الكلام الذي يُلقى جزافا بأن كردستان المستقلة هي إسرائيل ثانية، كلام خطأ يتجاهل الحقيقة والحق.
كُرد العراق وتركيا وإيران وسوريا ليسوا شعبا غريبا أتى ليستوطن بلادا ليست بلادهم باسم حق إلهي مزعوم.
إنهم أبناء الأرض وأصحابها، شعب حُكم عليه بالاضطهاد، وقُسّمت بلاده بين الدول المجاورة، وصودرت لغته وثقافته، وعاش على إيقاع قمع لم يتوقف.
وهو لا يطالب اليوم إلّا بحقه في تقرير المصير.
وإذا كانت هناك من مقارنة ممكنة فكردستان هي فلسطين جديدة.
ومثلما تقاسمت أنظمة الخيانة العربية أرض فلسطين مع الصهيونيين، قبل أن تلتهمها إسرائيل في حرب هزيمة حزيران، جرى تقاسم أرض كردستان بين الدول المجاورة، وها نحن إزاء تحالف القامعين الذي يتشكل من تركيا وإيران والعراق وبقايا النظام السوري من أجل وأد حق الشعب الكردي في الاستقلال.
أما إسرائيل الثانية والثالثة والرابعة، فهي مختبئة في أعشاش أفاعي الأنظمة العربية التي لا تتقن سوى فنين: قمع شعوبها والاستسلام في وجه أمريكا وإسرائيل.
غريب أمر السياسات العربية في عهد الجمهوريات القومية. لقد ورثت هذه المنطقة عن زمن الامبراطوريات، التي تلاشت بعد الحرب العالمية الأولى، مجتمعات متنوعة تحمل غنى ثقافيا ولغويا متعددا، فماذا فعلت؟ وكيف جاء حصاد انهيار جمهوريات الاستبداد بهذا الجنون الذي أباد أو سمح بإبادة الأقليات.
بعد مذبحة الأشوريين في عراق الثلاثينيات، وبعد العمل مع الحركة الصهيونية من أجل «تصدير» اليهود العراقيين والمغاربة إلى إسرائيل، جاءت حكومات المشروع القومي كي تُخرس المجتمعات وتحيي الصراعات الطائفية، وصولا إلى زمن الخراب الذي نعيشه عبر تهجير صابئة العراق وإبادة الأيزيديين والحمى الطائفية المعادية للمسيحيين في العراق ومصر، وهذا الصراع السياسي الطائفي- الديني الوحشي بين زعماء التيارين الشيعي والسنّي.
وسط هذا الخراب، جاء الاستفتاء الكردي على الاستقلال ليشعل النقاش من جديد، ويسعّر العداء ضدَّ الشعب الكردي وقضيته العادلة، بحجة أن إسرائيل هي الدولة الإقليمية الوحيدة التي تؤيد الكرد.
ربما انطلت هذه اللعبة على بعض السُذج في كردستان العراق، وذلك عبر رفع العلم الإسرائيلي إلى جانب العلم الكردي، أو عبر تقارير صحافية إسرائيلية تحدثت عن تعاطف كردي مع إسرائيل.
لا شك أن إسرائيل تحاول الدخول على الخط الكردي لأهداف تكتيكية واضحة تتمثل أساسا في إزعاج تركيا وإيران، لكن تجربة تحالف الأقليات في المنطقة مع إسرائيل، خصوصا التجربة البائسة المشينة التي جرت في لبنان، أثبتت أن إسرائيل لا حليف لها سوى مصلحتها المباشرة في تكريس احتلالها ونظامها العنصري في فلسطين، وما عدا ذلك فإن المنطقة كلها ليست بالنسبة لها سوى أرض يجب أن تصير يبابا.
قد يَسقط بعض زعماء الكرد في العراق في هذا الفخ، لكن ثمنه سيكون باهظا، فهم أبناء هذه المنطقة، ومصلحتهم التاريخية هي هنا وليس في أي مكان آخر.
أستطيع أن أتفهم المرارات الكردية من العرب، وهي مرارات مُحقّة، لكن يجب أن لا ننسى أن من اضطهد الكرد وقمعهم هي الأنظمة التي تضطهد شعوبها، فالكيميائي لم يستخدم ضدَّ الكرد في حلبجة فقط، بل استخدم في غوطة دمشق أيضا وضدَّ الشعب السوري.
المنطقة تعيش زلزالا انحطاطيا مخيفا، فالبربرية تجتاحها، وهي متروكة إلى مصيرها بين أيدي قوى متسلطة متعددة المشارب والأهواء، لكنها تُجمِع على سحق إرادة الحياة لدى سكان هذه البلاد، من هنا فإن مشروع الاستقلال الكردي سيواجه صعوبات جمة، وستطبق عليهم كماشة إيرانية- تركية مخيفة كي تخنقه وتدمره.
حق تقرير المصير لا جدال فيه، الكرد أمة تقيم فوق أرضها، أمة خبرت المنافي في وطنها وتعلمت لغة الريح، مثلما كتب محمود درويش مرة: «ليس للكردي إلّا الريح تسكنه ويسكنها/ وتُدمنه ويدمنها، لينجو من صفات الأرض والأشياءْ». لكن الكردي وهو يحاول اليوم أن يترجل، عليه أن يحذر الاحتراق: «فإن الكرد يقتربون من نار الحقيقة/ ثم يحترقون مثل فراشة الشعراء».
هل سيحترق الكرد هذه المرة أيضا بنار حقائق المنطقة؟
لا أعرف الجواب عن هذا السؤال، فمؤشرات الهمجية التي تجتاح المنطقة والعالم لا توحي بالارتياح. هل كان قرار البارزاني صائبا أم أنه جاء في إطار لعبة الصراعات المعقدة داخل البيت السياسي الكردي؟ وهل تستطيع أمة محاصرة، من دون أي دعم دولي حقيقي أن تصل إلى استقلالها؟ وماذا يبقى من التأييد الإسرائيلي بعد الموقف الأمريكي بعدم شرعية الاستفتاء؟
إنه حصار إقليمي ودولي، بهذا المعنى، فالاستفتاء الكردي على الاستقلال سيشكل وسيلة ضغط على حكومات العراق وتركيا وإيران، وربما ساعد على تحسين التوازن الداخلي العراقي لمصلحة الكرد في سياق مسيرتهم الطويلة المعقدة نحو استقلالهم.
صار من الصعب في منطقة تعيش وسط البركان لا على حافته قراءة المستقبل السياسي المنظور لواقع معقد كالواقع الكردي.
لكن ما يجب تسجيله هنا، هو أن المشروع الكردي يستطيع أن يشكل نافذة من أجل أن تعيد المنطقة قراءتها لنفسها، عبر إعادة الاعتبار للتعددية الثقافية والدينية واللغوية، بصفتها أحد أسس بناء أفق ديمقراطي جديد.
وهنا أيضا نقول: إن الاستفتاء الكردي يجب أن يكون مناسبة للثقافة العربية كي تعتذر عن صمتها إزاء عذابات الكرد، وكي تتصالح مع نفسها وترى في مأساة الأزيديين المروعة صورتها.
إن حرية الكرد جزء من حريتنا، يجب ألا نسمح للقوى المتسلطة في المنطقة بأن تحاصر شعبا يحق له أن يجد لنفسه موطئ قدم في أرضه.
جريدة القدس العربي – 3 – تشرين الاول-2017