ربما أكثر المراقبين والمترقّبين لسير الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة في ألمانيا ونتائجها، كانت تركيا . ليس لكون البلدين حليفين وأعضاء في “الناتو”، أو أن الأتراك يشكّلون أكبر جاليّة أجنبيّة في ألمانيا، أو أن العلاقات الاقتصاديّة بين البلدين تشهد انتعاشاً ملحوظاً،
بل لأن أنقرة كانت تأمل وتمنّي النفس بهزيمة “المرأة الحديديّة” أنجيلا ميركل وحزبها “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” المعارض لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي . ولكن، الفوز الكبير الذي حققته ميركل، وحصول حزبها على نسبة 42 في المئة من أصوات الناخبين، وحصده 311 مقعداً في “البوندستاغ” - (البرلمان)، في مقابل حصول الأحزاب المؤيدة لتركيا على 319 مقعداً (الاشتراكي الديمقراطي ،192 وحزب اليسار 64 وحزب الخضر63 مقعداً)، أتى مخيّباً للآمال التركيّة، و”ضربة” للحلم التركي في الانضمام للاتحاد الأوروبي . وإذا وافقت ألمانيا، كونها أكبر قوّة اقتصاديّة وبشريّة في القارة العجوز، ربما تكون موافقة باريس تحصيل حاصل . والسؤال: ما هو تأثير نتائج الانتخابات الألمانيّة في مساعي تركيا للانضمام للاتحاد الاوروبي؟ وهل يعني فوز ميركل، دخول حلم تركيا “الأوروبي” في غرفة العناية المشددة؟
العلاقة الوطيدة بين ألمانيا وتركيا، لا تعود لفترة انضمام ألمانيا لحلف الناتو في 9-5-،1955 بعد انضمام تركيا إليه في 18-2-،1952 بل إلى الحقبة العثمانيّة، حين دخلت السلطنة العثمانيّة الحرب العالميّة الأولى (1914-1918) إلى جانب ألمانيا . وبعد انتهاء الحرب، وتحوّل ألمانيا إلى كومة ركام، احتاجت إلى القوة العاملة الرخيصة، فوقّعت بون (عاصمة ألمانيا الغربيّة وقتئذ) اتفاقاً لتبادل العمالة مع أنقرة سنة ،1961 بموجبها دخل نحو 900 ألف تركي (20 في المئة نساء) للعمل في قطاع الإنشاءات والمناجم والحديد والصلب وصناعة السيارات، تمّ اعتبارهم ك”عمّال مؤقّتين”، تنتهي إقامتهم بانتهاء مدّة العقد (سنتين ).
والآن، تعتبر الجالية التركيّة أكبر جاليّة أجنبيّة في دول الاتحاد الأوروبي عموماً، وفي ألمانيا على وجه الخصوص، حيث تشير الإحصاءات إلى وجود نحو ثلاثة ملايين تركي فيها . بينما يعيش في تركيا نحو 70 ألف ألماني . وبحسب وزير الجمارك والتجارة التركي حياتي يازيجي هناك 4460 شركة أسسها مواطنون أتراك في ألمانيا، لها استثمارات في تركيا تُقدّر ب4 مليارات يورو . بينما أشار رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، (أثناء مؤتمر صحفي جمعه بالمستشارة الألمانيّة أنجيلا ميركل، احتفاء بمرور 50 سنة على إبرام اتفاقيّة تبادل العمالة)، أشار إلى وجود ما يزيد على “5 آلاف شركة ألمانيّة تستثمر في تركيا بقيمة 5 .5 مليار دولار” . وتحتل ألمانيا المركز الثاني في الدول التي تستورد منها تركيا، والأولى بين الدول التي تصدّر إليها . في حين تأتي تركيا في المرتبة 15 بين الدول التي تستورد منها ألمانيا، والمرتبة 21 بين الدول التي تصدّر إليها . كما ذكر أردوغان أن حجم التبادل التجاري بين البلدين تجاوز 35 مليار دولار . وعدد السيّاح الألمان الذين زاروا تركيا العام الفائت تجاوز 5 ملايين شخص.
علاوةً على ذلك، ترتبط برلين مع أنقرة بمجموعة اتفاقيّات على صعيد السياسة والزراعة والتعليم والثقافة والسياحة وتبادل المعلومات الأمنيّة والخبرات العسكريّة . وعليه، يمكن اعتبار ألمانيا أهم شريك اقتصادي أوروبي لتركيا، رغم معارضتها انضمام الأخيرة إلى الاتحاد الأوروبي!
تجدر الإشارة إلى أن العلاقات الألمانيّة - التركيّة، دخلت في السنوات الأخيرة، ما يمكن وصفها بالأزمة السياسيّة العابرة في محطّتين:
* الأولى: حين صوّت البرلمان الألماني في 15-6-2005 على قانون الاعتراف بالمذابح الأرمنيّة التي ارتكبتها السلطنة العثمانيّة سنة 1915 - ،1917 وراح ضحيّتها مئات الآلاف من الأرمن
* الثانيّة: حركة الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها تركيا، على خلفيّة نيّة الحكومة إقامة مشروع من شأنه تغيير معالم إسطنبول في ساحة تقسيم وحديقة “غيزي”، حيث استدعت الخارجيّة الألمانيّة السفير التركي وقدّمت إليه احتجاجاً رسميّاً على قمع الحكومة لتلك الاحتجاجات . ردّت عليه أنقرة بالمثل، واستدعت السفير الألماني.
ضدّ الكردستاني
لا تنفكّ أنقرة عن اتهام برلين بمنح هامش حريّة التحرّك لعناصر وقيادات حزب العمال الكردستاني على الأراضي الألمانيّة، إلاّ أن برلين قدّمت خدمات مهمة بخصوص مكافحة الكردستاني . أبرزها:
1-ألمانيا أوّل دولة أوروبيّة صنّفت الكردستاني منظمة “إرهابيّة” سنة 1993 . وتلاحق أنشطة الحزب وقياداته، وسجنت وتسجن العشرات منهم.
2-ساهمت برلين في اعتقال زعيم الكردستاني عبدالله أوجلان . حيث كان الأخير مطلوباً للقضاء الألماني، ويجب اعتقاله، حال تواجده على الأراضي الأوروبيّة . وأثناء تواجد أوجلان في إيطاليا سنة ،1999 قامت برلين بإجراء تعديلات قانونيّة، كي لا تكون مجبرة على مطالبة روما بتسليم أوجلان، وإيداعه السجن، ما يعني استحالة تسليمه للسلطات التركيّة، ريثما ينهي حكمه . وأثناء ذلك، قد يقدّم أوجلان طلب اللجوء السياسي في ألمانيا، والأخيرة مجبرة على الموافقة، طبقاً لقوانين اللجوء السياسي، ما يعني منح حصانة قانونيّة لأوجلان على الأراضي الألمانيّة والأوروبيّة عموماً . ولو لم تفعل ألمانيا ذلك، لكان هنالك كلام آخر عن تاريخ تركيا خلال ال14 سنة الأخيرة.
3- بعد سقوط جدار برلين، وتوحّد ألمانيا، قامت الأخيرة بتقديم كميّة كبيرة من الأسلحة والمدرّعات والسيّارات المصفّحة من ترسانة ألمانيا الشرقيّة، مجّاناً، للجيش التركي، شريطة عدم استخدام هذه الأسلحة ضدّ المدنيين . ورغم إثبات منظمات حقوقيّة تركيّة وألمانيّة، استخدام الدبابات والمدرّعات الألمانيّة ضدّ المظاهرات السلميّة الكرديّة، فإن برلين لم تتخذ أيّ إجراء ضدّ أنقرة، بهذا الخصوص.
خلفيّات الممانعة
في مقابل رفض ميركل انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، بالتنسيق مع فرنسا، تطرح منح تركيا شراكة استراتيجيّة مميّزة مع دول الاتحاد، وهذا ما ترفضه أنقرة، ولا تقبل بأقلّ من العضويّة التامّة . ويحيل المحللون والمراقبون هذا الرفض لأسباب عدّة، أهمّها:
1-تركيا دولة كبيرة من حيث المساحة وعدد السكان، حيث أشار تقرير مركز الإحصاء التركي إلى أن عدد السكان في تركيا بلغ مع نهاية عام 2102 نحو 75627384 نسمة، وأن نسبة الشباب بينهم تبلغ نسبة 6 .16%، ما يعني ،12591641 بينهم 1 .51 ذكور، و9 .49 إناث . كما تشجّع الحكومة التركيّة على الزواج والإنجاب، ثلاثة أطفال كحد أدنى . إضافة إلى أن اقتصاد تركيا يشهد نموّاً كبيراً، ما يعني أنه بانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ستكون المنافس الأبرز لألمانيا وفرنسا، وستكون من المتحكّمين في القرار السياسي والاقتصادي الأوروبي . بخاصّة أن الكتلة البشريّة، ستخوّلها أن تتمتّع بثقل موازن في البرلمان الأوروبي وبقيّة مؤسسات الاتحاد . وعليه، مع تحقق الحلم التركي بالانضمام للاتحاد، سيصبح الأخير ملعباً للأتراك، إضافة إلى ملاعب تركيّة أخرى في الشرق الأوسط، وآسيا الوسطى.
2- الكتلة البشريّة التركيّة المسلمة، مضافاً إليها الجالية التركيّة وجميع الجاليات العربيّة والإسلاميّة في أوروبا، ستخلّ بالتركيبة السكانيّة - الدينيّة، بخاصّة بعد مرور ثلاثة أو أربعة عقود . وهذا وما تتخوّف منه الأحزاب المسيحيّة المحافظة، ومنها حزب ميركل، والأحزاب القوميّة الأوروبيّة، (رغم زعم هذه الأحزاب؛ أن الاتحاد الأوروبي، ليس نادياً دينيّاً مسيحيّاً) هو تغيّر التركيبة الديموغرافيّة في أوروبا دينيّاً.
ويتوازى الموقف الفرنسي مع الموقف الألماني فيما يخصّ رفض انضمام تركيا للاتحاد . حتّى أنه يمكن القول: إن هذا الموقف، لا علاقة له بمزاج وأجندات الأحزاب المحافظة والاشتراكيّة المتعاقبة على حكم البلدين، بل ينحصر الأمر في موقف الدولة الذي يبدو وكأنّه ثابت . فصحيح أن أتاتورك استلهم علمانيّة تركيا من علمانيّة فرنسا، وصحيح أن كلاً من باريس وأنقرة حليفين في الناتو، وحجم التبادل التجاري بينهما سنة 2012 بلغ 569315 .12 مليار يورو، بالرغم من تصويت البرلمان الفرنسي على قانون تجريم إنكار المذابح الأرمنيّة في كانون الأول ،2011 ومصادقة مجلس الشيوخ عليه في يناير ،2012 والتهديد والوعيد التركي الذي رافق ذلك، بالرغم من كل ما سلف، يمكن القول: إن الصراع التركي - الفرنسي على النفوذ يمتدّ لحقبة احتلال نابليون لمصر، مروراً بتقاسم فرنسا وبريطانيا التركة الجنوبية للسلطنة العثمانيّة؛ العراق والشام، وصولاً للصراع الحالي على مستقبل سورية، على خلفيّة الأزمة الحاليّة . وعليه، إذا كان هنالك خلفيّة تاريخيّة عريقة للصراع على النفوذ بين فرنسا وتركيا، يتجاوز الصراع الألماني - التركي، فمن المستبعد أن توافق باريس على انضمام أنقرة إلى الاتحاد الأوروبي، إلاّ في حالة واحدة فقط، وهي موافقة ألمانيا على ذلك، أو العكس . لأن رأس حربة الممانعة لانضمام تركيا للاتحاد هما برلين وباريس.
ومن المقرر الإعلان عن موعد بدء جولة جديدة من المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، في شهر أكتوبر/تشرين الأول الجاري، عقب انقطاع دام سنوات، وذلك، بعد أن أنعش وزراء الاتحاد آمال تركيا يوم 25-6-،2013 عبر فتح المفاوضات في الفصل 22 المتعلّق بالسياسة الإقليميّة، من أصل 35 فصلاً، يجب على تركيا إغلاقها، كي تكون مؤهّلة لنيل العضويّة التامّة . وإذا أتمّت تركيا المفاوضات بنجاح، وأجرت الإصلاحات اللازمة بهذا الخصوص، من شأن ذلك إحراج ألمانيا وفرنسا المتحفّظتين على انضمام تركيا للاتحاد . بمعنى، ممانعة الحكومة التركيّة لإجراء إصلاحات جديّة وعميقة وجذريّة على الصعيد الدستوري والسياسي والاقتصادي، تعزز حجج ومبررات ميركل وحزبها المسيحي الديمقراطي.
قصارى الكلام، ستضطر ميركل إلى التحالف مع أبرز الأحزاب الموالية لانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، “الاشتراكي الديمقراطي” لتشكيل الحكومة . وربما يكون هذا، بمنزلة “مسمار جحا” التركي في حكومة ميركل الجديدة . ولكن، هل بإمكان هذا “المسمار” خلق فجوة أمل تركي في الجدار الألماني الذي يقف حائلاً دون ركوب أنقرة قطار الاتحاد الأوروبي؟ . برأي العديد من المراقبين؛ إن الكرة في الملعب التركي . وإنه بإمكان تركيا إحراج “الممانعين” الأوروبيين الذين يرفضون دخولها للنادي الأوروبي، عبر دفع المزيد من الأكلاف والضرائب، المتمثّلة بالإصلاحات الداخليّة العميقة، لا أن تدخل الاتحاد مدججة بالمشاكل القوميّة والإثنيّة والدينيّة الداخليّة، وبالخلافات مع دول الجوار، خاصّةً اليونان وقبرص وأرمينيا، لئلا تصبح مشاكل تركيا، مشاكل أوروبيّة في الآن عينه . ما يعني أن الاتحاد الأوروبي، لا يريد أن يستورد مشاكل تركيا العالقة، عبر الموافقة على انضمامها للاتحاد . بل يريد تركيا قويّة ومعافاة من مخلّفات الماضي . وبالتالي، صحيح أن فوز ميركل في الانتخابات، واستمرارها في الحكم لغاية ،2017 هي انتكاسة للحلم الأوروبي لتركيا، ولكن، لا يعني ذلك الهزيمة النكراء التي يمكنها أن تطيح هذا الحلم إلى الأبد.
* صحافي متخصص في الشؤون الكردية والتركية مقيم في بلجيكا
صحيفة الخليج الاماراتية