عرفت عبد القادر أول مرة في القامشلي، كان قد زارها عارضاً لوحاته التشكيلية، ثم انقطعتْ بنا الأخبار، وبعد عشرين سنة التقيته مرة أخرى مصادفة في دمشق، فدعاني إلى بيته، وبيته لا عماد له، بيته أليفٌ، يسكنه الموطؤون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون: زوجته الودود الولود، والأبناء الذين يفزعون لخدمة الضيف، طوال الرماح. بيت واسع في بلد أضيق من إست العقرب.
أعرف أمراً يجمع عليه أصحابه جميعاً، هو أنه كان كريماً وشهماً، وابن بلد، وهي صفات نادرة هذه الأيام. كان رجل أعمال كردي، من بلدياتي، قد تطوع لطبع أعمال مبدعين أكراد، فطبع روايتي الوحيدة المسكينة اليتيمة الأسيرة، مع كتب أخرى، طبعة سريّة من غير موافقة على الطبع أو النشر، وللكتاب قصص طريفة ليس هذا موضع خبرها، ووجدت صعوبة في توزيعها ونقلها، أو إرسالها بريدياً، وذكرتُ الأمر أمام عبد القادر، فعرض أن يخزنها في بيته، في سنابلها، فكنت أنقلها نسخةً نسخةً، مثل النمل كلما زرتُ دمشق، وكان عدد النسخ التي نجحت في تهريبها لا يبلغ العشرة، كنت أتصل به فيقول: تفضل، الغداء جاهز، وكان يقيم في "قدسيّا"- ومذيعو الأخبار العرب يلفظون الاسم وداريّا من غير تشديد للياء- وكان الطريق سهلاً ومفروشاً بالمودة والشوق والمتعة، ومحاذياً للنهر، وأول وصولي أغسل قدمي، وأقول مثل الإمام أبو حنيفة: آن لأبي حنيفة أن يمدّ رجليه. اسم جدتي لأبي هو حنيفة أيضاً، فبيته لا عماد له، يمد فيه الضيف قدمه مداً.
ويكون عبد القادر مشغولاً بالترجمة والتأليف، غارقاً في العمل من غير بدلة الغوص تحت الكتب، وقتها كان يترجم مسلسلات تركية، والإقبال عليها وعلى كل الأعمال التركية، مطبوعة، ومرئية كان شديداً، وكان يشكو لي مشاكل في عمله: الوزير يريده موجها أول، وهو يريد راحة بعد التعب، وكلما رفع طلبا ضاع في ظروف غامضة! في الوزارة "لهو خفي" يحبّه حبّا جماً!
ثم دارت الأيام، بنا وبأم كلثوم من قبل، وبعمرو بن كلثوم، والتقينا في منفى إسطنبول سائحين بالإكراه، ثم في أنقره. كان قد استقر بأهله النوى في أضنه، وسكن هو في بيت صديقة تركية، في واحد من أرقى أحياء أنقره، قريباً من المجمع الرئاسي، في بيت آيل للسقوط، وموعود بإعادة الإعمار، من أجل تحصيل شهادة الدكتوراه، وكان الوقت شتاءً، والبرد شديداً، والبيت واسعاً، فيه غرف كثيرة وكتب ولوحات، لكن ليس به نار، وأنقرة كانت موحشة، كان علينا اكتشاف النار لنبدأ التاريخ من جديد، ينزل المرء فلا يجد أحداً في الشوارع، فأهل أنقرة جلّهم موظفون، أنقرة عاصمة موظفين، على خلاف إسطنبول التي تغلي بالحركة والناس من غير نار.
قال لي: أنت تكتب إسطنبول في مقالاتك بالتاء، اكتبها بالطاء.
فبُست التوبة، وشكرته، وقلتُ سأكتبها باللام كما في الأصل فضحك وقال هذا سبب كل هذا الصراع.
وكنت قد قدمتُ إلى أنقره من أجل مقابلة في السفارة الألمانية، قذفني يانصيب الأقدار إلى ألمانيا من غير ميعاد أو سعي. نفيق في الصباح ونفطر على شاي و"محمّرة"، وهي طعام مصنوع من دبس الفليفلة الحمراء متبلاً بالخردل والزيت وأفاويح أخرى، ولبن، وكان فناناً في إعداد ألوان الأطعمة والموائد، يستطيع المرء أن يكتفي فقط بالخبز الجديد، الذي خرج من بيت النار يغني، والمحمّرة التي يتفنن في صنعها، وذقت أول مرة عنده سلطة البندورة باللبن، وفي الغداء كان يعدُّ طبخات لم أذقها في حياتي، كان يدبِّج قصائد المعدة على مقامات الموسيقى: نهاوند وسيكا وجهار ودو، ويعيش ببطء واستمتاع، وذكر لي أن الجيران اشتبهوا فيه، واشتكوه للشرطة، الشبهة هي أنه وحيد، ولا يُرى إلا لماماً، فالأتراك قوم فضوليون، ويراقبون الجيران، وحدث هذا مرتين: مرة في أنقرة، ومرة في أضنة، والشرطة التركية أرقى من شرطة نيويورك، جاءت ولم تجده، وسألت عنه الجيران، ثم غادرت ولم تعد.
فقد عبد القادر بيتاً جميلاً في دمشق، ومزرعة في إدلب، وكان أول سؤال سألته: متى وكيف قررت مغادرة سوريا؟
قال: دعيت إلى اجتماع ترجمة مع وفد إيراني- فهو عضو جمعية الترجمة في اتحاد الكتاب العرب- وأحد مترجمي الرئاسة، وكان مدير الجلسة هو مدير التلفزيون الإيراني، وخطبت بثينة شعبان خطبةً قصيرة عن سوريا العلمانية بغُنتها المعروفة، قال عبد القادر: هنا وثب مدير التلفزيون الإيراني من كرسيه وثبة النمر، ودار حول الطاولة، ووقف أمام بثينة شعبان، وبعق فيها بعقة إسرافيل في الصور: لا أريد مرة أخرى أن تذكري العلمانية، إيران اسمها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وستكون سوريا كذلك، ومسح الأرض بها، فازدادت الأرض قذارة. قلتُ لنفسي (والكلام لعبد القادر): لن تسكت هذه اللئيمة الحيزبون، على شهادتي هذا المشهد المشهود، موظف إيراني صغير يذلُّ مستشارة الرئيس الرقطاء إذلالاً ليس له مثيل، خفت من الانتقام، فعدتُ إلى البيت، وحزمنا الحقائب، وقرأنا دعاء السفر إلى تركيا مباشرة.
وهو يروي لي، كان ينظر إلى السكين في يدي، وكنا دائماً قبل الشروع بالطعام، نذهب سوية إلى الفرن، ونشتري ما يكفينا زاد يومنا، من غير زيادة أو نقصان، فقال: يا أخي أنا فلاح، أقدس مثل أبي وجدي الخبز، ولا نهدر لقمة واحدة، كفاك تقطيعاً للصمونة المسكينة.
كنت أهوى تقطيع الصمون بالسكين إلى شرائح دائرية، أما الرغيف السوري فأقطعه بالمقص إلى مثلثات كما في المطاعم.
وكان الأصدقاء قبل أن يكون في سورية قيصر الشهداء تحت التعذيب، يلقبونني في وردية العمل بالقيصر: فمساهمتي في الطبخ كانت بالمقص، "السيسز"، أقصُّ الأرغفة إلى شرائح ومثلثات هندسية بالمقص أو بالسكين، كما في المطاعم الفاخرة.
فبستُ التوبة، وقبّلتُ إصبعي الخنصر على الهواء مباشرة. وأنا كل ما أقول التوبة ترميني المقادير. وقد رمتنا هذه المرة رمية تبيضُّ منها المقادم.
المرحوم كان يغار على الخبز،وكنت أعشق الأبيضين: السكر والملح، وهناك أبيض ثالث هو أقتَلُ الثلاثة..
فيقول: أشو هو؟
أقول: البيض المكنون.
فيضحك.
كنت قد أبديت إعجابي أكثر من مرة بلوحة من لوحاته، فقال وكان كريما، لا يقول لا قط: خذها
قلت: أين سأعلقها يا أبا الخير، لم يعد لي بيت ولا حائط أعلق عليه اللوحات.
وتلوت له قصيدة لجكر خوين بالكردية يقول فيها:
اليوم أدار لي الشباب ظهره
ابيّضَ شعري، وبلغ مني شيبتي
وتساقطت مني أوراق وردتي
ونفخ الأجل ريحه على شمعتي
كانت فرانكفورت تتواصل يومياً مع أنقرة، أستشيره في ما غمض عليّ في الشأن التركي، وكنا سعيدين بسقوط الانقلاب، ونأمل في أن يكون حجرة عثرة للثورة المضادة، قلت له: أنت تحب اللبن يا أبا الخير، لا يخلو لك مقال من ذكر اللبن، وهو طعام الفطرة: اللبن المسكوب، الذي يلذعه الحليب يخاف من الزبادي.. كانت مقالاته نابضة بالحياة وعسل الأمثال الشعبية، ورث من أبيه الحكاء، الذي كان تنصت له المجالس في أدلب وكأن على رؤوسها الطير، ويأخذ من فمه المؤرخون التاريخ، أمثال المؤرخ فايز قوصره.
وكنت أراه أفضل من يكتب في الشأن التركي، وأعدد له الأسماء التي تكتب في الشأن التركي، والهوى يغلبها جميعاً، وكنت أُسَرُّ بثنائه على نصوصي. ونتبادل الرأي أحيانا قبل النشر.
كان رجلاً شهد عصره، والتقى بشخصياته: عبد الله غل، الأسد من قريب، لكن الرجل كان بعيداً دوماً ولا يطال، أدونيس، اورهان باموق، عزيز نيسن... كلما أعيتني كلمة اتصلت به: بلكي (يمكن) كلمة ما أصلها؟
قال: إنه بحث عنها، ويرجح أنها فارسية. كثير من الكلمات الفارسية تسربت إلى التركية إبان الاحتلال الفارسي لتركيا.
اتصلت به مرة أطلب منه طلباً من طلباتي العجيبة: لي صديق ألماني، ولا أعرف كيف أشكره، وقد وجدت أن أشكره رسماً، سأرسل لك صورته، وترسمها له كارتون أو رسم عادي؟
فقال: اختر.. أنا الآن في استراحة، أفضّلُ أن ترسمها ابنتي إنانا، فأرسلتها لها، فرسمتْها، وسرَّ بها صديقي الألماني.
بعد مرضه كفَّ عن التواصل مع الأصدقاء، واحترمنا انتظاره للموت، صرتُ أتواصل مع زوجته وابنته إنانا، أسأل عن صحته وأحواله، كنت أبحث عن طريقة لمواساته، واستئناس الموت، لكني لم أجد سوى القلم باكيا.
بعد التعرف على الأدب التركي الذي عشقته، أقلعت عن القراءة للفدان ماركيز.
انقطع بيننا الاتصال منذ أن صارت إصابته بالسرطان مؤكدة، أسرّتْ لي إنانا أن السرطان قد تقدم ووصل إلى الدماغ مثل مفاوضات جنيف، وأنهم يخفونه عنه، أو يتواطأون على نكرانه، وما هو بالذي يخفى عنه مرضه، كنت أبحث عن وسيلة أبدأ فيها مواساتي له، ولم أجد تلك الكلمات التي وجدها معقر بن أوس.
وَأَلقَت عَصاها وَاستقرَّت بِها النَوى، كَما قَرَّ عَينـاً بالإِيـابِ المُسافِـرُ
أمس عصراً، في موعد الجنازة، خرجتُ من البيت، كان جواز السفر قد لفظ أنفاسه الأخيرة، خرجت وحدي على ضفة النهر أمشي وراء جنازته، مع أتراك لا يعرفون عبد القادر، خرجوا من أجل ثواب الجنازة، تذكرت أنه صارع من أجل لوحته التي لم تعترف بها عصابات الفن التشيكلي، وانتزع لقمته من فم الذئب، وكان واحدا من القلائل الذين تشار إلى أسرهم في إدلب بالبنان، وأن كتابه "فرشاة" يستحق أن يدرس في مناهج الابتدائية تدريباً على أبجدية للألوان، وأنه لم يذق طعم الترف إلا في السنوات الأخيرة مع المسلسلات التركية التي استفاد من أجور ترجمتها اكثر من ترجمة ثمانين كتابا، وأنه كان كريماً، وأنه كان يفرح لنصوصنا وكتبنا أكثر من فرحنا بها، وأن له حقوقا على تركيا هضمت مثل حقوق الياسمين في منازل أهل الشام.
مشيتُ طويلاً عكس النهر العريض والعميق، الذي تسير فيه سفن عملاقة طويلة، تعبتُ، فجثوتُ على ركبتي، يائسا من بلوغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا..
كان الثلج يهمي بغزارة..
وكان أصل النهر بعيداً..
نقلاً عن موقع المدن