Share |

دراسة في أدب الفولكلور الكردي - الحلقة الثانية... أهمية الفولكلور...: حيدر عمر

الكاتب حيدر عمر
الكاتب حيدر عمر

 

ما سبق من تعريفات الفولكلور أو مضامينه يشير إلى الأهمية التي توليه إياه الشعوب والأمم المختلفة. الفولكلور كما مرَّ سابقاً، هو تراث الأمة، يعبِّر عن فكرها و رؤاها وخيالها و أخلاقها و قيمها الاجتماعية. مما يعني أنه مرآة تعكس هويتها.

الفولكلور بجانبه الشفاهي من مثل الأساطير والمعتقدات الدينية والشعر الشعبي والحكاية والحِكَم والأمثال والطرائف والنوادر والأحاجي والسحر و التعاويذ و الرموز الرقمية و الألوان و السِّيَر، و الموسيقى و أغاني العمل و الأعياد و المناسبات الاجتماعية و الرقص و الحركات التعبيرية و العادات و التقاليد (المتعلقة بدورة الحياة: الزواج و الولادة و الوفاة و غيرها مثلاً)،

و المعارف (كالطب الشعبي) و التصورات (حول الجمادات و النباتات و الحيوانات). وبجانبه المادي كالمنتجات المادية المحسوسة كالثياب المطرزة والحلي (الزي الشعبي) وأدوات الموسيقى، والطبخ، والحصاد، والأبنية والمساكن، والحرف الشعبية، ومجمل مستعملات الحياة الشعبية بشقّيها الروحي والمادي. هو جزء من الذاكرة القومية للأمة، و هو  وفق ما يقول الدكتور أحمد محمود الخليل " من أهم عوامل تجانس المجتمع، و الممثِّل الأكثر صدقاً لروح الشعب، و فيه يتجلَّى قدرٌ كبيرٌ من أصالته و شخصيته العفوية، و إن إقبال الشعوب على فولكلورها هو أحد أشكال تقمُّص أرواح الأسلاف، و التمسُّك بالهوية الوطنية و القومية."( ) و هو بمعناه الاجتماعي جسر يربط  بين المرء و الآخر، و بين المرء و الجماعة التي ينتمي إليها، و بين الجماعة و الجماعات الأخرى، التي تتشارك بخصائص مشتركة، و هو المرآة التي تعكس حياة الشعوب و تاريخها، و عاداتها و تقاليدها و خبرات أفرادها الفكرية، و يحافظ على لغتها و هويتها الوطنية و القومية من الضياع. يقول الباحث روهات آلاكوم: " الفولكلور بالنسبة للمجتمع كالمرآة، يستطيع المرء، بواسطة هذه المرآة، معرفة المجتمع على أفضل وجه. يستطيع من خلالها الإبحار بسهولة إلى أعماق القرون الماضية. ومن جهة أخرى، يمكن أن يكون الفولكلور أساساً متيناً، وخزينة غنية للغة والأدب الحديث."( ) وهذا ما يذكِّرنا بقول الأديب الروسي الكبير مكسيم غوركي الذي قال: " إن أساس الأدب يكمن في الفولكلور، أي أدب الشعب، والفولكلور مادة خام كبيرة، وهو مصدر و معين لجميع الشعراء و الأدباء. وإذا فهمنا الماضي جيداً، كان نتاجنا الحالي رائعاً جداً، وسنفهم آنذاك بدقة أهمية الفولكلور."( ) والفولكلور، حسب ألكسندر كراب،"هو السلف المنشئ المباشر الذي تشكَّل منه الأدب"( ).

لقد أثمرت وصية غوركي على يدَي الشاعر الداغستاني المعروف رسول حمزاتوف، الذي اتجه إلى لغته الأم (اللغة الآفارية )، التي كان عدد المتكلمين بها حينذاك لا يتجاوز ثلاثمائة ألفاً، و اتكأ على فولكلور قريته الصغيرة، فأبدع أدباً عظيماً، سرعان ما تمت ترجمته إلى اللغة الروسية، ثم إلى اللغات الأخرى. لقد ولج حمزاتوف إلى العالمية من خلال قريته البعيدة والصغيرة.

وانطلاقاً من هذه الأهمية سعت الدول الاستعمارية، بغية تشديد قبضتها على الشعوب، إلى معرفة حياة الشعوب المستعمَرة، وعاداتها وتقاليدها، وأنماط تفكيرها وأساليب حياتها.  وهذا ما دفع المستشرقين إلى بذل جهود جبارة في جمْع ودراسة فولكلور الشعوب لأغراض استعمارية في أكثر الأحيان، إلا أن دراسات بعضهم في هذا الميدان كانت بهدف الاستفادة من الماضي لبناء الحاضر وإغناء الثقافة الإنسانية.

لقد لفت الفولكلور انتباه مختلف الشعوب و الأمم، و هبَّ مفكروها إلى جمْع مواده و دراستها، و لعل الأخوين جريم ( ياكوب و ڤيلهلم ) الألمانيين يأتيان في مقدمة هؤلاء، فقد عملا ، و خاصة في فترة الغزو الفرنسي لألمانيا في القرن التاسع عشر، دون كلل في ميدان الثقافة الألمانية، و جمعا قدْراً هائلاً من مواد الفولكلور الألماني، و خاصة الحكايات الشعبية، فحفظاها من الضياع. و كذلك لجأ الفينلنديون  إلى الفولكلور بغية إحياء وجودهم الحضاري و بناء شخصيتهم الثقافية، بعد أن حاول الاستعمار السويدي، و بعده الاستعمار الروسي أن يصهرا الشعب الفينلندي، كلٌّ في بوتقه، ذلك لأن " التراث الشعبي يعدُّ عنصراً رئيساً من عناصر الهوية الجماعية منذ انتظام البشر في مخيمات قبلية، ثم في قرىً و مدائن يشتركون فيها في التعبير عن أغراضهم بطرائق أبدعوها، ثم تناقلتها أجيالهم على مرِّ الحِقَب، حتى صار ذلك علامة تنماز بها كل أمة منهم عن الأمة الأخرى، يحيطونها بالرعاية، و يعتمدون عليها في حفظ وحدتهم من صروف الدهر و مراغم الشتات. وإذ ذاك أضحى الحفاظ على التراث المتراكم على مرِّ العصور واجباً لا مناص منه للحفاظ على هوية الأمم من الزوال "( ). ولإبراز هذا الدور يقول حنيف يوسف: "الفولكلور يعتبَر الحامل الأساسي لتاريخ الشعب الكردي." وهو " ذاكرة الشعب الكردي وخزانة تاريخه التراجيدي وحارس هويته القومية المميَّزة"( ).

و من هنا يشير المستشرق باسيلي نيكيتين( ) إلى أهمية الفولكلور عامة، من خلال إشادته بالفولكلور الكردي إذ يقول: " إن أي دراسة و تحقيق في الأدب الكردي ينبغي أن يكون قبل كل شيء، و على وجه الخصوص، لفولكلور هذا الشعب الذي يقتات ليس فقط بالإسهامات البالغة الغنى للأجيال الماضية، بل إنه يحمل في ذاته اليوم أيضاً قوة حيوية و طاقة خلاقة تحير الألباب، و هذه الطاقة و القوة في تجدد مستمر، بل إنه يضيف إلى غناها و ازدهارها المزيد باقتباس المواضيع الفولكلورية من الأمم الجارة و يصهرها في بوتقته الكردية."( )

تأتي أهمية الفولكلور من ارتباطه الوثيق بحياة الشعوب، فهو بما يحويه من مأثورات شعبية، يشكل نواميس اجتماعية تعبِّر عن علاقة إنسانية مع البيئة والمجتمع، ما يمكن المرء من أن يقول إن فولكلور الشعوب و الأمم هو تاريخها الصحيح، ذلك لأن التاريخ بشكله الكلاسيكي يميل إلى القادة و الطبقات الأرستقراطية، و هو كذلك في ميدان الفنون أيضاً، إذ يلفت الانتباه فقط إلى ثمرات الفنون في أشكالها الراقية، أي إلى نتاج النخبة. بينما الفولكلور، هو سِجلُّ تاريخ المجتمعات الشعبية، كما تمثله أحداث العامة من الناس، وذلك بانبثاقه من هؤلاء العامة.

تؤكِّد المستشرقة الفرنسية جويس بللو( ) حقيقة ارتباط التاريخ بالطبقات السائدة و العليا حين تذهب في بحثٍ لها عن تاريخ الأدب الكردي إلى أن هذا الأدب كان يُقرأ فقط من قِبَل المدنيين ( أي سكان المدن، و هي تقصد المثقفين)، أما أدب غالبية المجتمع الكردي، الفلاحين و الرُّحَّل، فكان ينتقل شفاهاً. و قد أشار لاڤارج، وهو أحد الفولكلوريين الماركسيين الأوائل، إلى ذلك " من خلال تحليل مواد الفولكلور عن أهميتها بالنسبة لتاريخ مركز المرأة في العائلة و المجتمع"( ).

    يتضح مما سبق أن " الفولكلور يرتبط بحياة الشعب، و بطقوسه و عاداته و تقاليده، و على صفحته تنعكس خصائص مختلف المراحل التاريخية، لذلك نرى علوماً أخرى ينصب اهتمامها على الفولكلور، كعلوم اللغة و الأدب و الأجناس و التاريخ( )، بحيث يتعامل كل علم مع الفولكلور بمنظار تخصصه، فعلم اللغة يتناول الكلمة في الفولكلور، وتاريخ اللغة التي تتراءى فيه، وعلاقتها باللهجات، أمّا الأدب، فيدرس السمات العامة للفولكلور والفرق بينه وبين الأدب المدون، وعلم الموسيقى يدرس العناصر الموسيقية والمسرحية في الفولكلور، وعلم الأجناس يتعرض لدور الفولكلور وآثاره في حياة الشعوب وارتباطه بالطقوس والتقاليد، وعلم التاريخ يبحث في الوعي الشعبي لتفهم الأحداث التاريخية التي يعكسها الفلكلور أو التراث الشعبي بصفته ذاكرة  الأجيال و هويتها. فالصلة " وثيقة بين علمَيْ التاريخ والتراث الشعبي في مجال العلاقات الاجتماعية وأبعادها الإنسانية، إذ ساهم التراث الشعبي في خدمة التاريخ من خلال تسليط الضوء على بعض الظواهر الإنسانية، مما ساعد المؤرخين على استنتاج أمور كانت مستغلقة على التفسير."( ) و من هنا يمكننا القول مع الدكتور أحمد محمود الخليل: "إن من يدير ظهره إلى تراثه الشعبي، إنما يدير ظهره إلى هويته."( )

 

([1])  د. أحمد محمود الخليل: الشخصية الكردية، مرج سابق، ص 231.

([2])    Rohat : Di folklora kurdî de serdestiyeke jinan, weşanên Nûdem, ҫapa yekem 1994, cihê ҫapê ne diyare, rû 4

([3])  د. عزالدين مصطفى رسول: دراسة في أدب الفولكلور الكردي، مرجع سابق، ص 10.

([4])  نوفل: التراث الشعبي بين الصفة العالمية و خصوصية الممارسة المحلية. مقال إلكتروني.  http://nefzawiblog.blogspot.de/2012/02/blog-post_12.html 

([5])  سفيان عبداللطيف: ترجمة مظاهر التراث الشعبي في رواية (ابن الفقير) لمولود فرعون. رسالة جامعية لنيل درجة الماجستير في الترجمة. جامعة وهران في الجزائر، العام الجامعي 2015 / 2016. ص 8.

([6])  حنيف يوسف: نصوص من الفولكلور الكردي. مرجع سابق، ص 10.

([7])  باسيلي نيكيتين (1885 – 1960) مستشرق روسي، درس اللغات العربية و الفارسية و التركية في معهد لازارييف في موسكو، ثم عمل مترجماً في وزارة الخارجية الروسية،. و هو معروف بين الكرد بكتابه ( الكرد).

([8])  باسيلي نيكيتين: الكرد. ترجمة الدكتور نوري طالباني، الطبعة الأولى، مكان الطبع و دار النشر غير معرفين، 1998، ص 410 – 411.

([9])  جويس بللو (1932 - ؟): ولدت في مصر، أكثر اهتماماتها تنصب على اللغة الكردية، و هي مختصة فيها،و مدرِّسة اللغة و التراث الكردي. كانت تعمل لدى معهد اللغات الشرقية في باريس، و هي من أشهر أساتذة إينالو ( المؤسسة الوطنية للغات و الحضارات ). للمزيد انظر: جلال زنكابادي: الكردلوجيا، موسوعة مصغَّرة. هولير 2014، ص 158

([10])  نوفل: التراث الشعبي بين الصفة العالمية و خصوصية الممارسة المحلية. مقال إلكتروني. مرجع سابق. 

([11])  د.أشرف صالح محمد: المعرفة الشعبية. ذاكرة و هوية الأجيال. مقال إلكتروني.   http://www.huffpostarabi.com/dr-ashraf-saleh-mohammed/-_11575_b_16564516.html

([12]) محمد خالد رمضان: الفن و الفولكلور. مجلة المعرفة، السنة 43، العدد 487، وزارة الثقافة، دمشق نيسان 2004.

([13])  د. أحمد خليل: سياحة في التراث الكردي. مقال إلكتروني. مصدر سابق.