مفاجأة عيد ميلاد :
حين انتصف اللّيل، وهبط الصمت على المدينة طائراً من رصاص، استسلم الجميع لملك النوم: الآباء بعد أن وضعوا الهدايا تحت وسائد أطفالهم، والأطفال وهم يحلمون بقدوم بابا نويل.
لم يتوقع أحد منهم أن يحدث له ما حدث.
إذ كانت هذه الليلة أيضاً، وللسنة الخامسة، رأس سنة بلا طاولة عامرة بالفاكهة والحلويات، ولا مفرقعات مضيئة تملأ السماء.
لم يدمْ هذا الوقت طويلاً، حتى راحت أشباح تنتعل أحذية طويلة العنق، وتعتمر قبعات حمراء، تتسلل إلى البيوت وغرف الأطفال، تاركة الحواجز المتناثرة في شوارع المدينة خالية إلا من الخوذ الحديدية.
فجراً، سمع الآباء بكاء عصافير المدينة وهي ترتجف على الأسلاك الكهربائية المتشابكة، وشاهدوا الأشجار وهي تتعرى مما تبقى على أغصانها من أوراق، فسارعوا إلى مغادرة بيوتهم قبل أن تصفعهم الأفواه الصغيرة بأسئلة كبيرة وهي تبكي بخيبة وحُرقة.
وفي السوق، وبالقرب من الحواجز الأمنية، ارتسمت دهشة كبيرة على وجوه الآباء وهم يشاهدون الهدايا التي كانوا قد جلبوها لأطفالهم؛ ينادي عليها باعة في ثياب خاكية.
علت الدهشة في سماء المدينة وانداحت دوائر في سماوات ملبدة بغيوم حمراء.
الضحايا:
لو لم يخرج إلى الشارع شاهراً سكيناً تَقطر دماً وهو يصيح بهستيرية:
-لقد غسلت عاري..
لكان الأمر غير ذي بال بالنسبة لأهل الحي، فقد اعتادوا، وفي كل يوم تقريباً، سماع الصياح وهو ينبعث من داخل دار هذا الرجل: صراخ فتاة وهي تستنجد بكلمات غير مفهومة، ورجل يصيح ويشتم، لينتهي كلّ ذلك؛ بجلسة سمر أمام باب الدار وقد التفَّ حوله بعض الجيران، تبدأ بسيجارة، ثم بكلمات المواساة بمكافأة الله له وجزائه لرعايته أخته المسكينة، والتي لا ذنب لها في ما أصابها من جنون.
وتدور كؤوس الشاي وتعلو دوائر دخان السجائر ويتشعب الحديث.
كرّر الصياح وهو شاهراً سكينه كالمجنون، وانتظر كلمة تشجيع أو مواساة..
طال الزمن واستطال ولم يحدث ما كان ينتظره.
كانت أصوات التفجيرات القريبة هذه المرة، قد مزقت غشاء السماء وأدمت هواءها ، فانفض الجمع من حوله، وهرول بعيداً عنه كقطيع خراف داهمه ذئب، وبقي هو وحيداً كممثل في مسرح مهجور.
ربيع آخر:
أحسَّ المعلم بالحيرة وهو يفكر في كيفية تمضية حِصة درس الرسم للأطفال، فرسم على السبورة طائراً ثم محاه حين وجده لا يشبه الطائر في شيء، ثم رسم حصاناً ومحاه.. وأخيراً تذكر ما كان يحدث أيام زمان، حين كان تلميذاً، إذ كان المعلم، وفي كل درس مخصص للرسم، يطلب منهم رسم الربيع، فينطلق التلاميذ جميعاً، وبلا تردد، في رسم جبل وشمس مشرقة تطل من خلف هذا الجبل، ونهر طويل يهبط منه، وثمة بطة وحيدة تسبح فيه، وإلى جانب النهر بيت صغير على الطراز الغربي وإلى جانبه شجرة، وفي السماء ثمة طيور تحلق عالياً.
وقبل نهاية الحصة، ينهض المعلم عن كرسيه ويتجول بين التلاميذ ليشاهد الربيع المرسوم في دفاترهم، ويرسم عليها بالقلم الأحمر تلك العلامة الغامضة: شوهد.
وضع المعلم الطباشير جانباً وطلب من الأطفال رسم الربيع، ثم استراح على كرسيه ودفن وجهه في دفتر التحضير وراح يملأ صفحة دروس الغد.
في نهاية الحصة الدرسية، وكما كان يحدث في الماضي، لم ينظر المعلم في وجوه أطفاله وما طرأ عليها مٌذ جلس على كرسيه، ولم ينتبه للصمت المفاجئ الذي ساد في جو الصف، وعلى غير عادتهم في مثل هذه الحصة بالذات، إذ كانوا دائماً يصخبون ويشاغبون، وما أن بدأ بالتجول بين المقاعد لمشاهدة رسومات الأطفال عن الربيع، اللوحة التي لا تكفٌّ عن التكرار جيل بعد جيل: جبل وشمس ونهر منحدر من الأعلى وبيت وشجرة.. وكم كانت دهشته كبيرة، بل ومرعبة، حين صفعت عينيه دفاتر الصغار بلوحات عن ربيع آخر، مختلف، لا جبل فيه ولا نهر ولا شمس ولا شجرة، بل جنود، وخوذ حديدية، ومدافع، ومشاهد تعذيب لأناس صغار وكبار، ورؤوس مفصولة عن أجسادها.. ورايات سوداء..
كبرت الدهشة أكثر على وجهه، وغاصت في داخله كسكين، وراحت تمزق كل أوردته التي راحت تنزف، وأخذ قلمه ينزف أيضاً على دفاتر التلاميذ علامة:
شوهد.
تميمة:
لم تكن تلك التميمة التي كانت لصق كل رداء داخلي تلبسه، لتثيرَ فيه سوى الغرابة والحيرة، إذ كيف لامرأة تحمل شهادة جامعية، وقارئة جيدة للشعر مثل زوجته الحبيبة، أن تؤمن بالخرافات!
فكان يسألها:
-إذا كنت تحتفظين بها من أجل الزواج فها أنت ذا قد تزوجت.
فتجيب وهي تزفر بحسرة وتتحسسها بأصابع مرتعشة:
- طبعاً لا.
ويقول:
- هو الخوف إذن، هل تشاهدين الكوابيس في حلمك؟
فترد بتأفف:
-لا.
ثم ترجوه أن يكفَّ عن هذا السؤال المرة تلو المرة، وتؤكد له أنها تميمة جالبة للحظ والسعادة، والدليل أنها حظيت، هي الفتاة الفقيرة، برجل أنعم الله عليه، فجأة، بالكثير.
فيجذبها نحوه بقوة ويمطرها بالقبل، أو ينصرف عنها بهدوء.
حين دخل إلى البيت عائداً من عمله، قبيل مغيب شمس ذلك اليوم الجميل، استقبله صوتها قادماً من الحمام وهي تدندن بأغنية يصاحبه "الدوش" عازفاً على جسدها بأصابع مائية، فأطلقت قطعان الشهوة في دمه صهيلاً قوياً، ودفعته نحو باب الحمام لمشاركة رشاش الماء عزفه المثير، غير أن وقوع نظره على تلك الخرقة المربعة الشكل، والمغروزة في قطعة من ثوبها الداخلي الملقى على السرير، جعل وحش الفضول ينهض في داخله كمارد ويفترس تلك القطعان التي هاجت في دمه. مدَّ نحو تلك التميمة أصابع مترددة، وأخذ يتحسس ملمسها بفضول لا يخلو من سخرية، قفزت خلالها إلى ذهنه حكايات كثيرة عن التمائم وما فيها من عجائب وخزعبلات.
ووجد نفسه، وبلا سابق تصميم، ينزع عن التميمة غلافها، ثم الأوراق الكثيفة: ورقة داخل ورقة داخل أخرى.. وفجأة، وكمن أصابه مسٌّ، جمد الدم في أصابعه، بل وفي باقي أنحاء جسده، وتحوَّل إلى تمثال من شمع.
مرّ وقت وهو يتأمل بنظرات ذاهلة ما انطوت عليه التميمة، لا خربشات وخزعبلات شيخ جاهل، أو ساحر دجال، بل صورة شاب وسيم، يعرفه ولا يعرفه.
حين رفع رأسه بعد زمن لا يدركه، نبت له خلاله شعر كثيف، غطى كامل جسده، وجدها ماثلة أمام باب الغرفة كتمثال، تنظر إليه بعينين ميتتين، وقد تحول وجهها الجميل الذي كان ينضح حلاوة، إثر كل استحمام، إلى سماء ملبدة بالغيوم، تتساقط منه حبيبات عرق بارد: شآبيب، شآبيب.
قاعدة بلا استثناء:
حين وزع صانع الأقنعة على الجموع المحتشدة في ساحة حفل تتويج الملك أقنعة لوجوه باسمة متهللة، وأفواه محكمة التكميم، صادف أن طلب منه طفل كان قد انسلَّ بين الجموع قناعاً، فقرص صانع الأقنعة وجنة الطفل وقال له ساخراً وهو يبتعد عنه:
-حين تكبر ستحصل على أجمل قناع.
وكالعادة، كاد الأمر يمر بسلام مثل كل سنة، رغم عرّي الملك هذه المرة أيضاً، وحركاته الحمقاء، لولا تلك الصيحة التي أطلقها هذا الطفل:
-الملك عار، الملك عار,
في اليوم التالي جمع صانع الأقنعة جميع أطفال المملكة، وألصق على وجوههم أقنعة من نوع غريب: باسمة متهللة، ما أن تشاهد صورة الملك حتى تنفرج من فورها وتهتف له بفرح وبلادة.
مجلة الجديد اللندنية