في آخر زيارةٍ للفنّان جمال سعدون إلى ديركا حمكو التقيته، فقلتُ له مازحة:
-أنت أيضاً تركتَ ديرك، فقاطعني على الفور، وقال:
أعرف ما الذي تريدين قوله لي. تريدين أن تذكّرينني بعبارتي التي كنتُ أكرّرها ويكرّرها كلّ ديركيّ عاشق لديرك: "أنا كالسّمك الذي يعيشُ في الماء، كما أنّه يموت إذا خرج منه ويختنق، أنا أيضاً سوف أموت وأختنق إذا تركتُ ديرك، وابتعدتُ عنها"، ثمّ أضاف:"صدّقيني كلّ مَنْ يبتعد عن وطنه وأهله ومعارفه يظلّ الحزن رفيقه والتّعاسة أنيسة أيّامه ولياليه. الغربة مرّة، الغربة تقتل، وإذا بقيتُ بعيداً عن أرضي فالغربة ستقتلني.
أقسمتُ أن أعود إليكم، إلى ديرك مهما كانت الظّروف قاسية، والأوضاع صعبة" ولكن ليس الآن، إلى بعد حين لظروف قاهرة تتعلّق بي، فأنا عاشق ديركا حمكو، وسأظلّ".
نعم، عشق جمال سعدون وطنه، وأحبّ أرضه، وظلّ مخلصاً لشعبه ووفيّاً لديرك حتّى آخر لحظةٍ من عمره الذي كان من عمر الزّهور، وهو الذي أوصى وهو يعاركُ الموت على أن يُدفَن في ديرك، ملهمة عشقه، ومتنفّس صوته، ومنبع غنائه.
جمال سعدون التحق بقافلة الشّهداء من أبناء وبنات شعبنا الذين ماتوا في بلاد الغربة بحسرة تراب الوطن ونسيم الأرض وحضن الأهل والمعارف ومربع الجيران والأصدقاء، وكيف لا يكون شهيداً مَنْ يرحل بديار الغربة وحيداً، بائساً، متأوّهاً من حرْقة الفراق والبعد؟!
فيا حسرتي على شبابِ وطني الذينلا يحصدون من بلاد الغربة سوى النّدم والأسف.
يا حسرتي على رجال وطني الذين يفتقدون إلى النّخوة التي كانت زادهم على أرض الوطن.
يا حسرتي على نسائنا الّلواتي صرن متسّكعاتٍ في مدن وبلدان الغربة، يبحثن عن فلذّات الكبد وعن الزّوج الذي يمّم صوب بلادٍ أخرى مضطرّاً، منكسر الجناحَيْن.
ألف آهاتٍ وحسراتٍ على أسرنا وعائلاتنا التي كانت ملاذ الأمان والطّمأنينة، ونبع المحبّة والتّآلف والوئام.
غنّى جمال لديرك في لحظات حزنها وفرحها. تغزّل بكلّ مَعْلَمٍ فيها. غنّى للوطن والأرض والطّبيعة والنّاس والجيران والرّفاق.
غنّى لـ"كفري حارو وباجريق وعين العسكرية، وبوخجي نادري، وعين ديور وسقلان وكانيا غَيْدا وﭙرا بافد ومم وزين، خجي سيامند، ولكلّ مدن وقرى الكرد ونوروز..." أحيا الفلكلور الكرديّ بالقدر الذي حصل عليه وغنّاه بإخلاص.
بداية مشواره الغنائيّ كانت مع خاله الفنّان الشّعبيّ "عـﭬدو علانه" الذي كان مطرب ديرك الأوّل في ستينيّات وسبعينيّات القرن العشرين، وكثيراً ما كان يؤدّي معه الثّنائيّات الغنائيّة لنعومة صوته وعذوبته، ثمّ بدأ يقيم الحفلات الغنائيّة لوحده كمطربٍ مستقلّ عن خاله، وسرعان ما اشتهر في ديرك ومَنْ ثمّ في القرى والنّواحي المجاورة وفي باقي المناطق الكرديّة.
كما اشتهر بإخلاصه لوطنه وأرضه، فإنّه أخلص لعائلته وأسرته، فقد عُرَفَ بوفائه لزوجته التي ظلّ يهتمّ بها ويرعاها في مرضها وعجزها حتّى آخر يوم من عمرها، وحبّه لأولاده الذين ضحّى بعمره من أجل الوصول إليهم، وإيصالهم إلى برّ الأمان والسّلامة.
جمال سعدون لم يعش حتّى كأجنبيّ كرديّ على أرضه بل كان مكتوم القيد وعلى الرّغم من ذلك ظلّ يتابع مشوار نضاله في سبيل نصرة قضيته وقضيّةِ شعبه من خلال صوته وأغانيه التي كانت أمضى من كلّ السّيوف والرّماح. تعرّض إلى السّجن والمضايقة والتّهديد مرّاتٍ ومرّات، لكنّه ظلّ صامداً وتحدّى المستحيل.
والمصيبة أنّ هذا الرّجل عمل وفعل ما لم يستطع معظم قياديي أحزابنا ومسؤولي منظّماتنا الحزبيّة والمنظّمات والمؤسّسات المدنيّة على عمله وفعله لشعبه وقضيّته ولكنّه لم يُستَقبل يوماً استقبال المناضلين والقياديّين لدى أيّة جهةٍ كرديّة وكردستانيّة رسميّةٍ ومسؤولة، ولكنّ العزاء الوحيد أنّه لم يكن يكترث لذلك لأنّ شعبه منحه كلّ الحبّ والتّقدير والاحترام، وأدخلوه بسلاسةٍ وطيبٍ إلى ذاكرة القلب والنّفس والعقل وهذا أعظم تقدير قد يتلقّاه الشّخصُ في حياته.
غنّى من أشعار العديد من شعراء الأغنية الكرديّة ومعظمهم كانوا من شعراء ديرك من أبرزهم:
أنور مراد، محمد علي حنيفة "دلوفان"،جمعة ايرسي، شفكر ميرزا، نارين عمر، لوري تلداري، رضوان خرسي وآخرون. كما كان يقوم بتأليف وتلحين أغنيات لنفسه هو أيضاً.