قبل ان تندلع الحرب الاهلية المدمرة في لبنان كنت قد حزمت حقائبي لزيارة العاصمة بيروت، لان شهرتها في الجمال قد ذاعت كثيرا، وانها كانت مصيفا للنخبة وأصحاب الأموال ولكن الحرب الاهلية أجلت تلك الرحلة لسنوات طويلة جدا حتى شاءت الاقدار ان اختار الخطوط اللبنانية للسفر من لندن الى بغداد عبر بيروت ، وقررت ان اكسر ذلك الجمود الطويل واتوقف لمدة ثلاثة أيام لدى العودة الى لندن، ولكن التوقف الطويل الذي امتد لثمان ساعات في مطار بيروت حفز بعض الذكريات عن لبنان واثارها وبدأت استرجع بعض ما علق في الذاكرة عن لبنان من معلومات عامة.
ما كنت اعرف من لبنان سوى الحمراء وصخرة الروشة وطباعة الكتب ودور النشر وسهل البقاع والجنوب وحزب الله والاكلات اللبنانية وغيرها، وهذه التي علقت في الاذهان تشبه ما علق في ذهني عن بريطانيا منذ الصغر كالريف الإنجليزي ومدن برمنغهام ومانشستر واكسفورد ومطار هيثرو وغيرها من الأسماء التي كانت رؤيتها مجرد حلم مستحيل ولكنه مع الأيام تحقق ولم يعد يعني لي شيئا لكثرة ما سافرت من مطار هيثرو ذهابا ومجيئا ومن مطارات أخرى محسوبة على لندن مثل مطار ستانستيد وكاتويك ولوتن ، وقد سافرت عدة مرات الى سوريا قبل ان يطالها الاحداث المؤسفة هي الأخرى وكانت ملاذا آمنا للعراقيين، وسوريا التي تجاور لبنان تتشابهان ولكن لبنان لها خصائص فريدة تميزها عن البلدان المحيطة بها.
عندما كانت بيروت تحترق بيد ابناءها كانت سوريا آمنة وتوالت الأيام ليصير العكس تماما، فسوريا صارت تعاني من انعدام الامن ولبنان صارت تنعم بالهدوء النسبي.
قضيت ثمان ساعات من ليل بيروت في قاعة الترانزيت ذات الحركة الخفيفة حيث ان جميلات السوق الحرة أكثر من الزبائن ولا أدرى كيف تحقق هذه الأسواق الربح المادي، لا أدرى، والسوق الحرة في مطار بيروت يختلف كما ونوعا عن السوق الحرة التابعة لمطار هيثرو حيث الفخامة والضخامة والتنوع. ان التجول في قسم العطور الباريسية الفاخرة في أي سوق حرة تعطي إحساسا بالمتعة وفرصة لتجربة الكثير من العطور حيث توضع امام كل مجموعة قارورة للتجربة والرش المجاني.
عندما كنا صغارا كنا نذهب الى السينما في الأعياد فقط، وكانت الأفلام في تلك الحقبة هي أفلام هندية او عربية استعراضية وقد ظل فيلم لبنان في الليل يعرض على شاشة سينما اطلس بمدينة كركوك لأشهر طويلة وكذلك الحال لفيلم (مرحبا أيها الحب) وهو الاخر فيلم لبناني استعراضي غير هادف ولكنه جميل ومثير لكثرة المطربين العرب المشهورين الذين شاركوا فيه، وكنا في ذلك العهد نطرب لكل شيء فكيف لو تطل المطربة الأردنية المعروفة بابتسامتها الساحرة وغمزاتها المثيرة سميرة توفيق وهي بملابسها البدوية تغني: بلّه صبوها القهوة وزيدوها هيل صبوها للنشامى ع ظهور الخيل
وكيف لو اطل المطرب العراقي المعروف رضا علي بمواويله واغانيه وهو ينشد:
طلعت برا البراري رحت اودعهم
شفت المراكب سرت والروج دافعهم
ناديت رب العرش قلت بلكت يرجعهم
او المطربة اللبنانية نجاح سلام ذات الأداء الراقص وهي تغني: يا ريم وادي ثقيف وهيام يونس وغيرها من الأسماء اللامعة ولا سيما المطرب الفريد في أدائه فهد بلان وهو يغني بصوته الرجولي وقامته الطويلة:
واشرح لها عن حالاتي/ روحي عليل لأجلها/ رح يا طبيب لأرضها/ سلملي عل يحبها
وطوال الثمان ساعات التي قضيتها في المطار حيث لم استطع النوم لدقيقة واحدة ازعجتني بعض النداءات التي كانت تذاع عن طريق مكبرات الصوت أقول ازعجتني لأنها كانت بلا معنى، منها اعلان عديم المعنى وهو (يرجى من المسافرين الحضور الى المطار قبل موعد الرحلة بثلاث ساعات) ولا ادري من يستفيد من هذا التوجيه والاحرى ان يبلغ المسافر هذا الإعلان حال استلام تذاكر السفر وليس عند الوصول الى المطار ، والاعلان الاخر هو( يمنع التدخين في المطار منعا باتا) والصحيح ان يقال يمنع التدخين في صالات المطار الا في الأماكن المخصصة لأني وجدت هناك أماكن مخصصة للتدخين والمدخنين.
وعندما اهتديت الى مسجد المطار استبشرت خيرا وقلت سأنام قليلا ولكن النوم ابى ان يداعب معاقد الاجفان تماما، ولكن أسعدني ذلك المسجد الذي يشبه مساجد المطارات الأخرى فهي صغيرة في المساحة وبسيطة في المظهر الا انها حميمية للغاية اذ لا تجد فرقا بين المسلمين هناك فيصلي الشيعي مع السني في مكان واحد بلا أي حساسية وحزازات.
ومع ساعات الفجر الأولى وطلوع الشمس رأيت بيروت في أحضان الجبال المسكونة بالعمارات السكنية، وجميل ان يرى الانسان مدينة تصحو من نومها فوجدتها جميلة ساحرة محفزة ولم يبق سوى انقضاء الوقت وحلول موعد العودة لأتوقف في بيروت لثلاثة أيام اكتشف خلالها معالم المدينة عن قرب.