هي الطامة الكبرى عينها أن تقطع حدوداً بين دولٍ براً وبشكل غير شرعي طلبا للأمن وهربا من جحيم حرب مجنونة لا ناقة لك فيها ولا جمل وقد بلغت من العمر عتياً، ثمانين ونيف من السنين. تلك هي حال أمي التي قضت كل أيام عمرها في قرية صغيرة في الشمال السوري دون أن تفكر يوما في مغادرة بيتها الريفي المتواضع المزين ببضع شجيرات زيتون وبضعة حيوانات أليفة إلا في نعش محمول على أكف إلى مثواها الأخير. لكن للدهر نوائبه التي تأتي على حين غرة ومن حيث لا يحتسب وتقلب أعالي الأمورأسافلها كما الأعاصير الهائجة تقلع الأشجار المتشبثة بالأرض من جذورها وترميها.
هي العاصفةالهوجاء الممزوجة برائحة الدم قذفت بأمي العجوز إلى ما وراء الحدود لتقضي أول عيد لها خارج قريتها بعيداً عن شجرتها التوت التي زرعتها قبل اربعين سنة وما لبثت أن التفت أغصانها وتفرعتحتى غطت مساحة واسعة من فناء البيت يستظل بظلها الناس وقت الأصيل أيام الصيف لاحتساء الشاي واللبن الرائب وتبادل الأحاديث.
زرتها خلف الحدود بعد فراق استمر أربع سنينفضمتني إلى صدرها وضممتها وشمت رائحتي وشممتها وقبلت وجنتي وقبلت يديها وبكت علي وبكيت عليها وشرعت تشكو لي عن حالها وحنينها إلى ما خلفت وراءها من الحجر والشجر والمدر والأنعام وتقول بصوت أقرب إلى النشيج: لا أدري من يسقي شجرتي؟ هل هي مازالت حية أم يبست؟ ليتها هاجرت معنا إلى هنا. متناسية أن الشجرة الأصيلة تذبل وتموت إن اقتُلِعت من تربتها الأم وزُرِعت في تربة غريبة، وتجهش بالبكاء فأطيب خاطرها وأحاول أنسيها مأساتها ولكنها تعود بعد دقائق وتسأل: هل من خبر عن البقرة؟ هل ماتت أم أن هناك من يعلفها ويسقيها؟فأجهد في ثنيها عن التفكير بما يؤلمها ويرفع ضغط دمها بشيء من الهزل والهرج إلا أنها سرعان ما تقاطعني وتقول: وماذا عن دجاجاتي!
أصابني سلوك أمي باضطراب عقلي وتخليط ذهني فيما إذا كنت أتعامل مع أمي الحقيقية أم مع عجوز من فلسطينيي النكبة اللواتي أجبرن على ترك بيوتهن والتشرد في المجهول. فهي تعلق مفتاح دولابها على خاصرتها خشية أن تضيّعه وتضطر إلى كسر الدولاب حين العودة، وتسال أخي كل يوم عن مفتاح باب البيت وضرورة الحفاظ عليه. وهي لا تدّخر من المؤن إلا ما يكفيها يوما أو يومين لأنها دائما على يقين أنها ستعود إلى بيتها اليوم أو غداً.
واليوم، أول أيام عيد الفطر، اتصلت بها أهنئها بالعيد وأسأل عن حالها وصحتها إلا أنها وجهت الحديث إلى ما يشتهي قلبها، إلى حيث موطن عشقها وسعادتها ومكمن عزتها وكبريائها ومبعث رفعتها وافتخارها وقالت: ترى هل بقي أحد في القرية ليزور قبر أبيك وجدك ويقرأ الفاتحة عليهما؟ وهل بقي أطفال يمكن توزيع الحلوى عليهم في هذا اليوم المبارك؟
يا أمي!
إنها شامخة لم تدنيها رزايا الدهر مثلما دناها فراقهاعن شجرتها وقبري زوجها وأبيها.