Share |

قيثارةُ الوجعِ الإنساني...عن محمود درويش في ذكرى رحيلهِ الثامنة)... بقلم: نمر سعدي/ فلسطين

الشاعر محمود درويش
محمود درويش

في ذكرى رحيلهِ الثامنةِ أعترفُ أن محمود درويش كانَ بوصلةَ قلبي الشعريَّة ولا يزال، لم يُتحْ لي أن أقرأهُ في مرحلة مبكِّرة لحرماننا منهُ في المنهاجِ الدراسي،

أتذكرُ الآن ذلك اليوم الذي رجعتُ فيه من الناصرة متأبطاً الجزء الأوَّل من ديوانهِ الذي أصدرتهُ دار العودة في أوائل التسعينيات وأتذكر اليوم الآخر الذي منحتني فيه حيفا الجزء الثاني بفارق عامٍ أو أكثر، يقولُ البعض أنني تلاشيتُ في قصيدتهِ وأقولُ أنا ربما هو تفاعلٌ كيميائيٌّ غريبٌ وسريٌّ ما جعلني أصادقُ هذه اللغة المختلفة الثرَّة ذات الوهج الإشراقي والموسيقى المتدفِّقة العذبة، كانت تفعيلتهُ هي الإيقاع الأصفى والأنقى والأجمل في سمفونيَّة الشعرِ العربيِّ كلِّهِ، وكانت قادرةً على جذب روحي كما جذبَ غناءُ السيريناتِ في الأساطيرِ الإغريقيَّة عوليسَ التائه، لم يكن درويشُ سقفاً لأحلامنا الشعريَّة المتعثِّرة ولا لتجاربنا الفجَّة كما زعمت وجهات نظر نقديةٌ عديدةٌ بل كانَ سماءً زرقاء مفتوحةً على رفرفاتنا الهشَّة ورؤانا الضوئيَّة، وسهلاً أخضرَ تركضُ فيهِ أنهارنا العارية، بالرغم من قراءتي لتجارب شعريَّة لا حصر لها ما زلتُ مفتوناً بلغتهِ الصافيَّة وبطريقتهِ السحريَّةِ في صوغ عبارتهِ الآسرة المنحوتة بإتقانٍ بالغٍ والمنتفضةِ كفراشةٍ تتأهَّبُ للذوبان في معركةِ الضوء.
الإختلافُ على شاعر بحجم درويش لم يكن إلاَّ ليلِّمعَ أسطورتهِ الشخصيَّة كشاعرٍ مثيرٍ للجدل وكصاحب مدرسة شعريَّة لها أصداءٌ عميقةٌ في تجارب شعراء لا يحصون، ولها أثرٌ لا يزالُ يتشظَّى في أصواتهم.
أتخيَّلُ جيلَ السبعينيَّات كلَّهُ وهو ينظرُ بغيرةٍ إلى هذا الأمير الجليلي الذي شاءتْ الأقدار أن يتربَّع على هرمِ الشعرِ العربي على حدِّ تعبير الشاعر السوري نزار قبَّاني، في وجود قامات شعريَّة عالية حينذاك.
إستطاعت قصيدة درويش أن تصنعَ من حديدٍ تافهٍ قمرا على حد كلامهِ في الجدارية، واستطاعت أيضاً أن تعيدَ لنا الثقة بالشعر الجميل المكتوب بعناية والمضمَّخِ بعبير البرتقالِ وعطرِ الحبقِ الجليلي.
أدينُ لصديقي القديم الذي فتحَ عينيَّ على عوالمِ درويش الساحرة عندما قالَ لي ذات مساءٍ: ألم تقرأ لشاعر يُدعى محمود درويش؟ دع شوقي ومطران والشعر القديمَ جانباً، سأعطيكَ أحد دواوينهِ الأخيرة وأظنهُ كانَ ديوان (أرى ما أريد)، أريدُ رأيكَ بعدَ القراءةِ، هذا شاعرٌ فيهِ من السيَّاب ونزار قباني ولوركا ونيرودا والمتنبي.
بالرغمِ من وجود قصائد عربيَّة مدهشة كقصيدة (المومس العمياء) للسيَّاب أو قصيدة (الوقت) للشاعر السوري أدونيس ومطوَّلات الشاعرين العراقيين حسب الشيخ جعفر وسعدي يوسف وكلُّها تصلحُ كنماذج عالية المستوى والجودة في مدوَّنةِ شعرنا الحديث إلا أنَّ الجدارية في نظري تتفوَّقُ فنِّياً وشعريَّاً على ما سواها من حيث الأسلوب الأنيق والدلالات العميقة والصور المبتكرة.
(هذا هُوَ اسمُكَ /
قالتِ امرأةٌ ،
وغابتْ في مَمَرِّ بياضها .
هذا هُوَ اسمُكَ ، فاحفظِ اسْمَكَ جَيِّداً !
لا تختلفْ مَعَهُ على حَرْفٍ
ولا تَعْبَأْ براياتِ القبائلِ ،
كُنْ صديقاً لاسمك الأُفُقِيِّ
جَرِّبْهُ مع الأحياء والموتى
ودَرِّبْهُ على النُطْق الصحيح برفقة الغرباء
واكتُبْهُ على إحدى صُخُور الكهفِ)
سيمرُّ وقتٌ طويل وقصائدُ كثيرةٌ ونظريَّاتٌ نقديَّةٌ لا تسمن ولا تغني من جوع حتى نحظى بشاعرٍ من طرازٍ فريد كدرويش، ذلكَ الذي جعلَ من روحهِ قيثارةً سماويَّةً لوجعنا الإنساني.