الملحمة
تعريف الملحمة.
تعرِّف الموسوعة العربية الملحمة بأنها " عمل أدبي سردي طويل منظوم شعراً، عرف منذ القدم لدى شعوب العالم. وتسرد مآثر بطولية مهمة في حياة شعب بعينه. وتستخدم في متنها الأساطير والحكايات البطولية وقصص الآلهة والخرافات، لتقدم صورة شبه متكاملة عن عالم ما، تفترض أنه حقيقي، كما تتضمن تعليمات وشروحات دينية بقصد الإرشاد والتعليم.
وكانت الملحمة قديماً تُتناقل شفاهاً من جيل إلى جيل، ولاسيما في بلاطات الملوك وقصور الأمراء، مع مرافقة موسيقية غالباً، وترية أو نفخية أو كلتيهما معاً، بما ينسجم مع إيقاعات السرد الحكائي من ناحية، وبما يوحي بالمشهد المصوَّر ومزاجه من ناحية أخرى "([1]).
ويعرِّفها أحمد أبو زيد قائلاً: "الملحمة هي القصيد الطويلة التي تسجِّل الأعمال البطولية الخارقة التي صدرت عن الأبطال الحقيقيين أو الأسطوريين، والتي تمتزج فيها أفعال البشر وتصرفات بعض الكائنات الإعجازية الخفية كالآلهة والمردة والشياطين والوحوش المخفية المهولة وبعض القوى الكونية والظواهر الطبيعية التي تقوم بدور مساعد ولكنه فعَّال في إنجاز هذه الأعمال الطويلة. وهي في معناها الدقيق تعني القصيدة القصصية الطويلة التي تحكي أعمال البطولة التي تصدر في العادة عن بطل ريئسي واحد، والتي كثيراً ما يكون لها مغزى قومي واضح. وتُستخدم كلمة "ملحمي" للإشارة إلى كل ما هو بطولي ويتجاوز قدرات البشر ويجمع بين الروعة والعظمة والجلال."([2])
ويقول الدكتور عزالدين مصطفى رسول: " إن اصطلاح إيپوس ( الملحمة ) يطلق على نوع من الإبداع الشعبي، يأخذ مادته بصورة مباشرة من واقع موضوعي، ويعكس واقع الحياة ووجود الشعب والعلاقات الاجتماعية ويصور التطور التاريخي"([3]). ويتابع قائلاً " إن الملحمة الشعبية قد أُبدِعت من الأساس أغنية قومية، وحَّدها المغني الشعبي مع أغانيه، ومن هنا فإن الملحمة الشعبية المكرسة لأحداث ضخمة تعتبر مرآة خاصة للأغنية أيضاً، وتعكس هذه المرآة ببساطة صورة لتلك الأحداث المهمة التي كانت تثير الناس، أو كانت تعكس صورة لأولئك الأشخاص الذين خدموا الشعب، فأبقوا بأعمالهم الكبيرة لأنفسهم ذكرى، واحتلوا أماكن بارزة في التاريخ([4]).
ويقول عبد الكريم إبراهيم قميرة: " الملحمة هي حكاية شعبية قومية، تروي صراع أمتين في مرحلة معينة من الزمن، وهي تستمد موضوعها من التاريخ القديم، وتعتمد على المبالغة والخيال في وصف الحوادث والحديث عن الخوارق، وهي تفسح المجال لتدخُّل الآلهة المتعددة ........ والملحمة ليست من صنع شاعر واحد، بل يتدخَّل في نظمها شعراء عدة، ومن خلال عصور عدة. الملحمة ليست إلا قصيدة طويلة تدور حول حوادث مختلفة في جو من الخرافات....."([5])
أما عن ظهورها، فتقول الموسوعة العربية " ظهرت أولى الملاحم في المجتمعات البشرية القديمة في مرحلة انتقالية بين النظام المشاعي والنظام الإقطاعي المبكر ، وإن مؤلفي الشعر الملحمي حينذاك لم يمتلكوا تصوراً وحسّاً داخلياً منفصلاً عن وجود الجماعة ( القوم ) كلياً، ولهذا صارت أشعارهم عامة يتم تداولها وتناقلها من دون ذكر أسماء مؤلفيها، ولذا عُدت هذه الأشعار زمناً طويلاً نتاجَ الخيال الشعبي، ولاسيما عند شعراء الرومنسية ( الإبداعية )، أو نتاج عدد من الشعراء، ثم صاغها شاعر موهوب في زمن لاحق بأسلوبه الخاص فنسبت إليه، كحال هوميروس الإغريقي الذي نُسِبت إليه الإلياذة."([6])
ويقول الدكتور عز الدين مصطفى رسول: " برزت الملحمة في عهود النظام القبلي، عندما كانت مصالح المجتمع تطغى على المصالح الفردية وتخفيها، وكانت الروح الاجتماعية مترسخة في وعي الناس."([7])
نخرج من هذه التعريفات الأربعة إلى أن الملحمة أحد أنواع الأدب، وهي إبداع شعري قصصي ظهر في عصور قديمة، يسرد أحداثاً اجتماعية وقومية لشعب من الشعوب التي تتحدث عنها الملحمة، فتظهر فيها خصائصه ومميزاته التي تعكس روح الأمة وقيمها النبيلة وعاداتها، ويبرز فيها عنصر بطولي من خلال بطل تتجسد فيه تلك القيم والفروسية والقوة الخارقة، وتذوب في الملحمة ذاتية الشاعر في بوتقة الجماعة، فلا تكاد تلمحه إلا من خلال أسلوبه في صياغة الأحداث بمختلف الأساليب التعبيرية والبلاغية، التي توضِّح شخصيته، ومن هنا تتميَّز الملاحم بعضها عن بعض، وتتبين أهمية الأسلوب في بنائها. ولعل رواة الملاحم ومغنوها يجسدون أسلوب الشاعر وشخصية البطل من خلال موهبتهم في الرواية والغناء، وتمكُّنهم بقدرات لغوية وتعبيرية هائلة تبرز من خلال اللغة المنطوقة وطبقات الصوت ولغة الجسد، ومن هنا ليس في مقدور أي شخص كان أن يروي الملاحم أو يغنيها.
والملاحم ليست من تأليف شاعر معروف أو شعراء معروفين، فهي إذن نتاج منسوب إلى الشعب بأكمله، وفي أثناء روايتها من عصر إلى عصر ومن جيل إلى جيل قد تتعرض، كسائر أنواع أدب الفولكلور، لتغييرات تنقص منها أو تضيف إليها.فالمغنون في كل جيل يبدلون فيها شيئاً، ويضيفون إليها أشياءً سواء في الأحداث أم في الشخصيات، فهي كلما مرَّت بعصر أو بقبيلة، حملت معها بعض الأحداث والأشخاص، وأبقت أموراً وُجدت عند نشوء الملحمة([8])،مما يعني أن "النصوص الفولكلورية ليست ركاماً ثابتاً، بل هي في تغيير مستمر تبعاً للبيئة الاجتماعية والسياسية للراوي "، معبراً في الوقت نفسه عن قدرته الإبداعية في التصرُّف في العناصر المكوِّنة للنص المروي من جهة، وعن المرونة العقلية في المجتمع الذي يُروى فيه الأثر الفولكلوري. مما يعني، أن النص الأخير الذي دوَّنه المدوِّنون مما سمعوه من الناس ليس النص الأول عند إنشائها.
وسُمِّي هذا الإبداع الشعبي لدى الباحثين بالملحمة، نظراً لدقة بنائه، وطوله وترابط أحداثه، أو لأنه يصوِّر أحداثاً جِساماً تتعلق بالأبطال وصراعهم في ساحات الحرب. وقد يُقال إن الملحمة شعر قصصي يتخذ من قصص الحروب موضوعاً له، كملحمة " الإلياذة " في الأدب الإغريقي القديم، وملحمة " قلعة دمدم " في أدب الفولكلور الكردي.
ولكنها لدى المفكرين والنُّقاد والمؤرخين تعني ذلك الشعر البطولي القصصي الطويل الذي يصوِّر أحداثاً عظيمة وغريبة، ويتخذ من الأحداث القومية موضوعاً له([9]).
ومن حيث الأسلوب، فبالرغم من أن بعض الملاحم لدى بعض الشعوب جاءت نثرية، كقصة عنترة في الأدب العربي، وبعضها تناوب فيها الشعر والنثر، كملحمة " جبلي ابن أمير حكاري وبنَفْشا نارين " و " خَجْ وسيامند " في أدب الفولكلور الكردي، إلا أن النقُّاد والباحثين متفقون على أن أحداث الملحمة تُروى وتُنسج شعراً. ذلك لأن رواية الأحداث الجسام تتطلَّب أسلوباً قوياً، تمتاز الجمل والتعبير عامة فيه بنوع من الفخامة يرتقي إلى مستوى جسامة تلك الأحداث. وهذا ما يعكس العلاقة القوية التي تربط ما بين عظمة مضمون الملحمة وأسلوب بنائها ونسيجها الفني كاللغة والوزن والموسيقى والإيقاع مثلاً. بحيث تحدث عن ذلك سيمفونية عظيمة، تصدح من خلال موسيقاها أصداء صيحات الأبطال ممتزجة مع قرقعة الرماح وصليل السيوف.
ولهذا يبدو أبطال الملاحم ذوي قدرات خارقة، يثيرون الذعر في نفوس الأعداء. ومن هنا تبعث صرخات آخيل في الإلياذة الخوف في نفوس الطرواديين، وحين ينسحب من القتال، يدب الضعف في أوصال المقاتلين الإغريق، وإذ يعود إلى ميدان القتال، لا يصمد أمامه الطرواديون. وهكذا يبدو إيني في " الإنياذة " ورولان في " أنشودة رولان "، ومَمْ في "ممي آلان " حين يضغط على السلسلة الحديدية التي قيَّدها بها " بكو " حاجب الأمير، تتقطَّع حلقاتها، وفي ملحمة "ممْ وزٍين " المدوَّنة للشاعر أحمد خاني تثير صرخات " عارف " الخوف في أمير بوتان.
باختصار نقول: إن أبطال الملاحم يقتحمون المهالك دون خوف، و من هنا يلتفُّ أفراد الشعب حولهم، ويتخذونهم مثال الشجاعة والبطولة والفداء والكرم والعدالة، ويرون أنهم يجمعون في شخصياتهم قِيَم الأمة وروحها وانتصاراتها.([10])
([1]) الموسوعة العربية. مقال إلكتروني. https://www.arab-ency.com/ar/
([2]) أحمد أبو زيد:الملحمة كتاريخ وثقافة. مثال من الهند: الرمايانا. دراسة إلكترونية. www.nidaulhind.com
([3]) د. عزالدين مصطفى رسول: دراسة في أدب الفولكلور الكردي. مرجع سابق، ص 31.
([5]) عبدالكريم إبراهيم قميرة:لمحات من فن الملحمة لدى الشعوب. مجلة المعرفة، العدد 621، دمشق حزيران 2015، ص 58، 59.
([8]) د. عزالدين مصطفى رسول: دراسة في أدب الفولكلور الكردي. مرجع سابق، ص 36.
([9]) بسام طحان: محاضرات في النقد الغربي، ألقيت على طلبة السنة الرابعة في كلية الآداب بجامعة حلب عام 1973، ص 2.
([10]) Heyder Omer: Ehmedê Xanî. Destana Mem û Zîn; raman û huner, weşanên Hîro,Semakur, nav çapxanê nediyar e, Dubay, 2007, rû 65.