Share |

الـقصيدة والسيرة في قصائد (وسيلة لفهم المنافي) للشاعر الكردي لقمان محمود…بقلم:د. قيس كاظم الجنابي

يعد المنفى حالةً محفزةً للشاعر،  في التعويل على الذاكرة،  لانه يعيش حالة شك وريبة،  وتوجس من الحاضر، ومن الامكنة التي يتنقل بينها،  فما زالت روح المغامرة والخوف من الحاضر والامكنة المحيطة مسيطرة عليه، اذ تبدو الشخصيات التي تحيط بها  غامضة وغير واضحة؛ لهذا يبقى المنفى حالة مثيرة 

ومتوجسة في حياة وسيرة الانسان/ الشاعر، وهذا ما يبدو في قصائد الشاعر الكردي (من سورية المقيم حالياً في السليمانية)  لقمان محمود (وسيلة لفهم المنافي)، لان المنفى يفجر عقدة المسكوت عنها، ويستحضر اصدقاءه، ومجسات الامكنة التي عاش فيها؛ لهذا نجد قصائده تعتمد على اسلوب السيرة في سياقها الشعري ؛ فضلاً عن الحوار، واعتماد الضربة السريعة المركز التي تكشف عن احساسه بالراحة في نهاية كل مقطع، اذ تختلط الحياة لديه بين الحرب والحب، والتاريخ المتعرج/ تاريخ الذات / تاريخ الآخر / تاريخ الامكنة والاشياء والشخصيات؛ وهذا ما يسمح له باعتماد بنية السيرة الذاتية المفعمة بفضاء سينمائي، يحاول استثمار الرموز والدلالات والاساطير للتعبير عن افكاره المضمرة؛ لذا تبدو قصيدة (التراب) مشحونة بالذكريات والمخاوف ؛ يبدأها بقوله:
مثخناً بالذكريات، كغُبار مفجوعٍ بالتراب 
هكذا أراني متشبثاً باللامكان، وبالقبر الذي يتناثر 
في المنافي.
أمضي إلى بيتي الاول، أمضي إلى طفولتي 
أتنفسُ البيت الطيني، كأنني رئة التراب . (ص5).
يتشبث المنفي باللامكان او القبر، فكلاهما يحمله الى التلاشي، قصائده جميعاً محمّلهً بعبق الماضي والذكريات، وبجوانب مثيرة من سيرة الشاعر، وهو يرافق ابناء شعبه بين حرب وحرب،  وبلد الى بلد،  كما في قصائده (كتاب شنكال، كتاب السيرة، نوروز، قالت دلشا، الجهات، السر الكسول لنوفا، مفتاح ارمل، لست لي) وغيرها من القصائد، بيد ان القصائد الاكثر اهتماماً وتعويلاً على السيرة  هي قصيدة (قالت دلشا)، وقصيدة (كتاب دلشا )، الثانية هي تتمة لقصيدة (قالت دلشا )؛ بينما يتوزع كتاب (السيرة) الى (سيرة البرابرة الجدد، سيرة صديق عزيز، سيرة الانبياء، سيرة عامودا، سيرة الثورة، سيرة الدماء).ويعد( كتاب شنكال ) تنويهاً إلى أن كلمة( كتاب) هنا، تحيل إلى (سيرة شنكال)، والى الحروب التي تقاذفتها؛ لهذا يخاطبها فيها بطريقة شبه مسرحية:
  آه.. شنكال،   تعبت هذه الحرب 
وكأنّها مشت آلاف السنوات . (ص 18)
في اشارة الى الشعب الكردي، في اكثر بقاع العالم، لهذا يفرد مقطعاً منها بعنوان (حمامة الايزيدي)، مشيراً فيه الى ميله الى السلام، ورفضه للحرب، ومقطعاً آخر عن (الحجل) وآخر عن (شهداء واقفون في جبل سنجار)؛ مما يشير الى قصيدة (كتاب شنكال) وهو محاولة لقراءة سيرة الايزيديين (الكرد)، ومعاناتهم؛ ففي المقطع (ج) من (شهداء واقفون في جبل سنجار) يقول:
دون كلل تمشِّط الهزيمة 
ضفائر بطولاتها 
في أغاني الحرب .( ص 28)
فالسيرة سردية خاصة تحاول تطويع شاعرية النص، ورفعه لان يكون قادراً على سرد الذكريات والآلام، عبر لغة شفافة، بسيطة مقنعة وواقعية، بعيدة عن التجريب، مع محاولات لتوظيف بعض الرموز في إحالات خاصة.
ففي( كتاب السيرة ) تقترن المقاطع بكلمة (السيرة) بوصفها تتمة رئيسية، قادرة على فهم العلاقة بين الذات والموت، أو بين الانسان والحرب؛ لهذا ينتهي بمقطع (سيرة الدماء) عائداً الى قصيدة (التراب) حيث تبرز العناصر الاربعة للوجود: (الماء، النار، الهواء، التراب ) في طفولة الفلسفة والعلوم المبكرة، وهي محملّة بعبق الانسان ودماءِ الحروب؛ ويعد  مثل هذا الاسلوب في ترتيب القصيدة على مشاهد صغيرة، وربما أبيات متناثرة واحداً من الاساليب التي تتعلق بتقنية قصيدة السيرة التي تستنهض بنية السيناريو، أو الحوار، ظاهراً، وغير ظاهر؛ لهذا فان قصيدته (قالت دلشا)، كانت مقدمة لاستنهاض شخصية (دلشا) في قصيدة (كتاب دلشا)، عبر عدة مقاطع، ليست أكثر، وهي ذات ضربات سريعة، ومكثفة وقادرة على صياغة الفكرة بجمل مفعمة بالحياة، كقوله: للمفاتيح ذكريات 
لكن في ذاكرة الاقفال (ص 43)
وهذا ما يتكرر في قصيدة (الجهات)؛ حيث يقول:أغلب النساء،  يمتن طواعية
في خندق المرآة . (ص 48)
اما في قصيدة (السر الكسول لنوفا)؛ فإنها قامت على بنية السيناريو، في محاولة للتزاوج بين القصيدة والحوار المسرحي، أو عبر مشاهد مختلفة، وأحياناً متبادلة بين القصيدة المكثفة، وبين سردية السيناريو، من التنظيم الشعري المتكون من حقيقتين وملحق، بعد كل حقيقة نشيد،  وفي الملحق مقطعان لكل منهما هامش؛ ففي حقيقة 1 يقول:
 نوفا:أنا الارض وجميع الرجال طيور 
حاولت جاهدةً، أن تحطّ
لتذهب جميع محاولاتي 
سدى في إجاد المرتفع.هامش: بقيت - "نوفا" - بعين واحدة
لشعبٍ أعمى. (ص 56)                     
فـ (نوفا) هي الأم/ الارض، رمز وجود الانسان، ورمز الوطن، وكذلك كانت (دلشا) في (كتاب دلشا ) التي هيمنت على القصيدة وجعلتها سرداً لسيرتها، عبر عدة مقاطع هي (مطلع اول، مطلع ثاني، ومقطع ثالث، ومقطع رابع )، وعدة مقاطع اخرى (أـ عسل كسلان، ب ـ دلشا احبك اكثر، ج ـ الانتظار المؤبد، د ـ هاتف دلشا، هـ ـ دائماً شجرة،  وـ يد دلشا،  زـ العذاب الجديد )، وبعض المقاطع يتكون من عدة أجزاء صغرى، كما في مقطع (دائماً شجرة) حيث يقول في الاول:
أعرف ان الشجرة مرضت 
لكنها خالدة .....لا تموت 
هي فقط
تعرت من ثيابها الخضراء. (ص  90)
فالجملة الاخيرة تدلُّ على الخريف، وموت الاشجار؛ وهي ضربة سريعة موجعة وقادرة على التوغل نحو الاعماق، للتعبير عن قوة الكلمات باتجاه رعونة الرصاصة وطيشها، والشاعر صاحب قضية، يحمل فكراً ثورياً يبحث فيه عن خلاصه من دوامة الأشياء، و يحلم بوطن كردي موحد. اذن فهو صوت قومي مناضل ,محملٌ بآمال واحلام كبيرة، ولغته مرنة، وواقعية تستجيب لمتطلبات الموقف، وقد وزع بعض الكلمات على فضاء صوري خاص حتى يمنحها بعداً تصويراً واضحاً في أكثر من قصيدة، كما في (كتاب السيرة) حيث يقول:
     التي ترقص الآن 
    غ
    ر
   ي
   ق
   ة
   في ذاكرة السفينة المتهالكة
   لأحلام المهاجرين (ص32)
يبدو النفي الذاتي مهيمناً على نفي اللغة والحروف والكلمات، وتبدو تقنية السيرة جزءاً مكن الاحساس الداخلي بالنفي. غالباً ما تكون صورة الحرب مناهضة لصورة السلام، وهي حاضرة في صور ورموز كبيرة أبرزها رموز الحياة والموت في الاساطير والاديان والثقافات، والشاعر لقمان محمود محمَّل بعبق التراب، والارض وصور الطبيعة، كما هي الحال لدى أغلب الشعراء الكرد، ولكنه حاول تقليل فضاء واقعية، وصورها بنوع من الإحالات الرمزية للنار، والتراب، الاشياء، حيث ظهرت (الشجرة) بوصفها رمزاً مهيمناً مع الارض، وكذلك مع رمز التفاحة والمرأة والنار، والوردة، والدم .. وما أشبه ذلك، فمن رموز الشجرة، العصا، التي تقود الاعمى الى مبتغاه، كما في قصيدة (النوم الاخير) التي بنيت بناءً مشهدياً/ حوارياً واضحاً، حيث يشير أكثر من مرة إلى علاقة العَمى بالحياة، أو انها تعبير عن البحث عن الخلود، إذ يقول:
  في هذا المساء
   أدور كأعمى لا يهتدي لعصاه 
   بل لشجرةٍ تبكي 
   فتسقط منها عصافيرٌّ ميتةٌّ (ص9).)
وفي (سيرة عامودا) يقول:
عامودا ليست جميلة جداً 
 لكن لها قلبٌ وسيم.
  عامودا ليست شجرة 
 لكنها حكاية طويلة في كتاب الغابات.  (ص 43).
وقد يختلط رمز الشجرة، برمز التفاحة  الذي يعود بنا إلى بدايات نشأة البشرية الأولى، أو هبوط آدم وحواء من الفردوس الأعلى إلى الارض المشحونة بالصراعات؛ إذ يقول في (مفتاح أرمل):
  لم أرها إلا باباً للحكاية ؟
  :نصفها شجرة مقدسة 
تحرس التفاحة الأولى من الجنة 
ونصفها الآخر 
سرابٌ يعتني بالماء الخالد. (ص 61). 
 فثمة أكثر من رمز في هذا المقطع، منها (الشجرة المقدسة) و(الحكاية) الخاصة بنزول آدم وحواء من الفردوس إلى أرض الواقع، والتفاحة التي تمردا بسببها، و(الماء الخالد )، الذي ربما يريد بهِ ماء الحياة، أو ماء الخصب، وثمة صلات جوهرية بين النص وحكاية نزول عشتار وتموز الى العالم السفلي؛ فالمفتاح، هنا إحالة واضحة الى عضو الذّكُورة في تواصله مع المرأة. وقد سبق للشجرة وانه جاءت في قصيدة (انتظار) مقرونة بالغراب، في إشارة الى اول جريمة وقعت في التاريخ بين إبناء آدم، او الاخوين (هابيل وقابيل)، في محاولة منه لاقتناص فكرة الصراع الدائم بين الاخوين منذ ذلك العهد، وجاء وصف الشجرة أيضاً بشجرة الرحمة في قصيدة (ليست لي) مقرونة بالعصافير؛ لهذا عبرت الشجرة عن الحياة في هذه القصيدة، بينما جاءت الشجرة في (كتاب دلشا) وهي بصحبة رموز كثيرة في هذه القصائد، منها (الكهف) الذي يمثل الخلاص بالنسبة له، من ضغط الحياة، والجنون، والالوان، والنار التي يحبها سكان الجبال لأنها تقلل من برودة الجو، وقسوة طبيعتهم، وجاء (كاوا) و(ايوب) و(الدم) ورموز دينية أخر مثل: (القرآن، التوراة، الانجيل، الانبياء، عامودا)؛ بينما تتصف علاقته بالعذاب وكأنها متينة، لان معرفته بأيوب علاقة شخصية، كما في قصيدة (ليست لي ) حيث يقول:
طوال هذه المدّة أتابع مائي 
في مجرى الصبر 
رغم أني أعرف أيوب
معرفة شخصية. (ص 64).
  فالخضرة والماء والارض هي صورة مناهضة للموت والجفاف والخوف، فهو بالتالي يتابع الماء بوصفه رمزاً أبدياً للخصب، خصب الارض، خصب الرجولة، ومن هنا جاءت هذه القصائد لتشكل حضوره الشعري المرتبط بالحياة الانسانية، والموقف الفكري الذي يحمله؛ وهذا ما سمح له بأن يختار من الحياة الفطرية قدرتها على تصور وسرد الحكايات الجميلة المعبرة عن العلاقة الحميمة بين الانسان والطفولة، والارض والوجود، ودورة التواصل بين الولادة والموت وصراعها الأبدي.