صدرت حديثاً، عن دار سردم للطباعة والنشر في السليمانية- كردستان العراق، البهجة السرّية: أنطولوجيا الشعر الكردي في غرب كردستان، من ترجمة و إعداد وتقديم الشاعر والناقد لقمان محمود.
وقد ضمّت الأنطولوجيا أكثر من مئة شاعر وشاعرة، منذ بدايات القرن الماضي وحتى اليوم، حيث يقدم الكتاب مسحاً شاملاً للشعراء الكرد، مستعرضاً جيل الرواد والمعاصرين والشباب، مع اعطاء نبذة عن كل شاعر ، إلى جانب نشر قصيدة أو أكثر لكل شاعر. وهي خطوة مهمة لتعريف قراء العربية بالشعراء الكرد الذين يعرفون منهم الأسماء اللامعة مثل جكر خوين، تيريز، أحمد نامي،عثمان صبري، عمر لعله، قدري جان، رشيد كرد، كاميران بدرخان،بي بهار،سيدايي كلش..).
وقد بسط صاحب الأنطولوجيا (لقمان محمود) في أول الكتاب الذي بلغ أكثر من أربعمئة صفحة، مقدّمةً عميقةً (31 صفحة) كشف من خلالها مراحل الشعر الكردي في غرب كردستان ومدارسها الفنية.
وهنا ننوه إلى أنّهذا الجهد الكبير من البحث والترجمة والتدقيق، جاء لكي يكون أهم وثيقة معبرة عن الشعر الكردي في غرب كردستان، بإعتباره العمل الأول من نوعه، والرائد في مجاله. حيث أفسح المؤلف المجال للشاعر الكردي الذي يكتب باللغة العربية أيضا، ايمانا منهبأن الشعر في جوهره، يشكل الاحساس العميق للبشرية جمعاء.
لقد نجحت هذه الأنطولوجيا إلى حدٍ كبير، في جمع المشهد الشعري الكردي في سوريا بكل تبايناته واختلافاته ، بكل طبقاته وملامحه، وبكل أجياله الكلاسيكية والراهنة والحديثة.
إن للشعر الكردي في سوريا خصوصيته، التي قد تتصل حيناً بالشعرية الكردية في الأجزاء الأخرى من كردستان، وقد تنفصل عنه، لتؤسس رؤى شعرية لا تنبعث إلا منها.
وبما أن الشعر - كان ومازال - يمثل أحد أنقى أشكال التعبير عن حرية اللغة، فهو عنصر مكون لهوية الشعوب و الأمم.
في هذا المضمار، نستطيع العثور على ثلاث تجارب (مدارس شعرية) بارزة أتاحت للأصوات الشعرية (في سوريا) أن تظهر. وأولى هذه التجارب هي تجربة جكر خوين (1903- 1984)، الذي يعتبر مدرسة خاصة قلّدها الكثيرون من شعراء الكرد (باللهجة الكرمانجية) و لازالوا حتى الآن يسيرون على نهجه. فلهذا الشاعر القدير أثر كبير على مسار حركة الشعر الكردي في سوريا خاصة، والذين يكتبون باللهجة الكرمانجية عامة.
لقد ركّز جكر خوين في معظم شعره على الوطن والنضال والحب والتضحية والوصف، وكان له في ذلك الأثر الكبير على مسار حركة الشعر الكردي في سوريا خاصة، والذين يكتبون بالكرمانجية عامة، فأصبح بحق لسان حال الشعب الكردي. لذا من الضروري وعند التحدث عن واقع الشعر الكردي في سوريا، التوقف عند هذا الشاعر الرائد، لأنه النموذج الذي يمثّل أهم ظاهرة - مدرسة شعرية على الاطلاق.
فهذا الشاعر كان يمثّل الصدى الواعي لأحداث جيله وشعبه ضمن حدود الزمان والمكان التي يعيش فيها، فأصبح المعبّر الرئيسي الأول عن آمال أمته وآمالها. فأصبح رمزاً يُحتذى به في شعره، ناهيك عن أن شعره قد أصبح يُحفظ غيباً، ويتداول كأمثولة، ويتغنى به المغنّون.
التجربة الثانية هي تجربة سليم بركات (1951) ابن قرية (موسيسانا) التابعة لمدينة عامودا، الذي تعلّم العربية في المدرسة، ولم يتعلّم الكردية إلا شفاهاً،على هامش حريته في اللغة العربية التي استهوته، فأظهر مقدرة غير عادية في الاشتغال عليها، مستغلاً هذه الحرية كوجودٍ له في آن وكحوار نحو شريكه العربي في المكان ومتاهاته.
فالمشهد الشعري الكردي في سوريا، يحفل بالعديد من الأسماء، التي تعاملت مع قصيدة سليم بركات بحساسية التقليد.. وقد أفرزت هذه القصيدة خلال أربعة عقود، خصائص القصيدة البركاتية ، وتقنياتها وأساليبها التعبيرية، دون أن تكتسب نبرتها الخاصة.
حيث شكل شعر سليم بركات، بما له من قوة، وخصوصية، عقدة للكثيرين من أبناء جلدته، إما بالاحساس بعدم القدرة على تجاوزه، أو الاستعارة منه، والنسج على رموزه وأساطيره.
إذ لم يسبق لشاعر كردي آخر، أن هزّ عالم الأدب بهذه القوة، وبهذا الحسّ الوحشي للغة وللصورة الشعرية. فقد استطاع هذا الشاعر، أن يخلق صوراً نادرة، كي يتعامل معها كتذكار، لشمال بات راسخاً ومعمولاً به، في فضاء الشعر الكردي المعاصر.
حيثأدخل سليم بركات قصيدة النثر الكردية إلى مجاهل لغته، وألبسها أجنحته القلقة الموارة بالهواجس والغوامض. وبذلك أسس جيلاً ثرثاراً قريباً من فصاحته. جيلاً يستنبط فكرته اللغوية، ومعجميته المتعددة الوجوه، بالضغط على تنافر الوضوح، لتوضيح الغموض السري المتصل بحبل ما إلى سرّة القصيدة البركاتية.
التجربة الثالثة هي تجربة شيركو بيكس (1940-2013) التي تُعتبر من أغنى التجارب الشعرية الكردية، وأكثرها تفجّراً وتنوعاً وصلة بجذرها الحياتي والمكاني.
فمنذ ديوانه الأول "شعاع القصائد"عام 1968، بدا الشاعر بيكس المعبرَ الأمثل عن الروح الكردية المشرعة منذ قرون على الألم والمكابدة وتصدّع الهوية.
فإذا كان جكر خوين قد اختار القصيدة الكردية الكلاسيكية للتعبير عن الانسان الكردي، فإن سليم بركات قد اختار اللغة العربية المتينة والمحكمة والوحشية ليعبر عن أحلام هذا الشعب.
أما شيركو بيكس فقد اختار أن ينقّب عبر لغته الأم عن شظايا التاريخ الكردي الضارب في القدم، وأن يصوغ بموهبة مرهفة وعاتية قصيدة الكرد الكبرى التي أرادها أن تكون وطناً من الاستعارات لأمة مزّقتها الجغرافيا وظلمتها التاريخ وجزأتها المصالح الدولية. حيث لم يترك هذا الشاعر العظيم نأمة صغيرة أو تفصيلاً بسيطاً في جغرافيا الحضور الكردي في العالم إلا وخصّه بقصيدة أو مقطوعة أو نشيد.
فقد شكّلت مجموعة «مرايا صغيرة» المترجمة إلى العربية في أواخر الثمانينيات (دار الأهالي – دمشق) من القرن الفائت، النموذج الأكثر وضوحاً للقصائد القصيرة، وشبه القصيرة التي تعتمد على الحكاية، كما على المشهد الانطباعي، والفكرة الموجزة واللمّاحة. فبعد ترجمة هذه المجموعة إلى اللهجة الكرمانجية انحرفت القصيدة الكردية في سوريا عن مسارها التقليدي (مدرسة جكر خوين)، وعن مسارها اللغوي (مدرسة سليم بركات)، إلى مسار يومي (مدرسة شيركو بيكس) الذي فجّر المكبوت اللغوي الكردي.
فخلال الأعوام الثلاثين الماضية شكلت أشعار شيركو بيكس النهر الرئيسي للقصيدة الجديدة في سوريا، طالما تميزت عن غيرها بالغنى الموضوعي بعيداً عن الشعارات، حيث اتخذت نهجاً يختلف عن الشعر التقليدي الموزون في الشكل والبناء واللغة والنظرة للأمور كما في تجربة جكر خوين الشعرية. كما اختلف عن الشعر الحديث المتمثل في تجربة سليم بركات اللغوية.
فبعد رسوخ مدرسة شيركو بيكس الشعرية، أخذ الشعر الكردي في سوريا طريقاً جديداً إلى الحاضر القلق، و أخذ الشاعر الكردي طريقاً آخر يسمو فيه الإنسان بالثقافة التي تتشابك فيها الوعي الإنساني و الوجداني بآفاق إنسانية أخرى، تهدف إلى توجيه الوعي نحو المفاهيم الإنسانية الشاملة، بحيث تندمج فيها الحريات بعضها في البعض.
من هنا، يمكننا القول أن القصيدة الكردية الجديدة قد كشفت عن فعالية عاطفية، تحول فيها الشعر إلى معطى إنساني و جمالي في آنٍ معاً، بأساليب و تقانات الكتابة الشعرية الجديدة، التي تقتضي شعراً مغايراً و معانداً و خارجاً من بيت الطاعة.
فقد وجد الشاعر الكردي في سوريا تعبيراً جديداً عن موقفه الجديد في مصطلح "قصيدة الومضة" الذي صار عنواناً لحركة شعرية ساهم شيركو بيكس بحماسة في تهيئة الأرض الخصبة لهذه القصيدة.
و طالما الشعر- هكذا- بفضائه الرحب، يدور في فلكه الحبيبة ،الوطن، الأم، المنزل، الحديقة، الشارع ، إلى آخر هذه المفردات اليومية، فإن الشاعر لم يستطيع أن يزعزع من قلبه حماسة المعنى، محاولاً الغوص إلى الدلالات الخفية و المشاعر العميقة التي تتبطن في هذا الحب، للوصول إلى العامل الأساسي للطمأنينة، و الذي يبدو فيه الشاعر أكثر شفافية على المستوى التقريري الذي احتضن حالته المستقرة. هكذا أصبح أجمل ما في الشعر هو البهجة السرّية، وأجمل ما في كردستان هو الأمل.
وبذلك أصبحت كتابة الشعر (البهجة السرية) في كردستان سوريا، عمل انساني عظيم، لقهر الظلم والعدم، وهي جزء من هذا التراكم الهائل من البشع التاريخي، التي مرت بها الذاكرة الكردية، والمجتمع الكردي معاُ.
إنها الرؤية التي يكشف فيها الوجود الكردي عن نفسه، خصوصاً مع ولادة مواهب شعرية فتية وشابة، ما زالت تبحث وتنقب عن الطاقة الشعرية المكتنزة في قصيدة شيركو بيكس،التي تجعل هذا الكائن الشعري الجديد أكثر تماساً مع وعييه الشعري.
و أخيراً.. تجدر الإشارة إلى أنّ الشاعر والناقد والمترجم لقمان محمود قد صدر له حتى الآن مجموعة كتب باللغتين الكردية والعربية، وهي: أفراح حزينة، خطوات تستنشق المسافة، دلشاستان، إشراقات كردية (مقدمة للشعر في كردستان)، مراتب الجمال، ترويض المصادفة، القمر البعيد من حريتي، شرارة الأناشيد القومية في الغناء الكردي، أتابع حريتي، و تحولات النص الأدبي.
لقمان محمود