أنواع الملاحم
يميِّز الباحثون والدارسون بين نوعين من الملاحم، يسمُّون أحدهما بالملاحم الطبيعية، ويرَوْن أن قرائح الشعوب أنتجت هذه الملاحم، التي نضجت خلال تتابُع العصور، وينسبونها إلى الأمة بكاملها، أي إنها من صنعها، لا من صنع شاعر معين. ويسمُّون النوع الثاني بالملاحم الصناعية، وهي التي أبدعتها قريحة شاعر بعينه. ويأخذون الملحمتين الإغرقيتين " الإلياذة" و"الأوديسة " مثالين للملحمة الطبيعية، وهما منسوبتان إلى الشاعر الإغريقي هوميروس.
يدور موضع الإلياذة حول الحرب التي دارت رحاها بين الإغريق وطروادة، بسبب هروب الفتاة الإغريقية هيلانة مع الأمير الطروادي پاريس بن فريام. لقد أثار هذا الحادث غضب الإغريق، فأعدوا العدة لاستعادتها، وهاجموا طروادة بجيش كبير قوامه ألف سفينة، وحمي وطيس الحرب بين الطرفين، وفي هذه الأثناء انكفأ البطل الإغريقي آخيل واعتزل القتال بسبب امرأة طروادية وقعت في الأسر، هي ابنة كاهن معبد الإله أپولو، فأرادها لنفسه، ولكن الملك الإغريقي أغا ممنون انتزعها منه، " فعظم الأمر على آخيل، وكاد أن يبطش بأغا ممنون، لولا أن آلهة الحِكْمة هبطت من السماء، وصدَّته قسراً. اشتدت عزيمة الطرواد، لاحتجاب آخيل، فنكلوا بالإغريق في مواقع كانت الغلبة في معظمها لهم، فلما ثقُلت الوطأة على الإغريق، أوفدوا الوفود لاسترضاء آخيل، فما زاد إلا عتوَّاً وكِبراً، فوقعت هيبة هيكتور زعيم الطرواديين وابن ملكهم فريام في قلوب الإغريق، ومازالت تتوالى له الغلبة بعد الغلبة، حتى كاد يحرق سفنهم ويردُّهم خائبين. وكان لآخيل صديق حميم هو فطرقل، فتى جمع بين كرم الخِلال وبسالة الأبطال، صحب آخيل في عزلته، وهو مع هذا يتلظَّى أسىً لنكبة قومه، ويستفزُّ آخيل للأخذ بيدهم، وآخيل كالحجر الأصم، لا يرقُّ ولا يلين. ولما اشتدت الأزمة على الإغريق، وكاد يُقضى عليهم، ما جعل فطرقل ينتحب كالطفل، فأذِن له آخيل أن يتقلَّد سلاحه، ويحمل على الطرواديين، فحمل عليهم حملة مزَّقت شملهم، وردَّتهم على أعقابهم، ولكنه خرَّ قتيلاً أمام هِكتور، فدارت الدائرة بموته على قومه، فولَّوْا مدبرين، وهكتور يضرب في أردافهم، ولما علِم آخيل بموت فطرقل قتيلاً، تسعَّر حزناً على حليف وُدِّه، والتهب حقداً على الطرواديين، فبطش بهم، بطش الأسود بالحملان، فلاذوا بالفرار، وتحصَّنوا في معاقلهم، ما خلا هكتور، فإنه برز له، فقتله آخيل ومثَّل به، ولكنه ما لبث أن سكن جأشه وخبا غيظه، فانقلب ذلك الغيظ رفقاً وعطفاً، إذ رقَّ لشيبة فريام، فألقى إليه بجثة ابنه".( )
ولكن طروادة لم تسقط إلا بحيلة ابتكرها الإغريق، وعُرفت في التاريخ باسم " حصان طروادة "، وهو حصان ضخم صنعه الإغريق من الخشب، واختبأ فرسانهم في داخله، وتركوه في ساحة الحرب، وانسحبوا، فظن الطرواديون أنهم انهزموا، فجرُّوا الحصان إلى داخل أسوار المدينة، وخلال الليل خرج فرسان الإغريق من جوف الحصان، وفتحوا أبواب المدينة، فدخل مقاتلوهم واستولوا عليها وعلى ثرواتها وكنوزها، واستعادوا هيلانة.
أما أحداث ملحمة " أوديسة "، فهي تدور حول المخاطر التي تعرَّض لها أوليس الإغريقي، مبتكر حلية الحصان الخشبي، أثناء عودته من قتال طروادة، فقد " عاقبته الآلهة المعادية، وجعلته يتيه في البحر، فتحطَّمت سفنه، وغرِق رجاله، ووقع أسيراً عند الحورية "غاليسبو"، التي ألحَّت عليه أن يبقى معها، فتؤمن له الخلود في سعادة دائمة، ويصبح أفضل من رفاقه، الذين لاقوا حتفهم في الحرب مع طروادة. ولكن وفاءه لزوجته " پينيلوپ " ووطنه جعله يرفض، ثم استطاع الخلاص، وعاد إلى بلاده، وقتل الطغاة الذين تجرَّؤوا أن يضغطوا على زوجته لتختار منهم زوجاً لها بعد أن طال غياب زوجها.( )
ومن هذاالنوع أيضاً الملحمة الهندية " المهابهاراتا "، التي تعتبر أطول ملحمة في العالم، إذ تحتوي على أربعة وسبعين ألف بيت شعري، ونُظِّمت باللغة السنسكريتية، وتشكل جزءاً من الأساطير الهندية، ومن ثقافة شبه القارة الهندية، ويعود تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد. وكذلك الملحمة الهندية " الرامايانا " وتُنسب إلى الشاعر ڤالميكي، وكُتِبَت باللغة السنسكريتية أيضاً، وهي ملحمة طويلة في حدود ألف صفحة، يعود تاريخها إلى القرن الثالث قبل الميلاد، وتروي قصة أحد الأمراء والصعاب والمآسي التي تعرَّض لها، وهو يتخطَّى العقبات الجغرافية والعسكرية، سعياً وراء تحرير زوجته التي خطفها الشيطان راڤانا.
أما الملاحم الصناعية، فقد تحررت إلى حدٍّ ما من العناصر الأسطورية الخارقة التي لم يعد العقل البشري يستسيغها، وهي تُنسب إلى شاعر معروف، أي إنها نتاج قريحة شاعر بعينه. ولعل ملحمة " الإنياذة " للشاعر الروماني ڤرجيل ( 70 - 19 ق.م ) تُعتبر من أشهر هذا النوع من الملاحم. وقد كتبها باللغة اللاتينية، وتقع في اثنيْ عشر مجلداً، يتحدث فيها عما جرى لسكان مدينة طروادة وأبطالهم بعد هزيمتهم في معركة طروادة الشهيرة، فيصف حياة إنياس الطروادي الأسطورية، ورحلته من طروادة إلى إيطاليا، وغدوِّه أصل الرومان، وعن الحروب التي خاضها الطرواديون ضد اللاتينيين، وانتصاراتهم التي حققوها.
ومنها الملحمة الفارسية " الشاهنامة "، بمعنى كتاب الملوك. يُقال إن أحد أمراء دولة بني سامان، التي كانت تحكم ما وراء النهر، وجزءاً من بلاد فارس وأفغانستان، ويُدعى نوح بن منصور الساماني( ) هو الذي اقترح تأليفها، وبدأ الشاعر أبو منصور الدقيقي بنظمها، ولكنه قُتِل، فأتمَّها الشاعر الفارسي الفردوسي ( 932 - 1020 م ) للسلطان محمود الغزنوي، ضمَّنها تاريخ الفرس وملوكهم ومعاركهم ورحلاتهم وسياساتهم منذ العهود الأسطورية حتى سقوط الدولة الساسانية في منتصف القرن السابع للميلاد. وهي عمل أدبي ضخم، يحتل مكانة بارزة بين الآداب العالمية الشهيرة، ويقع في ستين ألف بيت شعري باللغة الفارسية، وكان الدافع إلى نظمها إحياء الثقافة الفارسية.
وكذلك الكوميديا الإلهية، وهي ملحمة شعرية طويلة للشاعر الإيطالي دانتي أليغيري ( 1265 – 1321 م )، وقد عُرفت في الأدب العالمي بهذا الاسم. انتهى دانتي من كتابتها عام ( 1321 م ) ويدور موضوعها الرئيسي حول الحياة بعد الموت، ودانتي هو الشخصية الرئيسية فيها. وتنقسم الكوميديا الإلهية إلى الجحيم والمطْهر والجنة (الفردوس). وقد أطلق عليها دانتي الكوميديا لأنها انتهت نهاية سعيدة. ثم أضافت إليها الأجيال اللاحقة صفة الإلهية.
وملحمة " الفردوس المفقود " للشاعر الإنكليزي جون ملتون( 1608 – 1674م ). موضوعها الرئيسي هو هبوط الإنسان من الجنة إلى الأرض، وحول آدم وحواء، وإغرائهما من قِبَل إبليس. وتتحدَّث عن قضايا لاهوتية صعبة مثل المصير والأقدار والثالوث وغيرها، وقد دمج فيها بين الوثنية والإشارات اليونانية والكلاسيكية.
أما عند العرب، فيشير عبدالكريم إبراهيم قميرة في دراسة له منشورة في أحد أعداد مجلة المعرفة السورية، إلى عدم وجود هذا النوع من الملاحم لديهم( ). ويعيد ذلك إلى " البيئة القاسية التي يعيشون فيها، فالقحط كان سائداً في الجزيرة العربية، ولذلك فإن البدوي العربي لم يكن يستقر في مكان واحد ينعم فيه بالماء، حتى يفاجئه الجفاف، فتجوع نوقه وخِرافه، فيضطر للانتقال إلى مكان آخر بحثاً عن الظل الوريف والماء البليل. هذا الانتقال المتواصل في سبيل العيش ضيَّق على العربي آفاق تفكيره، وجعل همه لا يتعدى تأمين قوته وقوت عياله، والتأليف القصصي يحتاج إلى الاستقرار في مكان واحد كي يُتاح للعبقرية أن تنضج، فتنتج وتعطي فائق العطاء "( ). ويمضي كاتب الدراسة السابقة في بيان أسباب عدم وجود ملحمة شعرية عند العرب، بالرغم من أنهم خاضوا حروباً، كان يمكن أن تكون أحداثها موضوعاً لملحمة، كمعركة ذي قار، بينهم وبين الفرس، إلا أن " عوامل التحدي التي يعانيها البدوي العربي، ضخَّمت نفسه، فلا يقول شعراً إلا لتمجيد ذاته المتورِّمة التي يلذُّ لها تكرار انتصاراته، بينما الشعر الملحمي هو سرد قصصي، يتطلَّب إخفاء شخصية الشاعر "( ). ويضاف إلى ذلك ما كان بين قبائل العرب من صراع مرير، ومعارك مستمرَّة، جعلت الشاعر العربي يقف إلى جانب قبيلته، ويقول الشعر في تمجيدها، ووصف انتصاراتها.
وينتهي في بيان تلك الأسباب إلى أن " النَّفَس الملحمي لم يكن موجوداً لدى العرب، وذلك عائد إلى طبيعة العرب العرقية، إذا أردنا تصديق علماء الاجتماع والانثروبولوجيا، الذين يفرقون بين العروق البشرية المعروفة بتحديد خصائص وصفات كل منها ....... فاليونان من العرق الآري، يميل الواحد منهم إلى الاستقصاء والبحث الطويل ....... أما الإنسان السامي، فيهتم بالمعاني الفخمة والصِّيَغ الموجَزَة البراقة والعبارات الطنانة والرغبة بإثارة الانتباه بغوامض الكلام ومستغلق المعنى."( )
ولكن الملحمة حسب ما قاله الفيلسوف الإغريقي أرسطو يجوز أن تُكتَب نثراً أيضاً، إذا توافرت فيها عناصر الملحمة من حيث أنها حكاية قومية، تروي صراع أمتين، وتعتمد على جذور التاريخ القديم، ويكون القتال فيها ملتحماً مع تصوُّرات وعادات الشعوب، وتسود فيها الخرافات والأساطير. ومن هنا يمكن النظر في بعض الحكايات الشعبية العربية النثرية على أنها ملاحم. مثل " سيرة عنترة " و " الزير سالم "، إلا أنهما تخلوان من الحديث عن الصراع والقتال بين أمتين.
إن أهم حكاية عربية يمكن أن تُسَمَّى ملحمة هي " سيرة بني هلال "، التي تنتمي إلى القرن الخامس الهجري. نجد في هذه الحكاية كل شروط الملحمة وعناصرها، التي ذكرها الأدباء والفلاسفة، ففيها نجد صراعاً بين أمتين هما العرب والأمازيغ، وفيها تصوير لمعاركهما وعاداتهما وخرافاتهما، فهي " ملحمة كاملة بكل عناصرها تطبيقاً لرأي الفيلسوف أرسطو القائل بإمكان أن تكون الملحمة نثراً وشعراً"( ).
([1]) هوميروس: الإلياذة. ترجمة سليم البستاني، منشورات كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، رقم وسنة الطبعة غير مذكورين، ص 22.
([2]) عبدالكريم إبراهيم قميرة: المرجع السابق، ص 60، 61.
([3]) يُنسَب السامانيون إلى جد الأسرة سامان خداه من أحفاد بهرام بن چوبين البطل الساساني المعروف.
([4]) انظر: العدد 21 حزيران 2015، ص63.
([5]) المصدر نفسه، ص 64.
([6]) المصدر نفسه، ص 65.
([7]) المصدر نفسه، ص 65، 66.
([8]) المصدر نفسه، ص 73.