنسانية تختلف من مجتمع إلى آخر فإنَّ ممارسةَ تلك الترجمة لا بدَّ أن تختلف من مجتمع إلى آخر، بل إنّ هذا الاختلافَ عائدٌ إلى طريقة كلٍّ من تلك المجتمعات في تقسيم الواقع، حيث لا تقسِّمُ اللغاتُ الواقعَ غيرَ اللغويِّ بطريقة متماثلة وواحدة، ولو كان كذلك، لكانت الأسماءُ والمفردات واحدةً في اللغات كلها، فكلٌّ منها تمثل تنظيماً معيَّناً لمعطياتِ تجربةٍ خاصَّةٍ بجماعة معيَّنة متميِّزة عن سِواها؛ لأن كلّ جماعة لغوية تنظر إلى العالم من خلال علامات لغوية خاصة بها، وتختلف في طبيعة تلك العلامات عن غيرها".
مؤكدا ان:"اختلاف نظرة كل جماعة لغوية إلى العالم عن غيرها من الجماعات، يعني ذلك أنها تختلف أيضاً في طريقة تفكيرها وتعاملها مع الواقع، وكذلك في طريقة تنظيمِ فكرها، ووضع التسميات للموجودات، وهو اختلاف نابع من التمثُّل العلاميِّ الخاصِّ للواقع الذي تَكُوْنُ فيه كلُّ لغةٍ من حيث تصوُّرها الخاصُّ للعالَـم، وهذا التصور جعل لكلٍّ منها بُعداً داخلياً يتمثل في تنظيمها الخاصِّ، وبُعْداً خارجياً يتمثل في علاقاتها بشروط حياة مستعمليها والواقع الذي يعيشون فيه وموجودات ذلك الواقع والتصورات الناجمة عن التفاعل معه، وهو ما يدل على العلاقة الوثيقة بين اللغة وبين الثقافة والفكرِ".
محاضرة الباحث الزميل خالد جميل محمد، لم تتوقف عند موضوع اللغة المجردة بل تناولت علاقاتها الاجتماعية والفكرية، حيث يوضح بان:"الممارسة الاجتماعية هي التي تدفع أهلَ اللغةِ إلى تميـيز موجوداتِ بيئتهم التي قد يتعذّرُ على لغتهم تسميةُ موجوداتٍ غريبةٍ عنها وعنهم، وهذا لا يقلل من شأن تلك اللغة ولا يَبْخَسُ من قيمتها ما دامت لا تستجيب لتلك الموجودات الغريبة عن الممارسة الاجتماعية لتلك البيئة وأبنائها، أو لم تكن لهم حاجة إليها أو معرفة سابقة بها.. فثمة علاقة تأثُّر وتأثير بين مكوِّنات اللغة ومكوِّنات الواقع وموجوداته، وبينها وبين الفكر الذي يتفاعل مع هذا الواقع".
وفي ايضاح اكثر يتوصل الباحث محمد الى ان :"اختلاف البيئات لا يجرد أيَّ لغة من وظيفتها الأساسية في تحقيق التواصل بين مستعمليها، وليس بالضرورة أن تتطابق مفردات لغة مع لغة أُخرى، أو ليس بالأمر الغريب أن تتفق أكثر من لغة في مفرداتها، سواء أكانت بينهما قرابة أم لم تكن، وليس بالضرورة أن يكون لكل مفردة ما يعادلها من مفردات في لغة أو لغات أُخرى، حيث تنتمي كل لغة إلى تجربة وبيئة خاصتين، ولها مرجعية ذهنية وحضارية خاصة بها، ولهذا فإن ضعف معرفة تلك التجربة أو تلك المرجعية يولِّدُ ضعفاً في فهم طبيعة تلك اللغة، كذلك يَنتجُ عن ضعف معرفة النظام الفكريِّ ضعفٌ في معرفة النظامِ اللغويِّ".
وتعمق الباحث محمد في ادراج امثلة عملية على ما يذهب اليه في موضوع بحثه"اللّغاتُ الإنسانيةُ (التَّوافُقُ والاخْتِلافُ)" حيث يذكر، على سبيل المثال لا الحصر: ان لـ" كلّ لغة تتميَّز عن سِواها بحسب مستعمليها وبيئاتهم وموجودات تلك البيئات، بل إن اللغة هي التي تحدد رؤيةَ مستعمليها إلى العالَم سَلَفاً، وهي التي ينظر الإنسان من خلالها إلى العالم، ففي اللغة العربية يطلق اسم (بحر) على ما تطلق الفرنسية عليه اسم(mer)، وتُطلِق الإنكليزيةُ عليه اسم(sea)، وتطلق الفارسية والكردية عليه اسم(دەریا/ derya) وتطلق التركية عليه اسم(deniz) ..وما يسمى في العربية بـ(سمكة) يسمى في الفرنسية(poisson) وفي الإنكليزية(fish)، وفي الفارسية (ماهى) وفي الكردية(masî)، فهذا التنوع والاختلاف في التسميات يؤكد تنوُّعَ طرق الشعوب في تقسيم التجربة غيرِ اللغوية وترجمتها إلى تجربة لغويةٍ متميِّزة".
وفي باب التوافق بين اللغات ذكر الكاتب والمترجم خالد جميل محمد في بحثه:"تتوافق اللغات في أنها كلَّها تشتمل على الأسماء والضمائر والأفعال والصفات وأداوت الربط والجُمل، بل يمكن أن تتوافق في التواصل بين تلك العناصر، وهذا يعني أن اختلاف اللغات، غالباً، أقلّ نسبة من توافقها، فالتوافق والاختلاف مَظْهران للُّغات الإنسانية يدركهما المختصون وغيرُ المختصين.
وأضاف أن "ترتيب الأصوات، تغييرُها، تلويناتها الصوتية ما بين الشدة، التنغيم، التنبير، الـمَـدِّ والقِصَر، كلُّ ذلك يَخضع لتواضعِ الجماعة اللغوية واتفاقها الضمني، فلو أنها تواضعت على تسمية البحر بـ(جَبَل) مثلاً، لكانت لفظة (جبل) تستدعي صورة البحر في ذهن سامعها، لا صورةَ الجبلِ، أو إذا كانت ثمة علاقة مباشرة بين الأسماء والأشياء التي تطلق عليها تلك الأسماء، فقد كان يستوجب ذلك أن يكون اسم البحر في اللغات كلِّها واحداً لا مختلفاً".
ويشير الباحث محمد الى مسالة في غاية الاهمية في غنى اللغات الانسانية وتاثرها ببعضها دون ان تؤثر عليه، يقول:"بالنسبة إلى اللغات الهندو أوربية التي قد يلتبس على بعض المهتمين تقاربٌ ملحوظ بينها، غير أنَّ هذا التقارب يُثري ولا يُفقِرُ، ويُنَمّي اللغةَ ولا يُجْدِبُها، ولعل خيرَ دليل على ذلك أن آلاف المفردات العربية لم تقلل من شأن الحضارة الفارسية بدخولها إلى اللغة الفارسية بعد الإسلام، كما أن اللغة التركية التي يقال عنها بأنها لغة هجينة استطاعت أن تؤثر في اللغة اليونانية الحديثة، وهي بدورها تأثرت كثيراً باللغة العربية كما هو معلوم، غير أن الكلمات العربية في التركية لم تمنع مستعمليها من التواصل بلغتهم، والتفاهم بها دون صعوباتٍ".
مستطردا ببحثه :"كذلك لم تَفْقُد(اللغة) الإنكليزية مكانتَها العالميةَ بدخول مفردات من كثير من اللغات إليها، بل كان ذلك عاملَ ثراءٍ لها، ومن جهة أخرى كان التداخلُ بين اللغاتِ عاملَ تقاربٍ حضاري يفتح أبواب التواصل بين الشعوب والحضارات، وذلك إذا كانت اللغة وسيلة تفاهم وتواصل حضاري".
ويخلص بحث الزميل خالد محمد جميل، الى ان اللغات الإنسانية: "لاتختلف بعضُها عن بعض كثيراً في بنيتها التحتية، وما اختلافها إلا بسبب فروق سطحية، وهي فروق تفطَّن لها المتخصصون، وأُفردت لها أبحاث ودراسات كثيرة، ولا تزال تنتظر جهود أجيال متعاقبة. وقد أثبت هذا الدرس أن جميع اللغات الإنسانية تؤدي وظائف عن طريق الكلام، وهي وظائف تمثلت في الإبلاغ، التعبير، النداء ونقل الأفكار وغيرها من الوظائف التي تعرفها اللغات كلها".
وفي رده عن سؤال لرووداو حول امكانية خلق او ايجاد لغة عالمية جديدة نتيجة ثورة الاتصالات بين الشعوب والامم واستخدامات التكنولوجيا الرقمية؟ قال:" لا نعرف ماذا يخبئ لنا الزمن.. فمثلما لم نعرف تاريخ نشوء اللغات ومنابعها، فربما تُخلق لغة عالمية جديدة، لكن متى؟ لا ندري".
لقد عرف عن الباحث خالد جميل محمد حرصه الاكاديمي واهتمامه في موضوعة اللغات، لا سيما وانه درس اكاديميا اللغة العربية في جامعة حلب، وهو كوردي من قامشلو، يكتب باللغتين الكوردية والعربية، ويترجم ما بين اللغتين. وقد بذل جهدا معرفيا عميقا لانجاز محاضرته "اللّغاتُ الإنسانيةُ (التَّوافُقُ والاخْتِلافُ)" والتي تعد اسهاما حضاريا في التقريب بين الشعوب من خلال لغاتهم.
مدير (نادي المدى للقراءة) في اربيل، شيار شيخو، ادار المحاضرة بجدارته المعهودة واضاء جوانبها بمداخلاته، معلنا عن ان موقع مقر النادي سيكون منذ الان في مركز مالي وفاء، قرب فلكة(الزراعة) في شارع روناكي، وسيستقبل الاعضاء والزوار والمهتمين بالقراءة والنقاش ما بين الساعة التاسعة صباحا وحتى العاشرة مساءا، وان منهاجهم سيكون مزدحما وغنيا في موسمه الحالي.
معد فياض-رووداو ديجيتال