طه خليل : شاعر كردي سوري (يكتب باللغتين العربية والكردية ويترجم عن الألمانية)، أصدر حتى الآن ستة دواوين شعرية. أول ديوان كان في العام 1988 عن دار الأهالي بدمشق، وقبل ثلاث سنوات أصدر ديوانه الأخير بعنوان "كحل الرسولة"، ورواية صدرت مترجمة إلى الألمانية في سويسرا والنمسا بعنوان "دفتر صديقي"، وحاز عليها جائزة "ايزلس أور" الألمانية، ومن خلالها مَنَحَهُ اتحادُ الكتاب النمساويين عضوية شرف، وهو عضو في اتحاد الكتاب السويسريين .
وعن دار نشر نفرتيتي للنشر والدراسات والترجمة، مصر، صدر رواية جديدة له عام ٢٠٢٢وحول روايته هذه تحدث الكاتب طه خليل لموقع الجدليَة .
كيف ولدت فكرة الرواية؟ ما هي منابعها وروافدها، ومراحل تطوّرها؟
بالأساس ثقافتي الأدبية هي روائية أكثر مما هي شعرية، وإن كنت بدأت بالشعر، بعد عودتي من الإقامة في أوروبا، ومعايشتي لأجواء البلد والبلدان التي مررت بها، شعرت أن القصيدة لن توفي بتلك المعايشة، لا سيما وأن موضوع الشعر بعد التسعينيات صار مباحاً للشاعر ولغيره، وأينما اتجهت تجد من يعلن نفسه لك شاعراً، فكانت فكرة الرواية تكبر في ذهني، لا سيما بعد أن تيقنت أنها الوحيدة القادرة على تقديم الحريق الذي نعيشه، أو بالأحرى الذي يعيشه الشعب الكردي، هذا الشعب الذي لا يزال حتى يومنا هذا يتعرض للإبادة بكل صنوفها، ثقافياً وتاريخياً ووجوداً، دون رادع قانوني أو أممي، ومن هنا جاءت الفكرة وجاء الرافد، فهناك تراجيدياً نعيشها منذ الولادة، وروايات تحدث دون أن يعيرها أحد اهتماماً، وثمة قهر يومي يمارس ضد هذا الإنسان، والذي حتى هذه اللحظة يدافع عن وجوده ليكون أخاً للجميع، وحتى هذه الأخوة ينظر إليها بعين الشك والريبة.
وككردي سوري أجدني معنياً بكل سوريا، بكل مراحلها وظروفها، من هنا اخترت الكتابة عن فترة الثمانينيات، الفترة التي جاء يارو، بطل الرواية، إلى دمشق ليدرس في جامعتها، حيث تفتحت مداركه وعاش الفترة بكل تفاصيلها الاجتماعية والسياسية، وهكذا كانت بداية الرواية من دمشق، للتطور بعد ذلك وتصل إلى جبال كردستان برفقة صلاح الدين الأيوبي واستعادة تاريخ طويل طغى عليه الكذب والدجل والديانات.
مقتطف من الرواية
لم تكن هيلا الوحيدة التي تحضر بين الحين والآخر، ثمة أناس آخرون كانوا يحضرون أطيافاً يحدثون يارو ببضع كلمات ثم يختفون، وهذا ما جعله ينشغل عن إسماعيل الذي بقي ممداً، وتحت رأسه مخدة مطرزة بخيوط حريرية ملونة، وفي منتصف المخدة صورة لمخلوق تدعى "شاه مار"، تبدو من نصفها الأعلى امرأة على رأسها تاج، يعلو على جنبيه ما يشبه القرنين، وشعر ينسدل على كتفيها، ويلتصق ببطنها في الاسفل، لها عينان كبيرتان سوداوان، وفم مرسوم بعناية، عليه ابتسامة غامضة، تخفي خلفها قروناً من حكايا شعوب ميزوبوتاميا، وأساطيرها، والجزء السفلي منها يبدو على هيئة جسد حيوان بأرجل عديدة، وفي نهاية كل رجل رأس أفعى يفتح فيه ويمد منه لساناً مشطوراً نحو الأمام، في حين ينتهي الجسد نفسه بذيل مرفوع نحو الأعلى كذيل العقرب، وفي نهايته أيضاً رأس أفعى كبيرة، تمد لسانها وتنظر بعينين شرستين إلى المشاهد.
سلمى التي قضت عمرها كله وهي تنقش وتطرز صوراً و وروداً على قطع القماش الأبيض بعد أن رفضت الزواج وقررت أن تبقى عزباء حتى الموت. لأنها سمعت من عجائز القرية أن الفتاة التي تموت عزباء ستكون في تلك الدنيا أي في الآخرة، إحدى حوريات الجنة، وقد فتنتها هذه الفكرة، واتخذت قراراً لا رجعة فيه
يفتح إسماعيل عينيه بين الحين والآخر، يحدق في النقش ويبتسم، يهز رأسه كما لو أنه اكتشف شيئاً مسلياً، في الوقت الذي بقي يارو نفسه غارقاً بين الخيوط الملونة للرسمة المتوجه في منتصف غطاء المخدة، المخدة التي أحضرها من بيت ذويه، وكانت هدية من أخته الكبرى سلمى، وكانت سلمى بنت الحاج توفو البكر، طويلة القامة، جميلة أنيقة، ممتلئة الجسم، لها كتفان عريضتان، وخصر ممشوق، ذات صوت فيه بحة محببة، ذكية، متحدثة، كان الحاج توفو يستشيرها بالكثير من شؤون المنزل، ويحترمها كثيراً، وغالباً ما كان يقول لأقربائه إن سلمى بالنسبة له تساوي عشرين ولداً، وليس هذا فحسب، بل إن فتيات قرية حسوكا كن جميعاً مأخوذات بها و بجمالها، وأناقتها، ويحسدنها على سلاسل الذهب في عنقها، والأقراط التي تتدلى من أذنيها، كانت مضرب مثل في كل تلك القرى، وكانت تمسك بيد يارو الصغير وتتمشى معه في حسوكا، فيقف الناس احتراماً لها، وإعجاباً بشخصيتها واعتدادها بنفسها.
سلمى التي قضت عمرها كله وهي تنقش وتطرز صوراً و وروداً على قطع القماش الأبيض بعد أن رفضت الزواج وقررت أن تبقى عزباء حتى الموت. لأنها سمعت من عجائز القرية أن الفتاة التي تموت عزباء ستكون في تلك الدنيا أي في الآخرة، إحدى حوريات الجنة، وقد فتنتها هذه الفكرة، واتخذت قراراً لا رجعة فيه، ورغم محاولات الكثير من الأهل والأقارب، بقيت متمسكة برأيها، "من منكن استفادت من زواجها لأتزوج أنا؟ لن أتحمل رؤية رجل يشخر وينام بجانبي في فراش واحد، إن الرجال نجسون". كانت تردد سلمى كلما طلب منها أحد أن تتزوج، ولم يشأ أبوها الحاج توفو أن يرغمها على شيء لا تحبه، هي ابنته البكر، يحبها كثيراً ولا يرد لها طلباً، ولعلها اتخذت مثل هذا القرار بعد أن عرفت أنها تستند لأب يحبها ولن يرغمها على ما لا تحب، كانت تجلس منذ الصباح الباكر وهي تمسك بيدها فتيلاً من الخيوط الحريرية الملونة، وإبرة، وتنقش رسوماً وصوراً على سطوح القماش الأبيض، تأخذ القماش الذي تختار مقاساته بعناية، ثم تخيط على سطحه رقعة من الدانتيلا البيضاء، وتبدأ بالنقش والتطريز، كانت تنقش وتحبك العقد المتتالية من خيوط الحرير دون أن تنظر إليها، كانت فقط تحدق بقطعة أخرى منجزة، تعد عدد درزات الابرة في كل اتجاه، وتعيدها على الدانتيل الجديدة لتحصل على مثيل النقش تماماً، سواء من حيث الألوان أم من حيث الأحجام والمساحات، رسوم لحيوانات غريبة، وفرسان يرفعون سيوفاً بأيديهم، ويتقابلون في معارك متخيلة في ذهن سلمى، ويسور أحصنتهم سياج من الورود تنقشها إبرتها وتلونها بكل الألوان، ورود زرقاء، وحمراء وخضراء وسوداء، لم يترجل فرسان سلمى يوماً عن أحصنتهم ولا عن القماش المطرز المعلق على الحيطان، إنهم في حرب أزلية، يقفان في مواجهة بعضهما، لا يقتربان مليمتراً أو يبتعدان مليمتراً، على القماش مثلهما ظلت سلمى لا تتراجع قيد أنملة عن قرارها بأن تصبح حورية من حواري الجنة.
وظلت على دأبها حتى كبرت في العمر، وضعف بصرها، وحتى النظارات المكبرة التي اشتراها لها الحاج توفو لم تشجعها على الاستمرار في النقش والتطريز، تظل أياماً لا تبارح غرفتها التي تعج بالستائر المنقوشة، وأغطية المخدات التي أهدت منها زوجين لكل بنت من بنات القرية كهدية حين تزوجت.
وراحت مع الأيام تعتزل الاختلاط مع الناس، وتهدل جسدها الممشوق، وصارت كثيرة البكاء والشكوى، وحين يجلس معها الحاج توفو كان يأخذ برأسها يقبله فتجهش بالبكاء وتتحسر على أيامها، فيجهش الحاج توفو الوقور ويحضنها، متمتماً لها بكلمات غامضة، كما لو أنه يذكرها بوعد الله للعذراوات.
وذات مرة وقفت مطولاً أمام المرآة وحدقت مذهولة من وجهها الذي بدا شاحباً، وظهرت عليه تجاعيد السنين، شعرت بحزن عارم وهي ترى ذلك الوجه قد تهدل لحمه، وكان مضرباً للمثل في الجمال والفتنة، وفي لحظة سريعة اتخذت قرارها، خرجت من الغرفة مطرقة يائسة، وفي غفلة من أهلها توجهت إلى البئر في منتصف الحوش، أغمضت عينيها، وأعادت خمسين سنة من عمرها الذي فات وهي تطرز الورود والفرسان على القماش، التفتت حولها وحين لم تجد أحداً هناك، أغمضت عينيها السوداوين، صرخت بكل قوتها: "ياادى وداعاً" ورمت نفسها في البئر، البئر التي ملأت منها خلال سنواتها الخمسين ملايين السطول من الماء لتسقي نعاج أبيها ومهرته الكميت التي أهداها له أحد شيوخ البدو.
يؤكد أهل حسوكا وبعد عشرين سنة إنهم يسمعون في الليل صرخة سلمى تلك وصداها لا يزال يسد آذان من يقترب من البئر، كثيرات من فتيات القرية أكدن أنهن رأين وجه سلمى يرتسم على ماء البئر، وبعضهن زادت أنها سلمت عليهن من قاع البئر، حتى أن أحد شيوخ الدين الكبار في المنطقة أرسل في طلب الحاج توفو، وطلب منه ردم البئر خوفاً من تحولها إلى مزار وفتنة، إلا أن الحاج نهض من مجلسه قائلاً: "أو تظن أن مقام ابنتي سلمى أقل شأناً من المرقد الذي بنيته على قبر أمك؟" وكانت تلك القطيعة النهائية بين الحاج توفو وكل شيوخ الدين في تلك القرى المتمددة على خصوات رجال تعلموا أصول الفقه في أشهر قليلة عند شيخ ذي حظوة في تلك البقاع.