بالرغم من الموقف الحرج لطهران بعد قيام أحد أذرعها في العراق بقتل الجنود الأميركيين وجرح عدد كبير منهم،
إلاَّ أنها ما تزال تستخدم استراتيجية الترهيب عبر بعض دبلوماسييها إلى جانب استراتيجية الترغيب والتهدئة والرغبة بالحلول السلمية بعيداً عن طبول الحرب، وذلك من خلال تصريحات وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان والمتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، في الوقت الذي نراها في مكانٍ آخر تلوّح بالرد القاسي وتستخدم لغة التهديد والوعيد، كما هو دأبها إذا ما تعرضت لأي ضغوط أو هجوم محتمل، حيث قال مبعوث إيران لدى الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني: "إن أي هجوم على إيران أو مصالحها أو مواطنيها خارج حدودها سيقابل برد حازم "، وفقاً لـ"سكاي نيوز"، وفي الإطار ذاته، قال القائد العام للحرس الثوري الإيراني حسين سلامي، الأربعاء، "إن بلاده سترد على أي تهديد من الولايات المتحدة"، على ما نقلت "رويترز".
وطهران عادةً ما تجلب لها حروبها المفتعلة خارج حدودها الكثير من البهجة والسرور، بما أنَّها، وللأمانة، ماهرة في إشغال وإشعال العالم خارج مضاربها حتى لا تقترب النيران من منزلها الداخلي الهش، كما تعمل دولة الملالي بشتى السبل على خلق الأزمات والصراعات في المنطقة لضمان البقاء والحفاظ على النظام داخل إيران كواحدة من أبرز استراتيجيات طهران، فهي ما تزال فالحة في محاربة الآخرين عبر وكلاءٍ لها في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، وفي هذا الصدد كتب رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، ويليام بيرنز، في مذكرة بمجلة "فورين أفيرز" في 30 كانون الثاني (يناير): "إن مفتاح أمن المنطقة هو التعامل مع النظام الإيراني"، لأن دولة الملالي اكتسبت جرأة بسبب الأزمة، ويبدو أنها مستعدة لاستخدام آخر وكلائها الإقليميين لإثارة الحرب، مع توسيع برنامجها النووي؛ ولكنها في أعقاب عملية حزب الله العراقي خصوصاً عندما شعرت بالخطر حثت الولايات المتحدة على استخدام الدبلوماسية لتخفيف التوترات التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط حالياً، وفي هذا الجانب أوضح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في منشور على منصة "إكس" أن "البيت الأبيض يعلم جيداً" أن الطريق لإنهاء الحرب و"الأزمة الحالية في المنطقة، سياسي".
إذ لمجرد تصور القيادة الإيرانية بأن الرد الأميركي المتوقع قد يكون مؤلماً تخلت عن خطابها المتغطرس وراحت تحاول الظهور أمام العالم بخطاب دبلوماسي مرن يشعر المتابع حيالها بأنَّ طهران انضمت إلى حلف السلام العالمي وأوقفت كل مشاريعها العدوانية عبر أذرعها في دول المنطقة، وأنها باتت تميل لنغمة مناصري حقوق الإنسان تجاه الداخل الإيراني، بينما عملياً وواقعياً فطهران لم تتخلص من سمومها ولا تخلت عن أنيابها ومخالبها الحادة، إنما ما زالت محتفظة بكامل غطرستها، وفي الحقيقة إن هذه اللغة الودية الأخيرة هي وقتية، وقد تستمر إلى حين الانتهاء من الرد الأميركي المرتقب، عندها ستعود طهران إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، أي إلى وضعية التمادي والاعتداء والهجوم على دول الجوار من ناحية، والاستمرار بتصفية المعتقلين السياسيين في الداخل من ناحية أخرى، وفي إطار التصفيات الداخلية لكل مناوئ لسياستها الطغيانية قال مرصد حقوق الإنسان في إيران إن عدد عمليات الإعدام في إيران بلغ 850 شخصاً في عام 2023، لافتاً إلى أن القضاء الإيراني زاد من تنفيذ أحكام الإعدام بنسبة 45 بالمئة في عام واحد فقط، وأكد المرصد أن نظام الملالي أعدم 18 شخصاً من السجناء السياسيين على الأقل في عام 2023، ووفقاً للإحصائيات التي سجلها المرصد أنه منذ كانون الثاني (يناير) من عام 2023 تم تنفيذ أحكام الإعدام بحق 25 سجينة في سجون نظام الملالي، مما يظهر نمواً بنسبة 37 بالمئة مقارنة بالعام السابق، ولا تزال إيران وفق المرصد ذاته تحمل الرقم القياسي لإعدام النساء في جميع أنحاء العالم.
ومع أنَّ القاصي والداني بات يعرف أنَّ طهران تحث أذرعها على القتال بالنيابة عنها في البحر الأحمر وسوريا ولبنان والعراق وأخيراً الأردن، إلا أنها خشية من أن يكون الرد الأميركي القادم نتيجة خسران جنودها أقسى من الرد السابق الذي تمثل بتصفية قائد فيلق القدس قاسم سليماني، الذي قُتل في الثالث من كانون الثاني (يناير) 2020 بعد خروجه من مطار بغداد، وأيضاً تصفية أبو مهدي المهندس، مؤسس كتائب حزب الله في العراق، لذا تحاول طهران التملص من العملية الأخيرة ومن أجل ذلك سارعت عبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، الإثنين، إلى نفي أي علاقة لبلاده في الهجمات التي استهدفت قاعدة أميركية في الأردن، قائلاً إن "فصائل المقاومة" في المنطقة لا تتلقى أوامر من إيران، وأشار إلى أن "هذه المجموعات تقرر وتتصرف بناءً على مبادئها وأولوياتها وكذلك مصالح بلدها وشعبها".
على كل حال، فإنَّ محاولة تهرب طهران وتملصها من تبعات عملية حزب الله العراقي بخصوص مغامرتهم الأخيرة مع القوات الأميركية تذكرنا بإحدى قصص إيسوب الإغريقي الذي ذكر أن "في إحدى المعارك غامر عازف البوقِ بالاقتراب الزائد من العدو، فما كان من العدو إلا أن أخذ العازف أسيراً، وعندما قرروا إعدامه على المغامرة، توسل إليهم العازف بأن يسمعوا دفاعه لطلب العفو، وقال العازف: إنني إمرُؤٌ لا أقاتل، وإنني بالفعل لا أحمل سلاحاً، وكل ما أقوم به هو أنني أنفخ في هذا البوق، وذلك شيءٌ لا يمكن أن يُلحق بكم ضرراً، فلماذا إذن ستقتلونني؟ عندئذٍ قال الآخرون: ربما أنك لا تقاتل بنفسك، غير أنك تشجع رجالك على القتال وتقودهم إليه".
الحوار المتمدن