رغم أن الخطاب الإعلامي والسياسي لمختلف حركات المعارضة السورية بجناحها العربي ,يتحدث عن الدولة العصرية "العلمانية ,المدنية,المواطنة " إلا أن غالبيتها رغم تباينها الإيديولوجي بين الاسلاموية والقوموية واليساروية واليبراليوية ,تقوم على الصعيد العملي بنسف صدقية خطابها هذا من أساسه ,
كونهم يطرحون أوراق وأفكار"معايير" قروسطية حول بناء الدولة,تناقض تماما المعايير الحديثة في تأسيس الدول وبناء المجتمعات العصرية ,فالدولة الحديثة التي وضعت أسسها الأولى عقب الثورة الأمريكية والفرنسية والثورات الدستورية والديمقراطية التي اجتاحت أوروبا بين 1830 و 1848 ركزت على مبدأ المواطنة بالدرجة الأولى ,أي المساواة بين جميع سكان الدولة في الحقوق والواجبات دون تمييز بين عرق أو ديانة أو مكون اجتماعي ,بموجب دستور ديمقراطي اقره الشعب ,وما يلاحظ هنا انه تم توسيع مصطلح المواطنة ليشمل كافة سكان الدولة لتكون المواطنة في تنوعها وألوانها رابطة انتماء واحدة مشتركة بين سكان الدولة ,حيث تحل رابطة الانتماء إلى الدولة محل الرابطة العرقية أو الدينية,وهذا لا يعني إلغاء هذه الانتماءات الفرعية لفئات السكان المختلفة بالعكس رابطة المواطنة والانتماء إلى الدولة تنمي الخصوصية العرقية والدينية لمواطنيها وتحفظ حقوقهم وحرياتهم الدستورية ,ولكن لماذا حلت رابطة المواطنة محل الرابطة القومية أو الدينية,كما هو معروف فقد شهدت أوروبا حروب دينية "أهلية"مأساوية في القرون السابقة ,وكذلك صراعات عرقية مدمرة , كالتي توشك أن تنفجر في الشرق الأوسط حاليا,وبناءا على ذلك فقد طرح رواد الفكر السياسي في عصر النهضة والقرون التالية,فكرة المواطنة أي الانتماء إلى الدولة كحل عملي للصراع المذهبي والعرقي بين أبناء الشعب الواحد, حيث بموجب هذه الرابطة يضمن الجميع حقوقهم فلا تكون هناك حاجة للصراع عليها,بعكس الرابطة القومية أو الدينية التي تفرق بين السكان في الحقوق والواجبات بناءا على الهوية العرقية أو المذهبية,ففي دولة أكثريتها كاثوليك يتعرض البروتستانت للاضطهاد أو العكس ,وفي مجتمع تتسلط عليه قومية محددة أو مكون قبلي معين يتعرض باقي طوائف السكان للقتل والمظالم ,فتكون النتيجة صراعات وحروب أهلية,فجاءت رابطة المواطنة لتضع نهاية لهذه الامتيازات المجحفة ,ولم يعد هناك مواطن درجة أولى ودرجة ثانية ودرجة ثالثة حسب هويته الدينية أو الاثنية,بل درجة واحدة لكل المواطنين,وبالتالي أصبحت علاقة المواطن بالمواطن وعلاقة المواطن بالدولة والمجتمع لا تقوم على أساس انتمائه العرقي والديني بل على أساس انتمائه إلى الدولة ,ما يضمن احترام حقوق الجميع,وقد استفاد الأمريكيون من التجربة الأوروبية ليؤسسوا دولتهم منذ البداية على مبادئ المواطنة,فالدستور الأمريكي لا يحتوي تعريف قومي أو ديني لدولة ( الولايات المتحدة الأمريكية ) بل يضع هوية جامعة لهذه الدولة وهي الهوية الأمريكية التي تعبر عن سكان الولايات المتحدة كافة مهما اختلفت أعراقهم وأديانهم وألوانهم , فالهوية الأمريكية صيغة متطورة ترضي كافة مواطنيها لأنها لا تحتوي إشارة إلى قومية او ديانة او مذهب محدد ,بل أنها تشير إلى جميع مواطني أمريكا وبالتالي تخلق الطمأنينة لدى الجميع بان حقوقهم في دولة المواطنة مضمونة ولا يمكن لأي طرف التجاوز عليها,ليس هناك نص قانوني او إجراء حكومي بمقدوره حرمانك من حقك في التعبير عن هويتك القومية والدينية ,ولن تدخل السجن إذا صرخت في وجه الرئيس الأمريكي وقلت أنا كردي او عربي,هذا لأنك مواطن أمريكي ومن حقك التمتع بكامل حرياتك ضمن الوحدة الأمريكية,أن هوية الدولة والمواطن في الدول الغربية مستمدة من أرضها الطبيعية وليس من قومية او ديانة دون غيرها,حيث يكون الانتماء إلى الدولة وأرضها وفي هذا السياق فان مفهوم المواطنة تطور واتخذ صيغ جديدة حسب ظروف كل دولة والتكوين الاجتماعي للمجتمعات الحديثة,لنجد صيغ من الحكم الذاتي والفيدرالية والكونفدرالية وغيرها,وبذلك نجح الفكر السياسي الغربي في حل معضلة الدولة والهوية لينهي زمن الحروب العرقية والدينية,على أساس أن ارض الدولة هي الهوية الجامعة لمختلف شرائح سكانها,ما يمنع تسلط فئة على أخرى .
هنا نرجع إلى الجناح العربي في المعارضة السورية ,حين يتحدثون عن مطالبهم العامة وهي دون شك مطالب الشعب السوري تراهم يبرعون في التغني بأسس دولة المواطنة,وهم اعلم منا بهذه الأسس , ولكن حين يتم الدخول في التفاصيل ومرحلة وضع النقاط على الحروف ,فأنهم يتنكرون جملة وتفصيلا لأسس دولة المواطنة , حيث يقومون بتشويهها وتجزئتها بما يتوافق مع أهوائهم الإيديولوجية التعصبية,مع انه لا يمكن تجزئة القوانين الفكرية والعلمية التي تم التأكد من صحتها,فالديمقراطية إذا تجزأت لا تعود ديمقراطية ,فهل يجوز منح الديمقراطية والحقوق للمواطن العربي او المسلم في سوريا وحرمان بقية المواطنين من القوميات والأديان منها,وهل يجوز فرض الهوية العربية – الإسلامية على الدولة السورية وعلى المواطن السوري ,إذا كان هناك قسم من السكان غير عرب وغير مسلمين,هذا ينافي معايير دولة المواطنة الحقة ,إن ربط هوية الدولة بقومية معينة أو ديانة محددة,يعني تدمير الدولة وليس بنائها,خاصة إذا كانت هذه الدولة مثل سوريا متعددة الأعراق والأديان,لان التخصيص يعني إلغاء الأخر وهذا الأخر من حقه الطبيعي أن لا يقبل الصهر والتذويب ولا هضم حقوقه ولا محو هويته الذاتية ولا التهميش,وبالتالي تبدأ الصراعات الأهلية وتنتهي الدولة,فالي متى يبقى أفق هؤلاء ضيقا هكذا لا يجدون الدولة إلا تنظيما عشائريا استمر بطريقة ما إلى القرن 21 يعني التعصب لسلالة عرقية,وبالتالي تكون الدولة لهذه السلالة فقط لا غير,بينما الحل المنطقي والعادل والذي يرضي كافة مكونات الشعب السوري موجود,نحن مع أن تكون للدولة السورية هوية,والهوية السورية هي الجغرافية السورية بحد ذاتها,فحين نقول سوريا فأننا نعبر عن هوية جامعة شاملة لكافة فئات الشعب السوري,فالسوري يشمل العربي والكردي وباقي الاثنيات ويشمل المسيحي والمسلم والايزيدي ,بينما لو قلنا عربي سوري فإننا نخصص هوية كافة السكان بالعروبة والإسلام,ولمنع هذه الإشكالية فان الهوية الجديدة يجب أن تستمد من الأرض السورية وليس من الأعراق التي تعيش على هذه الجغرافية,فالجميع يشتركون في رابطة الانتماء إلى هذه الأرض,وعليه فان مفهوم الشعب والأمة لم يعد مرتبطا بالسلالة العرقية"العشيرة" بل بالوطن والدولة فحين نقول الأمة السورية فأننا نشير إلى كافة عرقيات الشعب السوري ,بينما لو قلنا الشعب العربي السوري فإننا نشير إلى عرق واحد,طيب وأين بقية الأعراق,والأصح هو الاقتداء بالتجربة السويسرية هذه الدولة متعددة القوميات وهذا لم يمنعها من بناء امة أو شعب موحد,لأنها أسست الأمة بناءا على الانتماء الوطني - الجغرافي "الأرض " وليس الانتماء القومي,ونفس الشيء في أمريكا فالأمة الأمريكية تأخذ هويتها من الأرض الأمريكية وليس من إحدى القوميات التي تسكن الجغرافية الأمريكية ,فأين هي دولة المواطنة التي يتحدثون عنها, إذا كانوا يختزلون المواطن والدولة في هوية قسرية يريدون فرضها على الشعب السوري وليس كله عربي – مسلم حتى يقبل بهذه الهوية " التذويبية" .
زاكروس عثمان