إنما الأمم هجراتٌ , تشكلت من شذرات سكانية مختلفة المنشأ في بؤر جغرافية محددة خلفتها جماعات مهاجرة متعاقبة بحثاً عن الماء والكلأ , وما لبثت هذه الشذرات أن امتزجت والتحمت مع استقرار الإنسان وشكلت كلاً واحداً له مميزاته اللغوية والسيمائية والفيزيائية الخاصة . والإيديولوجيات جائحاتٌ ,
تنشأ بإيعاز من بعض النخب لغاية في أنفسهم ثم تنتشر وتسود وتسيطر على العقول ردحاً من الدهر ثم تهرم وتخبو وتتلاشى بعد حين مثل أي كائن حي . والقناعات المطلقة أقفاصٌ , وكثيراً ما تمنع حامليها من الأنطلاق الأمثل في الحياة . وكل ما في الوجود في حركة وتطور وتغير مستمر منذ أن وجدت الخليقة على سطح المعمورة حتى هذه اللحظة . وما الفكر القومي إلا حلقة في سلسلة الفلسفات والإيديولوجيات التي سادت ثم بادت منذ أن وجد الإنسان على وجه الأرض . وإنْ كان هذا الفكر لا يزال يانعاً براقاً ويتربع على عقول الملايين من الناس حول العالم إلا أن بوادر انحلاله بدأت مع دخول البشرية عصر العولمة . كل هذا يمكن للمرء استخلاصه بيسر بعد قراءة متأنية للتاريخ البشري الطويل والتمعن فيه .
ساد الفكر القومي بقوة في القرنين الماضيين , حتى أن الشيوعية بزخمها لم تستطع القضاء عليه , فما إن تصدعت الشيوعية وتفكك كبير سدنتها , الاتحاد السوفييتي , حتى تشكل على انقاضها دول قومية تتباهى بعرقها وتاريخها ولغتها وثقافتها حد التطرف . ولم يستطع كائن خلخلة دعائم الفكر القومي وتهديد كيانه منذ نشأته حتى الآن , مثلما تفعل العولمة في هذ الأيام , ذلك أن أحد ركائز الفكر القومي وديمومته يقوم على احتكار القوميين للمعلومة ووسائل التربية واستغلالهم لوسائل الإعلام وبث الفكر القومي من خلاله والقيام ببناء سور من الكونكريت يحيط بالشعب كله يلعب دوراً دارئاً أو واقياً من كل شائبة فكرية , في نظرهم , يمكن أن تتسرب إلى الناس وتضلهم عن جادة الصواب المتمثل بالخط القومي , وهكذا كان سدنة الفكر القومي يحتكرون الوعظ والتلقين على مسامع أبناء الأمة حفاظاً على استمرار الشعور القومي لديهم وتعظيمه وإجلاله وتقديسه . فجاءت العولمة لتهدم هذا السور وتحرر الناس من سطوة الإعلام القومي الموجه والمضلل بكل المقاييس .
( تركي واحد يساوي العالم كله ) هكذا كان يلقن الأتراك القوميون أبناء تركيا في ظل النظام القومي قبل عصر العولمة . وقد بالغ حراس الفكر القومي في نقاء دم الأمة وصفاء عرقها حتى أن العروبيين قالوا بانحدار الجنس العربي من رجل واحد ثم تفرع عنه غسان وعدنان ومنهما تنحدر سلالة العرب ضاربين عرض الحائط حقائقاً تاريخية ساطعة لعل أبرزها احتلال الأحباش لليمن مهد الأرومة العربية حيناً من الزمن قبل بروز الإسلام بقرون , ثم قيام سيف بن ذي يزن باستقدام الفرس إلى اليمن لدحر الأحباش , فأرسل كسرى الفرس ثمانمئة فارس حرروا اليمن من قبضة الأحباش واستقروا فيها جاعلين منها مصراً من أمصار الأمبراطورية الفارسية ومحمية من محمياتها , وظل جنود كسرى في اليمن يديرون شؤونها وأمتزجوا مع السكان المحليين وتزوجوا منهم وأنجبوا الأولاد حتى أدركهم الإسلام فاعتنقوه وذابوا في بوتقة الثقافة العربية الإسلامية وأضحوا عرباً . فكيف والحال هذه الحديث عن نقاء الدم العربي والإقرار به ؟ ناهيك عن اعتناق شعوب سورية ومصر وشمال أفريقيا الإسلام واستعرابها .
وما كان في شأن العرب من تمازجهم بملل شتى يكون في شأن الترك والكرد والفرس بل وفي شأن كل أمم الارض مهما كانت نقية العرق وصافية الدم . جاء الفكر القومي بمفهومه السياسي في أوروبا في مستهل عصر الصناعة هادفاً إلى حماية السوق القومية واحتكاره لصرف البضائع الوطنية . ثم سربت الدول الاستعمارية هذا الفكر إلى شرقنا المسلم بغية تحريض العرب على الترك لدحر الأمبراطوية العثمانية التي كانت شوكة في حلق أوروبا وهاجساً للأوربيين طيلة سبعة قرون , فانتشر الفكر القومي بين أبناء العرب والترك والكرد والأرمن ليكون سبباً لصراع مرير تخللته مجازر بشعة كالتي ارتكبها العثمانيون بحق الأرمن والكرد والتي ارتكبها العرب بحق الكرد في العراق .
قبل عقدين كنت طالباً في السني الأولى من كلية الطب في جامعة حلب , سكنت حياً شعبياً ذا غالبية عربية ساحقة مع بيوت متناثرة للكرد , يشرف بيتي على حديقة صغيرة ويليها صف من البنايات فيها بيت كردي استطعت تمييزه من خلال لباس ساكنيه , ومع مرور الأيام اكتشفت أن ابنتهم على علاقة غرامية مع جاري العربي , الطالب هو الآخر في إحدى الكليات , فالتهب قلبي بنار الغيرة القومية وشرعت أدس لهما الدسائس وأكيد المكائد بغية فصلهما وتفريقهما عن بعضهما , لم أستطع ذاك الحين أن أتخيل أن فتاة كردية يمكن أن تكون على علاقة مع شاب عربي . الآن وبعد هذه الثورة العظيمة في عالم المعرفة وما تركت من تأثير على عقول الناس أتذكر ما كنت أقوم به بحق العاشقين على حياء وخجل , وكاستغفار عما اقترفته من ذنب آنذاك قمت قبل ثلاث سنوات بالتوسط لصديق عربي عزيز عند أهل فتاة كردية كان يحبها وتحبه , ورغم أنني فشلت في توسطي هذا نتيجة تعنت والد الفتاة وتشدده إلا أنني شعرت حينها براحة في الضمير , وكأنني غسلت عاراً لحق بي في سني الشباب المبكرة نتيجة إقدامي على الإيقاع بين قلبين يعشقان بعضهما بدافع عنصري صرف . وقتها كنت أحمل البذرة القومية في وجداني وضميري مع هالة من العتمة تحيط بذهني , أما الآن فما زلت أحمل عين البذرة بقوة لكن بصورة مختلفة تماماً عما كان , فهي الآن مهذبة مشذبة مصقلة بمبرد العولمة , وذات أبعاد حضارية ومدنية , وميول إنسانية , وبعيدة عن كل عنصرية نكراء , ولا تأتي من مجرد اشتراكي مع أبناء أمتي بالدم والثقافة والتاريخ , بل تنبع من إيماني القطعي أن أبناء جلدتي مغلوبون على أمرهم , مظلومون على أرضهم , وينبغي أن يعيشوا بكرامة أسوة بشعوب العالم المتحضر .
كما يحس الألماني في هذه الأيام بخجل حين يتذكر عهد النازية والمحرقة التي تم حرق ملايين اليهود فيها , فأنا على يقين أن الآتي من الأيام سيشهد خجلاً لأبناء الأمة التركية على ما قام به أجدادهم من إبادة للأرمن والكرد , وسيحس العربي بغصة كلما وقع اسم حلبجة على مسامعه , وسينصرف الناس إلى الاهتمام بشؤونهم الشخصية ومصالحهم الخاصة بدلاً من الانهماك بالشأن العام الذي سيكون له رجاله وإداريوه , ذوي تجربة وخبرة ومهارة تساعدهم على إدارة شؤون الأمة وقيادتها بمهنية عالية بعيدة عن كل شعار أجوف وعقيدة خرقاء كما يحدث الآن في بعض دول العالم المتحضر في أوروبا وأمريكا .
أعتقد أن عهد الفكر القومي والدولة القومية يحتضر الآن , وهو بدأ بالانحسار فعلاً أمام قيام العولمة بضرباتها الموجعة بأدواتها المرنة اللطيفة العابرة للحدود . وخلال العقود القادمة ستشهد البشرية تحولاً جذرياً في هذا الشأن وسيغدو الفكر القومي طللاً يُدرّس في كتب التاريخ كجزء من التراث الفكري والإجتماعي للبشر , وحينها سوف تضعف الروابط بين أبناء الأمة الواحدة , وسوف لن يغار أحفادنا على بنات جلدتهم إن هن أحببن أشخاصاً غرباء كما فعلت أنا بالأمس , بل سيغارون على ممتلكاتهم ورفاهياتهم وخصوصياتهم .