الكمنجات
أنا الكمنجات الحزينة لكِ،
في اّلريح أّنحني
مثلما رجال غائبون
ترتعش منهم الساعاتُّ
تمتلئ القاعة بالزهور
ورائحة أّمي
كمنجات مكسورة على قبري
وردٌ ذابل من يديكِ
رعاة يراقبون مغيب الشمس
تتلوث أّصابعُهم بالريح
والموسيقيين وآلاتهم الميتة مثلي.
النوافذ
ينام ذلك الضوءُ الغريبُ على الموسيقيين
كينونة على معاطفهم
استراحة الآلات ومرآة للغرباء،
ربما سيغادرهم، فينكسر كقصب
ضوءٌ غامضٌ من حجر النهايات
كم يستغرقه الوقت ليتدفق على الموسيقيين
وهم يرحلون عن نوافذ الغرباء؟
المغنون
ترك المغنون العتبات بحناجرهم وشرودهم
فككوا الراقصين ومصاطب الآلات
ثمّ تخلوا عن كثافة أرواحنا
فأعتمتْ مع المصابيح
انحنتْ كزهور الأنهار
سلم للمغنيين ينسحبون إلى أّوتارهم
والشرود الباقي على تلك العتبات.
الموسيقيّ
كنتُ موسيقياً في الأسفل من برونز الساحات
وكذلك عابري الخريف
بخطواتهم تدوس أّوراقي ورنيني
أنا الأوتار الحزينة
وحدها الفصول تضم شجني كالأمهات
كنتُ موسيقيا
مُزدحماً بالحب والأشجار
ثم مت كالبرونز والعطش
وتلك الطاولات المهدمة تحت أمطار الغياب.
عزف منفرد
يقفُ عازف البوق يتذكّر حبيبته الصغيرة
يتذرّع بالعزف لوقتنا الأسود
ينفض عن قلوبنا البرد
والوحشة
وراءنا يحلق الحمام
وكذلك الحبيبة الصغيرة
الأحجار
بمعازفهم الفضية وقفوا على الشارع المبلط بأحجار سوداء
يحملون سنوات مديدة
وأصابع مشدودة كالأوتار
لم تكن الأحجار سوداء
إنها أّغانٍ مرتعشة ومارة كئيبون
بمعازفهم النائمة في أّيديهم يوقظون الخريف
يتوقفون قليلا
والرجل الوحيد لا زال واقفا
يتأمل الصدأ المتبقي على المعازف والأحجار
وأصابعه النائمة في جيوبه
كحجر أّسود
كحجر فضي.
المحارب
مرة أّخذتني الجلبة إلى الأسوار
لأموت هناك
ملطّخاً بالخسارة وأشواق المحاربين
أنا الحجر الحزين اختفيتُ في الحقول المجاورة
نَبتتّْ عليّ الطحالبُ
ونسيني المحاربون
الذين هجروا حبيباتهم عند الغروب
ثمارهم المؤرخون يدونون لهم الكتاب
تصدأ معادنُهم ولا يطاوعهم المساء
ليتذكروا الأسوار والحجر الحزين
كيف يتعلمون العودة؟
كيف ينسحبون إلى أّعماقي؟
أسليهم بصناعة الخرز والنسيان
في الوقت الذي أّموت فيه
أن أكفّ عن الأحجار الملونة
متناغما مع الغبار
أُبعد المحاربين عن القرون وأسوارها العتيدة
وكيفما كان
أولئك الحبيبات بفساتينهن الثقيلة
ينطقن أّبدا بالبدايات والشهقة
مرة…
كان المحاربون عند المقبرة
ينزف منهم الغروب وضرورة السيوف
كنتُ معهم… مشدودا إلى زمنهم الكبير
إلى ضلالة أّصابعهم الذهبية
أغلقوا الكتاب
كما لو أّنهم يتحوّلون إلى البياض ويفتقدون الحروف
هواء على الأسوار
ومؤرّخون يُسجّلون الحجر الحزينَ
ينقلون الموتى إلى الكتاب
هواء يضر بالأسوار ويقلب الحكاية إلى الدم.
كردستان
لحريتك البليغة، لصباحك الناقص… أّمضي
مروياً بالتذكارات
منجرفا مثل جرو صّغير
خصبا كالأغاني
كأسئلة الصغار
ملتبسا
وناشفا كقرميد
عندما لا يضرب غروبك ساعاتي
لا تتناثر ثلوجك عليّ
أختزل بدائيتي، وما بقي بين يديّ من ظلال
من بوصلة لياليك
أو اعتذار قصير مثل أّسرار المرأة على زهر
مثل أّقدامك الصغيرة والذهبية تضر بقلتي
وكما أّموت
ناقصا من تموجك
ذاهبا إلى الأسود الأعمى
لصباحك الناقص… شاحب أّنا في منتصف الوردة
وفي السيوف الميتة للقراصنة
شفتي جميلة لا يعبرها يقينك
فأزدحم… أّزدحم بالشك
ناقصا منها رجل ينزف اسمك أّبدا
الأمكنة
في تلك الليلة
في ضاحية ما
في مشغل فّنان يوناني
عَبرتْكَ الأزهارُ البرية
كنتَ مشدودا كلوحة
واسعا كفضاء
وثُمّتَ دوما
أّمكنة، أّشنات، مراكب
تذكرتَ ربيعاً، ذرفت الغياب
في تلك الليلة
في ضاحية ما
بالقرب من إطار لوحة
لقاء
هناك في البعيد
أطلقتُ يدي عاليا كقلعة
بحثتُ عن غفران أّمي، لم يرتفع صوتي أّكثر
ولم يكن بإمكاني إلا شجر الحور يفيض على نافذة أّمي
كما أّنا منخفضا أّتلقف رسائل لا تعرف كتابتها.
أو يمحوها ماء العين،
ومتفردا كبكاء خجول
أدخّن هزيمتي أمامها ولا أراها
الذي كان
كلام لن يتكرر مرتين
ونشيد ذرفته كإغفاءة المتعبين والقتلى
… عاليا.. عاليا
أكتب لها هذا الكلام
فيضيع بين حكاياتها
ومصباح عينيها المنطفىء قبل الأوان.
***
الكمنجات وقصائد أخرى لـ محمد عفيف الحسيني: شاعر سوري (1957-2022)، من أعماله المطبوعة: “بحيرة من يديك (١٩٩٣)”، “الرجال (١٩٩٥)”، “جهة الأربعاء (١٩٩٧)”، “مجاز غوتنبرغ (١٩٩٩)”، “نديم الوعول (٢٠٠٦)”، “كولسن (٢٠١٨)”.
خاص قناص