أقدم الأستاذ علي سيدو الكردي على ترجمة العديد من المقالات والمؤلفات المعنية بتاريخ الأكراد ولغتهم وحضارتاهم وقضيتهم، لكن تلك الأعمال المترجمة بقيت مخطوطة دون أن ترى النور، ولم يستفد القارئ من الجهد الكبير الذي بذل من أجلها، حيث تميزت بمعلومات قيمة وآراء غير متحيزة، سيما وأنها ألفت من قبل أجانب عاشوا مع الكرد وعرفوا قضيتهم عن كثب، ولو تم نشرها لربما أسهمت في تعريف القارئ العربي على القضية الكردية، ومعرفة مدى الظلم والإجحاف الذي لحقهم.
ومن الكتب الأجنبية التي قام الأستاذ علي سيدو الكردي بترجمتها إلى اللغة العربية من اللغات الكردية، والإنجليزية، والتركية:
1- كتاب (الأكراد)، لحسن أرفع - ترجمه عن الإنجليزية.
2- كتاب (رحلة بين الشجعان)، للصحفي الأمريكي دانا شميت - ترجمه عن الإنجليزية.
3- كتاب (جمهورية مهاباد الكردية/ جمهورية 1946 الكردية)، للمستر وليام إيجلتون الابن (دبلوماسي أمريكي) - ترجمه عن الإنجليزية.
4- كتاب (الأكراد)، لتوماس بوا - ترجمه عن الإنجليزية، وقد علق عليه في كثير من المواضيع.
5- كتاب (مشكلة الإقليم الشرقي في تركيا). لمؤلفه محمد أمين بوز ارسلان. ترجمه عن التركية.
6- (درسيم في التاريخ)، تأليف د. محمد نوري الديرسمي،ترجمه عن التركية.
7- (مجموعة الأمثال باللغة الكردية). يناهز عددها (2500) مثلاً، ترجمها من الكردية (الكرمانجية الشمالية) إلى اللغة العربية.
الأستاذ علي سيدو الكردي
ومن مقالاته المترجمة هذا المقال الذي ينشر لأول مرة هذا المقال:
(الأكراد والقضية الكردية)
محاضرة ألقاها المقدم (الكولونيل) دبيلو. جي. الفنستون
GOLONEL W . G. Elphinston , M.C.
بتاريخ 24/9/1947م في قاعة جمعية مجلة آسيا الوسطى الملكية بلندن،
ونشرت في العدد (35) من مجلة آسيا الوسطى الملكية
(Royal Central Asian Journal)
نبذة عن حياة المقدم الفنستون: خدم مع قوة فرسان الصحراء بفلسطين أثناء الحرب العالمية الأولى، وكان أول اتصال له بالأكراد عندما عين مساعدا للحاكم السياسي في إحدى المناطق الكردية (بتركيا) بالقرب من بلدة أورفه سنة 1918-1919م وبين 1925-1926م، وأصبح عضوا في البعثة العسكرية البريطانية في العراق. وخلال الحرب العالمية الثانية كان موظفا في قلم الاستخبارات السياسي البريطاني في الشرق الأوسط في القاهرة، وفي نهاية الخرب العالمية الثانية أصبح سكرتيرا للاستعلامات عن الشرقين الأدنى والأوسط في تشتام هاوس (CHATHAM HOUSE).
من هم الأكراد؟
أول سؤال يتبادر الى الذهن وتجدر الإجابة عليه هو: من هم الأكراد؟ وكيف وأين يعيشون؟
الأكراد من المجموعة الآرية ويظن أن ظهورهم في التاريخ كان نتيجة الصراع الذي وقع بين العناصر الإيرانية وبين السكان الأصليين الذين كانوا يقطنون سلاسل الجبال الكائنة الى الشرق من نهر الفرات. ومن بين قدامى قبائلهم (الجوتي= Guti) الذين كان يظن أنهم من أصل طوراني. وفي الشمال اختلط الأكراد مع الأرمن والقوقازيين، وفي الجنوب تزاوجوا مع الأقوام السامية التي تتكلم العربية في الهلال الخصيب، وبعد غلبة الأتراك على آسيا الصغرى تأثروا بهم ولكنهم برغم كل ذلك حافظوا على خصائصهم وشخصياتهم الكردية. ولهم مقدرة على امتصاص جيرانهم دون أن يؤثر ذلك على كيانهم المميز لهم. وهذه الميزة جديرة بالاهتمام لكل من يدرس القضية الكردية. وبعد أو ليس احتفاظ الأكراد لقومتيهم خلال أربعة آلاف سنة جدير بإبقائهم أكرادا في العصور المقبلة، والأكراد في الأصل من الأقوام الجبلية، ومازالت غالبيتهم تحافظ على هذا النوع من الحياة يعتمدون في معيشتهم على تربية الماشية والأغنام، وينقسمون اليوم الى فئات ثلاث: فئة ما تزال تتنقل انتجاعا للمرعى، وفئة شبه مستقرة تقيم في القرى شتاء وترتحل في الفصول الأخرى الى أماكن معينة. والفئة الثالثة استقرت وأخذت تعمل في الزراعة وتعني بتربية الأغنام والماعز. وبقدر ما يقال أنهم بارعون في تربية الأغنام والماعز، يقال كذلك أنهم مزارعون مهرة.
لقد كان موطن الأكراد قديما ينحصر في السلاسل الجبلية التي تمتد بين الهضبة الإيرانية وحوض دجلة، ويجاورن في الجنوب أبناء عمومتهم من اللور والبختيارية.
وفي القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر بعد الميلاد اجتاح الأتراك والمغول أرمينيا ودخلوها من شمال إيران متجنبين جبال الأكراد، وأوقعوا بالأرمن تقتيلا وتشريداً فخلت البلاد منهم، فدخلها الأكراد وملأوا الفراغ الذي تركوه في الشمال، وانتشرت قبائلهم الى الشمال والشمال الغربي والغرب، وهم اليوم يقطنون البلاد التي تشكل هلالاً يمتد من كرمنشاه في الجنوب الشرقي مارا بقارص وأرضروم في الشمال الى ما وراء بيراجبك في الجنوب الغربي، ويشكلون في البقاع الجبلية الأكثرية الساحقة، وفي الشمال والغرب يشاركهم الأتراك والعرب.
والأكراد وإن كانوا جبليين إلا أن بعض قبائلهم استوطنت السهول الكائنة في الجنوب الشرقي من تركيا والشمال الشرقي من سوريا وقد اندفعوا اليها بعد أن انتزعت القبائل القوية الشكيمة المراعي منها، كما أجبر السلطان مراد الرابع العثماني سنة 1620م بعض القبائل على استيطان السهول الكائنة على حدود الأناضول، ومن هذه القبائل قبيلة البرازي التي أجبرت على مغادرة وطنها الجبلي لتستقر في السهول الكائنة بالقرب من شواطئ الفرات بأعمال الجزيرة حيث تقيم حاليا لتحمي الأناضول من غارات العرب.
والكردي يبدو لأول وهلة صامتا متحفظا وقد يكون ذلك لسبب طبيعة عمله في الاعتناء بتربية الماشية، ولكنه في الواقع مرح فكه لا تلبث أن تظهر طبيعته بعد قليل. وهو كريم وكرمه يصل الى درجة الإفراط، وفي الحروب يسارع في اغتنام الفرص، واذا طال امد القتال يبدو عليه القلق وعدم الصبر. وفي اعتقادي أن مرد ذلك يرجع الى قلة الذخيرة التي يمتلكها، وأما إذا انخرط في جيش عصري تحت قيادة حسنة فأنه يصبح دون ريب جنديا ممتازا، وجمهرة الأكراد من السنة، وقلتهم من الشيعة.
هل تشكل القضية الكردية خطرا على السلام العالمي؟
تميل الاتجاهات السياسية في الظروف الراهنة الى تجسيم خطر القضية الكردية. وفي المقال المنشور في المجلة الأمريكية (FOREIGN AFFAIRS) لشهر تموز 1946م تأكيد هذا الخطر وبخاصة إذا استغل الروس هذه القضية واتخذوا منها لعبة في السياسة العالمية ضد كل من تركيا وإيران.
والأكراد خلقوا المتاعب في الماضي القريب إلى الحكومات التي تسيطر على أراضيهم، وقد يعودون الى ذلك اذا لم تعالج مشكلتهم علماً بأن الاتجاهات في معالجة القضايا العالمية تميل الى الإقلال من خطر قضايا الأقليات وبخاصة القضية الكردية، وفي اعتقادي أن الأكراد قد يكونون في ظروف معينة عامل استقرار بدلا من تهديد السلام في الشرق الأوسط.
الأكراد كالإسمنت في وحدة الشرق الأوسط
يعمل ساسة العالم اليوم الى إنشاء وحدات كبيرة بين الدول لا التجزئة الى وحدات صغيرة كما هو الحال في الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي ورابطة الشعوب البريطانية، بل أن المستر تشرشل وغيره يعملون على خلق أوروبا المتحدة، وهناك مشاريع مماثلة تهدف الى إيجاد اتحاد للشعوب السلافية.
والجامعة العربية برزت للوجود بعد الحرب العالمية الثانية في الشرق الأوسط وقد يكون هذا المشروع أكثر فائدة لو أصبح جامعة تشمل جميع دول الشرق الأوسط ودخلته تركيا وإيران والعراق وسوريا، حيث يقطن عدد كبير من الأكراد الذين يشاركون شعوب هذه الدول في الدين وإن اختلفوا عنهم في العنصر، فهم ليسوا اتراكا ولا عربا ولا فرسا، وفي مثل هذا المشروع لو تحقق يعمل الأكراد على تقوية الوحدة بدلا من التجزئة.
وقد يرد البعض على هذا الاقتراح بالقول أن مثل هذا الاتحاد غير ممكن بل ومستحيل؛ فالعرب ما زالوا يذكرونه بمرارة الأيام التي كانت فيها بلادهم جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، ولم يمضي بعد وقت كبير على تخلصهم من النير التركي، ويدركون أن الأتراك في مثل هذا الاتحاد سيتولون مركز الرئاسة. وسوريا ما زالت تستنكر ضياع لواء الإسكندرونة، والعراق يذكر أن تركيا كانت تطالب بجزء كبير من شمال بلادها بل وتسعى الى الاستيلاء عليه بالقوة. ومصر وإن كان كثير من رجالاتها يمتون الى الأصل التركي، وصاهر ملكها شاه إيران غير أن صحافتها تهاجم بشدة مشروع اتحاد الشرق الأوسط.
مما لا شك فيه أن جيوش تركيا وإيران والبلاد العربية مجتمعة تعد أقوى منها افراديا، ولكننا اذا علمنا أن قوات مثل هذا الاتحاد لا تستطيع الصمود أمام قوات دولة كبرى مزودة بالأسلحة والاعتدة الحديثة وحتى لو اتخذت موقف الدفاع. وهي باتحادها هذا قد تسبب قيام هجوم عليها.
فالمشروع من هذه الناحية غير عملي، وقد يكون ذا فائدة اذا عولج من الناحية الاقتصادية. ومن المحتمل قيام اتحاد جمركي قريبا في العالم العربي، واذا اتسع وشمل تركيا وإيران فان وضه الأكراد في المنطقة يصبح منسجما مع مثل هذا الاتحاد الاقتصادي. وقبل أن اعالج هذا الموضوع أرى أن ارجع الى الماضي واتحدث اليكم عن تاريخ الأكراد.
مقتطفات من التاريخ الكردي
تذكر دائرة المعارف البريطانية (الأنسيكلوبيديا البريطانية) أن الأكراد يشكلون أقدم ارستوقراطية في العالم، ولدينا أدلة في المخطوطات السومرية تشير الى وجود الأكراد حوالي سنة (2000) قبل الميلاد، وذكرهم فيما بعد (زنوفون) و(هيرودتس) و(سترابو). ولكنني لن أرجع بكم الى التاريخ القديم وسأبدأ بحثي عنهم من سنة 1639م، وعندما جرى تخطيط الحدود بين تركيا وإيران عقب فتوحات السلطان يازور سليم، والسلطان سليمان القانوني. ولم يطرأ على هذه الحدود أي تعديل حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في سنة 1918م. وقد تم تثبيت هذه الحدود في عهد السلطان (مراد الرابع العثماني والشاه عباس الثاني شاه إيران) وبموجبها انشطرت البلاد الكردية الى شطرين أحدهما في تركيا (تركيا الشرقية)، والآخر في إيران (إيران الغربية). وفي الحرب العالمية الأولى انشطر القسم الأول الى شطرين: أحدهما بقي في تركيا، والآخر الحق بالعراق.
يقدر عدد الأكراد الموجودين في تركيا بمليون ونصف، وفي العراق بثمانمائة ألف، وفي إيران بستمائة ألف، وفي سوريا بمائتين وخمسين ألفا، وفي أرمينيا السوفيتية بعشرين الفا. أن هذه الأرقام تقديرية إذ يصعب الحصول على أرقام مبنية على تعداد صحيح، فالأكراد يخفون عددهم تهربا من الخدمة العسكرية الإجبارية، ومن ضرائب النفوس.
عندما أقول أن الأكراد انشطروا في القرن السابع عشر ثم في العصر الحاضر لا يجب أن يفهم من ذلك أنه كانت لهم وحدة تحت سيادة ملك كردي واحد؛ فالأكراد لم يجمعهم وحدة شاملة، ويفتقرون اليوم الى مثل هذه الوحدة، وهم وإن كانت تميزهم عن جيرانهم صفات ومزايا خاصة، ولكنهم كانوا منقسمين الى قبائل وعشائر متنافسة متنافرة الأمر الذي حال دون قيام وحدة بينهم.
لقد كانت هناك ممالك كردية كالدولة الأيوبيين، وإمارات أربيل وتكريت في القرن الثاني عشر والثالث عشر، ولمع منها صلاح الدين الأيوبي، ولكن هذه الممالك لم تشمل كردستان بكاملها.
وبعد التسوية التي تمت سنة 1639م والسبب العون الذي قدمه الأكراد الآريون السنة الى الأتراك الطورانيين السنة في حروبهم مع الفرس الآريين الشيعة، حصل الأكراد على إدارة ممتازة في تركيا، وأنشأ السلطان يازور سليم سلسلة من الإمارات الكردية شبه المستقلة لتكون بمثابة حصون منيعة تقف بين تركيا وإيران، وبكلمة أخرى لتقف في وجه قيام أي عدوان فارسي.
ومن الجدير بالملاحظة، أن روابط الدين في ذلك العصر كانت أقوى من روابط العنصر، وإلا فكيف رحب الأكراد بالتحالف مع الأتراك الوافدين حديثا الى تلك البلاد وتفضيلهم على حكومة البلاد التي عاشوا فيها.
الأكراد في تركيا
استمر الأكراد في تركيا يعيشون حياة سعيدة مدة مائتين سنة بعد عام 1639م، ثم تبدل الأمر، وأصبح القلق يسيطر على حياتهم؛ فأعلنوا الثورة على الأتراك سنة 1826م، وفيما يلي التعليل:
أدخل السلطان محمود الثاني سنة 1826م اصلاحات في الدولة كان بعضها يرمي الى توسيع الإدارة المركزية بحيث تشمل المناطق القبلية، والحد من سيادة الأمراء والزعماء الإقطاعيين، فأثار هذا العمل حفيظة أمراء الأكراد، وقد وجدوا الفرصة مهيأة لقيام الثورة، ذلك أن السلطان بعد أن سرح الانكشارية تضاءلت قوة الجيش، ولم يعد يكفي للدفاع عن سوريا والأناضول، فاغتنم (بدرخان) أمير بوتان (بوطان) أحد أمراء الأكراد المستقلين استقلالا ذاتيا هذه الفرصة، وأخذ يعمل على تقوية مركزه، وأقام اتحادا كرديا مستقلا شمل مناطق ديار بكر وسيورك وويران شهر وسعرت والسليمانية وصاوج بولاق (مهاباد) ودام حكمه حتى سنة 1847م. وفي هذه السنة حشدت الحكومة التركية قواتها بعد أن أطمأنت وزال خطر محمد علي باشا المصري عنها. وبعثت على جناح السرعة لمقاتلة بدرخان فتمكنت منه، وقضت على استقلاله.
ولجأت الحكومة بعد ذلك الى سلوك سياسة جديدة في الشرق ارغمت بموجبها رؤساء القبائل الكردية وأفراد عائلاتهم أن يقيموا في العاصمة كرهائن تحول دون قيام قبائلهم بالثورة، ونجحت عن هذه السياسة لفترة قصيرة، ولكن الثورات لم تنقطع كما كان الأتراك يتوقعون، وظل زعماء الأكراد الأرستقراطيون ينفذون من منفاهم روح القومية والاستقلال الكردي، وقد شكلت حركتهم هذه عندما تمكن بعضهم من الهروب الى الخارج، وتبادل الآراء مع القوميين في البلاد الأخرى.
وفي عام 1889م قام السلطان عبد الحميد الثاني بتجربة جديدة لاقت بعض النجاح، فجمع اليه بعض زعماء الأكراد، واكتسب ولاءهم، وكانت هذه التجربة تقضي بتشكيل قوات غير نظامية، من القبائل التي قرب زعماءها اليه، واطلق عليها اسم (القوات الحميدية)، وجعل قيادتها بيد بعض زعمائهم، وكان إبراهيم باشا الملي أحد هؤلاء الزعماء رئيسا لاتحاد عدد من القبائل الكردية، وجعل مركزه في بلدة (ويران شهر)، وكان مواليا للسلطان، وعندما ثار الاتحاديون على السلطان سنة 1908م، تقدم على رأس قوة من فرسان الأكراد قوامها (1500) نفراً الى دمشق واستولى عليها باسم السلطان، ولما انتصر الاتحاديون وجد إبراهيم الملي نفسه يواجه حكومة معادية استنفرت خصومه من قبائل شمر لتحول دون رجوعه، فقتل في طريق عودته الى بلاده، وقضى ابنه محمود الذي أعرفه حقّ المعرفة ثلاث سنوات في السجن.
والعداء الذي كان مستحكما بين عشائر الملية، وعشائر شمر العربية، هو الآن في طريق التسوية؛ وذلك لأن (خليل) الابن الثاني لإبراهيم باشا الملي قد تزوج من أميرة شمرية انجبت له ولدا يدعى (محمد). وسيتولى رئاسة عشائر الملية بعد عمه (محمود)، وبدا أن سياسة الاتحاديين كانت لفترة قصيرة تساير القوميين الأكراد، ولكن سرعان ما ظهر بطلان ذلك. وكان أكثر زعماء الأكراد في نهاية الحرب العالمية الأولى يعارضون بشدة الحكم التركي، ويطالبون بالحكم الذاتي، بل بالاستقلال الفعلي، وقد شجعهم على المطالبة بتحقيق هذه الأهداف سياسة تقرير المصير التي كانت سائدة إذ ذاك. وقد جاءت معاهدة سيفر في موادها (26-64) محققة آمال الأكراد في الحكم الذاتي.
وانطباعاتي الشخصية التي كانت تجد ما يؤيدها من البريطانيين المنتشرين في المناطق الكردية بتركيا آنئذ هي أن جمهرة القبائل الكردية لم تكن متحمسة لفكرة الاستقلال أو الحكم الذاتي، وكان يبدو لي أنهم قانعون بالحياة تحت الحكم التركي.
واذا صح هذا الاستنتاج فكيف يمكن تفسير الأسباب التي دفعت بالأكراد بالقيام بالثورات الخطيرة في تركيا بين الحربين العالميتين.
المعروف أن الأكراد وأن لم يكونوا متعصبون للدين، فهم مرتبطون ارتباطا وثيقا بشيوخهم، وعندما ألغى الكماليون الخلافة، والعمل بالقوانين والأنظمة الشرعية، وفصل شئون الدولة عن الدين، تأثر شيوخ الأكراد للغاية، واعلنوا الثورة سنة 1925م بزعامة الشيخ (سعيد البيراني) لمقاومة الكماليين، وليس من شك في أن العامل الديني كان له الأثر الأول، ولكن هناك عوامل أخرى.
الشيخ سعيد بيران زعيم ثورة عام 1925م
واندلعت نيران الثورة الثانية سنة (1927-1930م) في منطقة آرارات، وكانت أكثر خطوة من الأولى، فاضطرت الحكومة التركية أن تسوق الفيلقين الرابع والسادس الى منطقة الثورة لإخضاعها. وثورة على هذا النطاق الواسع لا بد وأن يكون لها سبب خطير غير العامل الديني سيما وأن قائدها (إحسان نوري باشا) عسكري محنك، ولا جرم أن الزعماء القوميين تذرعوا بأسباب قوية لإقناع القبائل على الالتحاق بها.
صحيح أن الشعب الكردي يشعر بالمرارة من الطريقة الوحشية التي أخمد بها الأتراك ثورة الشيخ سعيد، والطريقة التي اعدموا بها الشيخ وزعماء الثورة، ولكن هذا غير كاف لإشعال نيران هذه الثورة. وفي اعتقادي أن السبب الذي يبدو منطقيا هو السياسة المركزية التي اتبعتها الحكومة في تتريك الأكراد في هذه المنطقة الباقية بيدها، وهذه السياسة كان الأتراك يعملون على تطبيقها على الأقليات المسلمة في بلادها لسهولة اندماجهم بسبب وحدة الدين.
نهاية حرب درسيم الوحشية
غير أن الأكراد الذين يشبهون الاسكتلنديون والايرلنديون يرفضون كل محاولة لتتريكهم، ومن انتزاع شخصيتهم الكردية المستقلة تماما، كما كان أولئك يرفضون كل محاولة ترمي الى جعلهم انجليزا بالقوة. والكردي يفاخر بكرديته، ولبس زيه القومي، ويطلب أن يتعلم ابناؤه بالكردية، وأن تكون له كتبه وصحفه بلغته.
وقد وقعت الثورة الثالثة في منطقة درسيم بين (1937-1939م)، وسببها المباشر صدور قانون التمثيل والدمج سنة 1937م، ودرسيم مركز للقبائل الكردية المعروفة بالظاظا، وغالبيتهم من العلويين الذين لا يهمم كثيرا أمر الغاء الخلافة، ولهذا لم يشتركوا في الثورتين السابقتين، وخلدوا للسكينة والهدوء حتى سنة 1937م، وكانت هذه الثورة شديدة افقرت الخزينة التركية.
ومما سبق يتضح أن سياسة الحكومة التركية في المناطق الكردية لم تلق نجاحا، إذ ناصبها أمراء الأكراد الاقطاعيين العداء، وعارضها رجال الدين، وثار ضدها الشعب الكردي دفاعا عن كيانهم القومي.
ليس من السهل أن نلم الحكومة التركية على كل ذلك، فسياستهم التي أدت الى هذه النتائج العقيمة كانت مبنية على حجج قليلون يناقشون صلاحها، كما لا يستطيع أحدا أن يلوم الأتراك على إخماد أية ثورة بكل الوسائل التي يمتلكونها من أجل أعادة النظام والقانون الى البلاد بالسرعة الممكنة.
إن الذين قرأوا كتاب (دراسة في التاريخ= Study in History) لمؤلفه ارنولد توينبي (ARNOLD TOYNBEE) يدركون أن ردّ الفعل الطبيعي لأقلية حاكمة فقدت ولاء أبنائها هو اللجوء الى القوة، ورد الفعل هذا هو في رأي البروفيسور توينبي مشكلة كل حضارة، وكل دولة عالمية، ويجب على الأتراك أن لا يتأثروا بها اذا لم يجدو لها جوابا. والحقيقة أن الجواب لم يعثر عليه طوال العصور التاريخية، والجواب الوحيد الذي أمكن الوصول اليه، هو: أن القوة ليست الجواب الصحيح!! ولدى استعراض أحداث العالم نجد أن فلسطين ومصر والهند واندونيسيا والهند الصينية لم يكن حظها أحسن حالاً.
والأسباب الثلاثة والتي ذكرتها أدت الى قيام الثورات الكردية، هي في رأيي معقولة ومنطقية، ولكننا نخطئ اذا اكتفينا بها، فهناك عامل آخر له أهميته، وأعني به هو الروح القومية التي أخذت تنتشر في كافة ارجاء العالم والتي انتقلت الى الأكراد أيضا.
والمساعي التي بذلت أخيرا من أجل ايجاد تسوية بين الحكومة التركية ورعاياها الأكراد لم تكن مثمرة؛ لأن الأتراك تعمدوا تجاهلها، وقيل للوسطاء من الأجانب أن ليس هناك مشكلة كردية، والأكراد ليسوا إلا أتراك جبليون.
ويبدو أنه قد طرأ تبدل على الوضع اليوم، ففي 28 آذار (مارس) 1947م تحدث رئيس الوزراء الى طلاب الجامعات وأشار الى الأكراد فامتدحهم- امتدح ولاءهم واخلاصهم في خدمة الجيش.
وفي 30 كانون الأول 1946م أقر المجلس الوطني الكبير قانونا يقضي بإلغاء الأحكام الاستثنائية المجحفة التي كان معمولا بها في درسيم (تونجلي) منذ 1937م.
واننا لنرجو أن تكون هذه البادرة دليلاً على إيجاد تسوية ودية في المستقبل بين هذين الشعبين الشجاعين الجديرين بكل محبة وتقدير.
الأكراد في العراق
عندما احتلت بريطانيا العراق سنة 1918م استقبلنا الأكراد استقبالا وديا وظلوا أصدقاء طيبين لنا، ولكنهم كانوا ساخطين من التسوية التي تركتهم رعايا لحكومة عربية، انطلقوا يثورون كلما سنحت لهم الفرصة، وأخطر الثورات التي قاموا بها حتى اليوم هي ثورة الشيخ محمود البرزنجي الزعيم الديني في السليمانية التي استمرت مدة اثنى عشرة سنة.
الزعيم محمود البرزنجي ملك كردستان
وما زلت أذكر أنه عندما كان الشيخ محمود البرزنجي في سنة 1927م فاراً في الحدود الإيرانية حاولنا ضرب حصار على موارده، فقدمنا حمايتنا الى القبائل الرحل التي كان يستغل مواردها، ومنعنا جباته من الوصول اليها، ولكننا وجدنا أن هذه القبائل التي كانت تبدي امتنانها الينا، كانت في الوقت نفسه تبعث اليه ليلاً مطالبه كاملة غير منقوصة؛ ذلك لأن نفوذه الديني كان عظيما.
والصداع الأكبر الذي دوخ حكومة العراق جاءها من زعماء الاتحاد البرزاني، وحدثت أول ثوراتهم ضد العراق سنة 1932م، وذلك عندما حاولت الحكومة العراقية أن تجبي الضرائب المتأخرة من البرزانيين. وقد اخضعت الحكومة الثوار وقضت على الثورة، وارغمت الشيخ أحمد البرزاني زعيم الثورة وأفراد عائلته على الإقامة الجبرية في السليمانية.
وفي سنة 1943م اجتاحت المجاعة أنحاء برزان بسبب القحط الذي أصاب المنطقة، وأخذ الملا مصطفى يتذمر ويشكو، ويطالب الحكومة بتقديم المؤن اللازمة لأفراد القبائل الجائعة، ولكن طلبه لم يلبى، فرفع لواء الثورة ضد حكومة العراق المركزية.
وفي عرض موجز كهذا أجد نفسي مضطر للإيجاز بقدر المستطاع وأسباب الاحتكاك بين الأكراد والحكومة التي أدرجها تاليا هي في اعتقادي صحيحة وهذه هي:
1- الكراهية الغريزية التي يحملها الأكراد نحو الحكم العربي وقد أمكن التخفيف من هذه الكراهية بإدخال عناصر كردية في الإدارة المركزية، والإدارات المحلية.
2- احتكار التبغ وغير ذلك من العوامل الاقتصادية الذي لا يتسع الوقت الى البحث عنها.
الأكراد في إيران
بدأت الحركة القومية في تركيا أما أكراد إيران الذين فصلتهم معاهدة 1639م عن إخوانهم أكراد تركيا فلم تنتشر بينهم الروح القومية بقدر ما انتشرت بين إخوانهم، وأكثر الحركات الكردية التي ظهرت في إيران مبعثها اطماع شخصية لزعمائهم، ولما تولى رضا شاه السلطة سنة 1920م سلك نفس السياسة التي سلكها الأتراك بعد سنة 1846م، فاستدعى زعماء الأكراد الى العاصمة وابقاهم فيها، فنجحت هذه السياسة في حفظ الأمن، واشاعة الاستقرار في المناطق الكردية لفترة قصيرة. إذ أخذت القبائل تشعر بالقلق بسبب حرمانها من زعمائها ومما تعانيه من سوء معاملة الموظفين الإيرانيين، فبلغت الحالة من السوء حدا خطيراً، انذر بالثورة ولما شعروا سنة 1941م بضعف السلطة المركزية ودخلت القوات البريطانية والروسية الأراضي الإيرانية أعلنوا الثورة التي صورت اتجاها جديدا في الشؤون الكردية.
إن التعليم الذي تلقاه ابناء زعماء القبائل في العاصمة الإيرانية قطع الصلة بينهم وبين قبائلهم، وبين التقاليد القبلية؛ فأدى ذلك الى إضعاف سلطة الزعماء الإقطاعيين، ولم يكن من المستغرب أن نجد الثورة الجديدة يقودها شخص مثل (حمه رشيد) رئيس فرع من قبيلة (بَكزاءات بانه) لم يكن معروف نسبياً.
وفي هذا التاريخ أصبح أكراد إيران أكثر تحسسا بالقومية الكردية، فقد تسربت اليهم هذه المرة من أرمينيا وأذربيجان السوفيتية بدلاً من تركيا.
وعندما أعيد تخطيط الحدود بعد الحرب العالمية الأولى بقي جزء صغير من البلاد الكردية ضمن أراضي أرمينيا السوفيتية يقدر عدد نفوسه بعشرين ألف نسمة، وقدم الروس الى هذه الأقلية كل تشجيع لتطوير طموحها القوي، وجعلوا اللغة الكردية لغة التدريس في المدارس الأولية والابتدائية والثانوية، بل وافتتحوا كلية كردية، وبسبب هذا التشجيع غدت الأقلية الكردية في أرمينيا السوفيتية مركزا هاما للروح القومية تأثر بها الأكراد عموما حتى شمل أكراد سوريا وشاهدت بعض نشراتهم في القاهرة.
ولما دخل الروس إيران سنة 1941م رحب بهم الأكراد ترحيبا حاراً، ولم يتدخل الروس في بث الدعايات القومية والشيوعية، ولكنهم اكتفوا بإظهار الحالة الحسنة التي يتمتع بها الأكراد تحت النظام السوفيتي للزوار من إخوانهم الأكراد الذين وفدوا من إيران.
وفي المدة التي نشأت فيها جمهورية ذاتية في أذربيجان الإيرانية تحت الإشراف الروسي سنة (1945- 1946م)، قامت جمهورية كردية [جمهورية مهاباد] في 22 كانون الثاني 1946م في مهاباد (صاوج بولاق)، وانتخبت القاضي محمد رئيسا لها. ولم تدم هذه الحكومة طويلاً فقد قضي عليها يوم تقدمت الجيوش الإيرانية الى أذربيجان، واعادت احتلالها، والقي القبض على القاضي محمد وحكم عليه بالإعدام شنقا، ونفذ به الحكم في 31 آذار 1947م.
الأكراد في سوريا
باستثناء الأكراد في قضاء (كورد داغ) أي جبل الأكراد في شمال غرب حلب الذين يقدر عددهم بنحو أربعين الفاً، وحيّ الأكراد في دمشق الذي يبلغ عدد سكانه زهاء عشرين الفاً لا توجد كتل كردية كبيرة داخل سوريا.
وأما أكراد الجزيرة الذين يشكلون القسم الأكبر من أكراد سوريا البالغ مجموع عددهم (250) الفاً فهم يشكلون امتدادا للقبائل الكردية الجنوبية التي تقطن داخل الأراضي التركية، وقد انسلخوا مع أراضيهم [ضموا قسرا الى سوريا] بموجب اتفاقية تعديل الحدود بين الأتراك والفرنسيين سنة 1921م، التي اقرتها معاهدة انقرة سنة 1929م.
ظهرت لدى أكراد سوريا جمعية خويبون (الاستقلال) التي تشكلت سنة 1927م لمواصلة الكفاح القومي.
وحي الصالحية بدمشق، فهو منسوب الى السلطان صلاح الدين الأيوبي الموجود ضريحة بالقرب من الجامع الأموي الكبير، وتقديراً لأعمال هذا السلطان الجليل فأنه ينظر الى الأكراد في سوريا كمواطنين سوريين، بينما يشعر أكراد الجزيرة بالامتنان العظيم لحسن المعاملة التي يلقونها، ويشترك الأكراد في الخدمات العامة فمنهم رئيس الوزراء (حسني البرازي)، ومنهم نواب في البرلمان، وهم بالإجمال مخلصون للدولة، ومنهم أيضا زعيم الحزب الشيوعي (خالد بكداش).
وفي سوريا يمكن ايجاد حل حقيقي للمشكلة الكردية لا عن طريق الحكم الذاتي ولا عن طريق الاندماج والتمثيل، بل باعتراف الحكومة السورية بالقومية الكردية، وباعتراف الأكراد بأنهم مواطنون في الجمهورية السورية، وولاء الأكراد لسوريا لا يتعارض وتقاليدهم.
وردتني رسالة من دمشق تفيد بأن رئيس الجمهورية السورية السيد شكري القوتلي قام بزيارة الى القبائل الكردية في الجزيرة، والقى الأكراد خطابا ترحيبيا به باللغة العربية، ثم ألقى رئيس الجمهورية كلمة وجهها الى الزعيم الكردي (حسن حاجو آغا) قال فيها: " لقد سمعت خطبا كثيرة باللغة العربية، وأود أن اسمع خطاباً بلغتكم". فقام أحد شعراء الأكراد المتواجد بين جمهور الأكراد والقى خطابا باللغة الكردية حيث جرت ترجمته حالاً الى العربية، واستطرد مرسل الكتاب لي، وقال: أن سياسة الرئيس هذه جعلت الأكراد من أخلص رعاياه.
كيف تحل القضية الكردية؟
الحل الذي ذكرته بشأن القضية الكردية في سوريا اعتقد أن بالإمكان توسيعه بحيث يشمل الأقليات الكبرى في تركيا وإيران والعراق. وسياسة التسامح التي اشرت اليها في تركيا دليل على أن الحكومة التركية تسعى الى هذا الغرض، وفي العراق نخبة ممتازة من مستنيري الأكراد يعملون على إيجاد حل عادل لقضية شعبهم ضمن الدستور العراقي، والحكومة مستعدة لقبول مقترحاتهم، وقد تأتي وزارة عراقية ذات يوم فتقر هذه المقترحات وتصبح قانوناً.
والخطر الذي يقف في وجه هذه الحلول قد يأتي من دولة أجنبية تستغل شكاوي الأكراد لصالحها قبل أن تتمكن حكومات هذه البلاد من اكتساب مودة رعاياها من الأكراد.
وقد أشارت الى هذا الخطر برقية نشرت في صحيفة (سينس مينتور) بتاريخ 27 آب 1947م، التي تصدر في بوسطون (POSTON) بالولايات المتحدة الأمريكية، وهذا بعض ما ورد في تلك البرقية:
"في الوقت الذي كان فيه البرلمان الإيراني يناقش اتفاقية الزيت الإيراني كان الدبلوماسيون يبعثون بتقارير الى حكوماتهم تفيد أن عشرة آلاف من أكراد بارزان يؤيدهم الجيش الأحمر يحتشدون على طول الحدود الشمالية الغربية داخل أراضي أذربيجان السوفيتية... وإن بعض الأكراد الذين تجمعوا مؤخراً على الحدود الإيرانية تمكنوا من النجاة الى الاتحاد السوفيتي بعد أن قاموا بسلسلة من المعارك مع القوات العراقية والإيرانية والتركية بقيادة زعيمهم الملا مصطفى البرزاني، وهذه العصابات بالذات كانت تقدر في وقت من الأوقات بين 1200و 2000 نفر...ابلغ بعض رجال القبائل الكردية من الموالين للقيادة العامة أن عملاء السوفييت ورجال البرزاني يعملون بنشاط بين أفراد قبيلة الجلالي.
ويقول المحاضر ألا يحسن بهذه البلاد أن تعالج في سياستها القصيرة الأمد كلما يشكوا منه الأكراد وتتخذ الخطوات اللازمة لإزالتها.
وحل المشكلة الكردية قد يوجد في سياسة طويلة الأمد- سياسة وحدة الشرق الأوسط، وحيثما هذه السياسة لو اتخذت لا تكفي للحل ولكنها ستساعد على ايجاد الحل للقضية الكردية في مختلف البلاد التي تقييم فيها جمهرتهم.
إن وجود حدود دولية تفصل الأكراد بعضهم عن بعض يشجع قبائلهم على الهروب من وجه الحكومات التي تطالبهم، فالحكومة التركية مثلا قد ينجوا من تطالبهم الى سوريا والعراق أو إيران، ومثل ذلك يمكن أن يكون بالنسبة لحكومات سوريا والعراق وإيران وهذا ما يجعل حل الخلافات المحلية من الصعوبة بمكان.
إننا نعلم أنه كان من السهل على الشيخ محمود البرزنجي أن ينجو الى إيران عند التضييق عليه، وفعل مثله مصطفى البرزاني وحمه رشيد الذي تمكن أن يهرب من إيران ويلتجئ الى العراق.
وفي الحدود المصطنعة التي تفصل بين شعب واحد، توجد وسائل وطرق كثيرة تساعد على خلق المتاعب وعدم الاستقرار في الدولة. وأعرف زعيم قبيلة كردية يقيم في سوريا ويقطن ثلثا قبيلته في تركيا والثلث في سوريا، أن مثل هذا الزعيم لا يمكن أن يتخلى عن قبيلته التي احتفظ أجداده بزعامتها مدة مائتين سنة لمجرد موافقة فرانكلين بويلون (FRANKLIN BOUILON) على اعتبار خط سكة الحديد التي تمر بأراضي قبيلته حدا فاصلا بين تركيا وسوريا.
يطالب قادة الحركة الكردية الآن بكردستان موحدة، وفي اعتقادي أن مثل هذا الطلب غير عملي؛ ذلك لأن العوامل الجغرافية، وعدم وجود طرق مواصلات تسهل اتصال الأكراد وتنمية اقتصادياتهم لا يساعد على قيام دولة كردية.
والبلاد الكردية تفصلها سلاسل جبلية عالية تبدأ من زاغ روس في الجنوب وتمتد شمالا حتى جبال آرارات، فهذه تحول دون اتصال أكراد إيران وأكراد تركيا تجارياً كما لا تساعد على مثل هذا الاتصال مع أكراد العراق وسوريا.
ويدلنا التاريخ على أن الأكراد لم يتحدوا سياسيا في وقت من الأوقات؛ لافتقارهم الى عناصر الوحدة والتماسك، ولكن الأدلة على اتحادهم لدفع أية محاولة تقضي على قوميتهم ودمجهم في غيرهم من الشعوب كثيرة. ولقد لاحظنا كيف أدى أنتشار القومية في الشرق الأوسط الى الاحتكاك المسلح بين الأكراد من جهة وحكومات تركيا والعراق وإيران من جهة أخرى.
فالحل للقضية الكردية لا يمكن أن يأتي من هذه الناحية، بل لا بد من البحث عنه في وحدة اقتصادية ترفع فيها القيود الجمركية، وتتوحد جوازات السفر بين أقطار الشرق الأوسط، وتزال حواجز الحدود، وحينئذ فقط سيعود الأكراد الى الوحدة التي كانت تجمعهم منذ فجر التاريخ، وتمكنهم من تقوية الأقاليم التي يعيشون فيها حالياً.
وهناك روابط كثيرة أقوى من روابط القومية والعنصر، فقد رأينا أن الكردي في القرن السابع عشر حالف الأتراك السنة ضد أبناء عمومته الفرس الآريين الشيعة. كما رأينا صلاح الدين الأيوبي يغادر وطنه على نهر دجلة بدافع ديني ليحرر مصر من الفاطميين الشيعة، وينقذ فلسطين من الصليبيين.
واليوم بعد أن أصبحت المصالح الاقتصادية أكثر أهمية، فهل يستبعد أن نتوقع في نظام اقتصادي حسن التخطيط بكونه شاملا لجميع أقاليم الشرق الأوسط بقيادة زعامة مشتركة أن ينسى الأكراد وغيرهم من الأقليات الأخرى اختلافاتهم القومية والدينية، ويصبحون مواطنين صالحين في وحدة كبرى، واذا لم تكن العوامل الاقتصادية كافية للوصول الى مثل هذه التسوية، فيجدر البحث عن عوامل أخرى من شأنها توحيد شعوب الشرق الأوسط بقيادة زعامة مشتركة.
أن انعزال الأكراد في جبالهم أبقاهم أمة بدائية؛ ولكنهم اليوم بعد أن يأخذوا بأسباب الحضارة وانتشر بينهم التعليم وتحسنت وسائل المواصلات والتجارة والصناعة؛ فأنه لا بد لنا من الانتظار بعض الوقت لنرى ردّ الفعل على كل ذلك. ومها تكن النتيجة فلا بد من إيجاد حل مرضي لقضيتهم على أساس الاشتراك مع شعوب الشرق الأوسط لا في الاندماج، ولا في الانعزال.
لقد خلق الوضع الجغرافي في الأكراد ميلاً نحو الاستقلال، وطورها التاريخ الى عادة، وجعلها الطابع القومي تقليداً أو عرفاً، ولست أرى سبباً يحول دون هذا التقليد وشراكة حرّة مثمرة مع الشعوب الإسلامية والأقليات غير المسلمة التي تعيش بينهم.
بعض الأسئلة الموجه الى المحاضر؟
3- الدكتور ج. م. ليز (DR.G.M.LEES): أود أن أضيف بعض الكلمات على المسألة الكردية من وجهة نظري الشخصية، لقد كنت أحد المتحمسين بقضية يتزعمها الميجر سون (Majar Soane) وكنا نعنى بقضية كردستان، وكان ذلك عقب الحرب العالمية الأولى، وكان حماسنا للقومية الكردية مبنيا على فكرة أكثر نضوجا وبدا لنا أنه من الحيف وضع كردستان تحت سيادة عربية، ولم نكن نتردد بإظهار عدم موافقتنا لهذه الفكرة.
والآن وبعد مرور فترة طويلة من الزمن فأنني أوافق العقيد الفنستون بعدم قيام استقلال كردي تام. أن كردستان مع سلاسل جبلية مرتبة ترتيبا جغرافيا لا يسمح بتسهيل المواصلات، ولا بقيام وحدة سياسية على طول امتدادها، وكل جزء من الأجزاء الكردية لا بد وان يتصل تجاريا مع الجزء المقابل من مناطق السهول المقابلة له في الجنوب الغربي أو مع الهضبة الوسطى في الشمال الشرقي، كما وإن لكل جزء لهجة خاصة به، فالكردي في الجنوب لا يكاد يفهم الكردي في الشمال وهذا من العوامل التي تعيق قيام الوحدة.
ولهذه الأسباب أوافق المحاضر بأن الذين يشعرون منا بميل وعطف على الأكراد يستطيعون خدمتهم بالعمل على إقناع الحكومات التي يعيشون ضمن حدودها أن تمنحهم امتيازات أفضل بدلا من تشجيعهم على العمل على استقلال كامل. وأني لمتأكد بأنه لو منح الأكراد هذه الامتيازات لأصبحوا مواطنين صالحين، وليست مطالب الأكراد صعبة ولا كثيرة، وتنحصر في امتيازات اللغة والتدريس والإدارة الذاتية المحدودة. واعتقد أننا نسيء اليهم اذا نحن ايدناهم في مساعيهم من أجل الحصول على استقلال تام، ووحدة كاملة، سيما في هذه الأوقات الحرجة كما وأن الأسباب الجغرافية لا تساعد على قيام هذه الوحدة (*).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) ملاحظة من المعد: [إن ما قدمه المحاضر البريطاني الكولونيل الفنستون في محاضرته من معلومات واستنتاجات عن الأكراد وقضيتهم تعبر عن وجه نظره فقط، وهناك آراء ربما لا يقبلها الكثيرون منه، وتبين لنا كيف كان الغربيون ينظرون الى القضية الكردية حينذاك، ووجه نظرهم في حل المشكلة الكردية، لكن القضية الكردية بعد 70 سنة من عمر هذه المحاضرة بقيت تراوح في محلها، ولم تحل بشكل جذري في الدول الأربع التي تتقاسم أراضي كردستان وشعبها، وقد دفع الكرد ثمنا باهضا من أجل الدفاع عن هويته ووجوده أمام حملات الصهر والاندماج التي قادتها تلك الدول الأربع ضدهم].
تقديم وإعداد: د. محمد علي الصويركي