هذا النوع من الملاحم كثير في الموروث الكردي، منها ما هو مشترك بين الكرد و شعوب شرقية أخرى، كملحمة "شيرين و فرهاد" التي نجدها عند الفرس والترك والآذربيجانيين أيضاً، وملحمة "مجنون ليلى " المعروفة عند الكرد بملحمة " ليلى ومجروم "، وهي قصة فولكلورية عربية، تُروى عند العرب حول حب ليلى العامرية والشاعر قيس بن المُلوّح، ثم انتقلت إلى الفولكلور الكردي، واكتسبت سمات خاصة بحيث لم يبق فيها من الأصول الفولكلورية العربية سوى أسماء أبطالها والخطوط العريضة للأحداث، أما المشاعر والعواطف، فهي ذات طابع كردي.
إن تتبعنا جميع ملاحم الحب والعشق في أدب الفولكلور الكردي، فسوف يطول بنا البحث، ولهذا نقف عند ثلاثة نماذج منها هي ملاحم " عَيْشا إيبي " و" سيامند وخجي " و " ممي آلان "، فنتعرَّف من خلالها على السمات العامة للملحمة الكردية.
ملحمة عَيْشا إيبي Îbê
هذه الملحمة([1]) شائعة بين الكرد، وهي إذ تتحدث عن مدى الحب الذي سيطر على مشاعر بطلها " بورزان بَكَـ "، فإنها في الوقت نفسه تصوِّر المأساة الذي انتهت إليها حياة البطلين، الفتاة الجميلة "عَيْشي " والفتى " بورزان بَكَـ ."
تذهب أحداث هذه الملحمة إلى أن الفتى" بورزان بَكَـ "، وهو زعيم عشيرة كردية كبيرة، يرى في مقدمة إحدى القوافل فتاة جميلة، فينحذب إليها، ما يدفعه إلى اللحاق بالقافلة، عسى أن يعرف شيئاً عن تلك الفتاة، فيلتقي رجلاً كهلاً في مؤخرة القافلة، فيسأله عنها، من تكون؟ وابنة من؟ وإلى أية عشيرة تنتمي؟ ولكن يتبين له أن الكهل لا يعرف عنها شيئاً، وهو يبتع القافلة، عساه يعمل خادماً لدى أبيها، كي تتسنَّى له رؤيتها دائماً عن قرب، لِما تتمتع به من جمال. ومن خلال حديثه عنها، يصف جمالها وصفاً، جعل الفتى يهيم بها أكثر.
في إحدى جولات الصيد مع أصدقائه سمع صوت الطبل و الزُّرْنا قادماً من جهة ما([2])، فتوجَّه مع مرافقيه نحو مصدر الصوت، فرأوا احتفالاً بعرسٍ لدى إحدى العشائر، وحين يقتربون، يرى بورزان فتاة في مقدمة حلقة الدبكة (الگوڤند ) تقود حلقة الرقص، وهي بالإضافة إلى مهارتها في الرقص وقيادة الحلقة، تتمتع بجمال منقطع النظير، وحين يتقدم نحو حلقة الدبكة، ويراها عن قرب، فإذا هي الفتاة نفسها التي كانت في مقدمة تلك القافلة. يسأل بورزان أشخاصاً آخرين عمّن تكون هذه الفتاة، ابنة مَن؟ وما اسمها؟ فيتلقى الجواب من عجوز: إنها تسمَّى "عَيْشا إيبي"، وهي ابنة "إيبي" كبير العشيرة.
يعود بورزان إلى مضارب عشيرته، وقد ساءت حاله جرَّاء الحب الذي صار يكوي قلبه، فتأمر أمه بإحضار الأطباء، الذين إذ يعاينون وضعه، يعجزون عن تشخيص مرضه ووَصْف دواء له، فتلجأ أمه إلى المشعوذين الذين يكتبون تعاويذ وحجباً، قد تفيده، ولكن هيهات. تسوء حاله يوماً إثر آخر، ولم يستطع مغادرة الفراش.
عندئذ يفصح لأمه عما حدث له، وأن علاجه الوحيد هو تلك الفتاة " عَيْشا إيبي "، فترسل أمه بعض الرجال إلى أبيها يخطبون ابنته لابنها بورزان. وبعد ذلك تتم الخطوبة، وتُقام الأفراح والاحتفالات، ويُعقد لبورزان على عَيْشي. لكن الأفراح تنقلب إلى أحزان في اليوم الأول من الزواج، إذ يرى بورزان حبيبته دون حراك في فراشهما، فيناديها مراراً، إلا أنها لا تستجيب، وحين يربت على كتفها، يراها جثة هامدة، فيعلو عندئذٍ صراخه باكياً محبوبته.
أهم ما في هذه الملحمة التراجيدية، هو إنها بالإضافة إلى تصوير حب ذاك الفتى، تتحدث عن المنهج التقليدي في موضوع الزواج في المجتمع الكردي، وهو المنهج نفسه الذي رأيناه لدى الشاعر الكبير أحمد خاني في ملحمته الأدبية "مَمْ وزِين "، والذي تحدَّث عنه ملا محمود بايزيدي أيضاً.
يبدأ هذه المنهج بأن يتقدم أهل الفتى مع جَمْع من الأقارب والأصدقاء المقرَّبين إلى أهل الفتاة، يخطبونها لابنهم، وبعد موافقة أهل الفتاة، يتقدمون إليهم مرة أخرى، وفي جمْع من نخبة المجتمع، يحددون المهر هذه المرة، ثم يتم إحضار الفتاة / العروس إلى بيت زوجها، وتُقام الأفراح والاحتفالات بضعة أيام، يُدعى إليها أفراد العشيرة، ونُخَبها في مقدمتهم.
ثمة تدبير آخر في هذه الملحمة التراجيدية، وهو أن والد الفتاة، طلب من الخاطبين أن يأتي الفتى بورزان بنفسه، ويحلَّ ضيفاً عليه لبضعة أيام، حيث تتعرف عليه الفتاة والآخرون من العشيرة عن قرب، ويتأكدون من سلامته جسدياً وعقلياً. وليترك أمر الموافقة لابنته. على الرغم من أهمية هذا التدبير، إلا أن الأهم هنا هو رغبة والد الفتاة في أن يترك حرية القبول أو الرفض لابنته، فتتعرَّف أثناء هذه الاستضافة على الفتى عن قرب، لتتمكَّن من اتخاذ قرارها بنفسها، إيجاباً كان أم رفضاً. وفي ذلك دلالة كبيرة على مدى حرية المرأة واحترامها في المجتمع الكردي.
ملحمة سيامند وخجي.
هي ملحمة كردية شائعة في أجزاء كردستان الأربعة، وترحل مع الكُرد أينما رحلوا في المَهاجر. و قد جمعها من أفواه المغنين، ودوَّنها بعض المهتمين بالفولكلور الكردي، أبرزهم عبيد الله أيوبيان، والأخوان أورديخان وجليل جليل، في الجزء الأول من كتابهما الموسوم بـ ( زارگُوتنا كردا / Zargotina Kurda)، و يعني (الأدب الشعبي الكردي) و قد مرَّ ذكر ذلك سابقاً([3]).
هذه الملحمة، كأغلب الملاحم الكردية، لا يُعرَف تاريخها، ولعل هذا أمر بديهي لدى أبناء الجبال في عصور سابقة، إذ لم يهتموا بجمعها وتسجيلها. وهي تحكي قصة حقيقية كانت نتاج عاطفة صادقة جمعت قلبَيْ المحبوبين سيامند وخجي، وتعكس صورة التضحية بالنفس في سبيل الحبيب.
ما هو معروف أن سيامند نشأ يتيماً وفقيراً، في كنف عمه وزوجته، وعُرف بالقوة والشجاعة، بحيث كان فتيان القرية أو المضارب يهابونه، مما دفع آباءهم ليشكوه لدى عمه، الذي اضطر تحت ضغطهم إلى أن يطرده من بيته ويخلعه، وهذا ما أدى به إلى أن يهيم على وجهه باحثاً عمن يأويه، أو يتخذه عاملاً لديه. قادته قدماه إلى مضارب عشيرة، التقى فيها بفتاة اسمها ( خجي )، استضافته ريثما يعود إخوتها السبعة من الرعي. كانت الفتاة وحيدة أسرتها من الإناث، استرعت سيامندَ بجمالها وحديثها وجرأتها في استقبال الضيوف، مما جعله يهيم بها، فتبادله الشعور نفسه. إلا أن حبهما يصطدم برغبة الأهل في تزويجها من شخص آخر لا تحبه. ذاك الشخص الذي ما أن سمع قصة حبهما، حتى أسرع إلى خطفها. ولكن سيامند ينقذها في يوم زفافها، ويذهب بها بعيداً، فأرسلوا خلفهما فرسان العشيرة، فقاتلهم سيامند قتال الأبطال، ولكنه يُصاب بسهم اخترق صدره، فانحدر من قمة جبل "سيپان"، أحد جبال كردستان، فأبكته خجي بكاء شديداً. وإذ رأت فرساناً قادمين من بعيد نحوهما، ألقت بنفسها عليه من أعالي جُرْف عالٍ، فماتا معاً.
وفي رواية أخرى، بعد أن تمكن سيامند من قتل عدد كبير من أولئك الفرسان، ولاذ الآخرون بالفرار، أخذا قسطاً من الراحة، فتمدد، ووضع رأسه على ركبة حبيبته وغفا، وفي هذه الأثناء مرَّ قطيع من الظباء يضم أحد عشر ظبياً و ظبية واحدة، يحوم حولها ظبي، ويمنع أقرانه عنها، فضحكت خجي لانقيادها جميعاً لنفر واحد، كما تمكّن سيامند بمفرده من فرسان العشيرة، وإذ يصحو سيامند، ويراها ضاحكة، يحسبها تضحك من رأسه الأصلع، فتخبره بأمر قطيع الظباء، عندئذ يتبع سيامند القطيع، يريد قتل ذاك الظبي الذي يقوده، توسَّلت إليه خجي ألا يفعل، لأن القطيع لم يؤذياهما، إلا أنه لم يتراجع عما صمم عليه، فسدد سهماً نحو ذاك الظبي، وأوقعه أرضاً، ولما انحنى عليه ليذبحه، وكان ما زال حياً، ركله برجله، فأوقعه من جرف عالٍ. حينئذٍ وقفت خجي تناديه وتبكيه، وحين رأت فرساناً قادمين من بعيد، ألقت بنفسها عليه من أعالي الجرف، فاحتضنته وماتا معاً.
هذه الملحمة، إذ تصور حب العاشقَين ووفاءهما، وخاصة وفاء الفتاة، فهي تشكل في الوقت نفسه وثيقة إدانة لموقف الأهل الذين يريدون تزويج بناتهم وفق آرائهم وأمزجتهم، ولا يعيرون مشاعرهن أي اهتمام، و " صرخة نضاليه ضد كل القيم التي تخلق المآسي "([4]). والحب فيها حسب الباحث روهات آلاكوم " قد تجاوز كل العقبات التي وضعتها العلاقات الاجتماعية الظالمة في طريقه"([5]). وهي في الوقت نفسه تعبَّر عن عناد الرجل الكردي، الذي إن حزم أمره وصمّم على شيئ، فإنه لا بد أن يَقدِم عليه. يبدو ذلك من خلال إصرار سيامند على مطاردة الظبي، رغم محاولات خَجي لصرف نظره عنه.
ينتفي العنصر الأسطوري في هذه الملحمة، ولولا البطولة الخارقة التي يبديها سيامند في مواجهة فرسان العشيرة، لترددنا في تسميتها "ملحمة "، وذلك للمكانة التي يحتلها هذا العنصر بين أحداث الملحمة كجنس أدبي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، نرى أن انتفاء هذا العنصر فيها، يدل على أنها من نتاج مرحلة ما بعد الأساطير، وتقدُّم الوعي البشري، حيث لم يعد العقل يستسيغ الأعمال الأسطورية الخارقة.
انتقلت هذه الملحمة إلى الأدب الكوردي المدوَّن، فقد نظمها الشاعر عبدالقادر بنگُول شعراً في ألفين ومائة بيت وبيتين، وصدرت الطبعة الأولى لها عن دار "نو بهار" في إستانبول عام ( 2015 ).
([1]) Dr. Husên Hebeş: Destanin ji helbesvaniya gelêrî kurdî, çapa duwem, belavgeha Hogir, Bonn 2001, rû 83 -108
([2]) الطبل و الزرنا آلتان موسيقيتان.
([3]) Zarotina Kurda, beş 1, neşirxaneya Naûka, çapa yekem, Moskova1978, rû118 – 148اعتمدنا هذه الرواية في هذه الدراسة.
([4]) د. عزالدين مصطفى رسول: دراسة في أدب الفولكلور الكردي. مرجع سابق، ص 62.