إنّها السّاعة الرّابعة بعد منتصفِ ليلة رأس سنة عشرين وألفين؛ هدأ أزيز الرّصاص، ودويّ الألعاب النّاريّة، حلّ السّكون مكان صخب وضجيج مدينة الحسكة الغارقة في برد ليل البادية.
رفعتْ عنه غطاءً رطبًا، بالكاد يدفئ طرفًا من جسده النحيل، فانكمش على نفسه، يقاوم لسعة البرد التي داهمته، تحسّست جبينه؛ كانت الحرارة تنزُّ مع العرق، ارتاع قلبها، وحار أمرها أيقاسي جسده برد الشتاء، أم تعيد عليه الحلس الذي يدفئه؟ إلا إن سعاله المتواصل؛ أجبرها بردِّ الدثار إليهِ.
وقفت أمام النافذة المطلّة غربًا، لم يكن ثمّة زجاج، لكنها أكياس نايلون مثبَّتةٌ بمساميرَ ملوَّنةٍ، تلمع في الضوء، ابتسامة كئيبة ارتسمت بلا سببٍ على وجهها تلك اللحظة؛ لاح لها شيءٌ غير مرئيٍّ فأبعدته، قائلة بصوت مسموع: كيف لأهل هذه المدينة، أن يفرحوا رغم هذا الفقر والوجع كلّه.
لم تكن بَري قد تجاوزت الأربعين عاماً، ولا زوجها قد بلغ الخامسة والأربعين؛ تتذكر جيِّدًا حديث والدتها، قبل خمسة عشر عامًا: يا ابنتي ...هشار شاب محترم، ولكنّه...، الأم أحجمت عن كلامها؛ حينما لمعت دمعة في عينيِّ بَري.
تزوجته بَري رغم كلِّ شيء ... كان مولَعاً بالخط، ووضَاح الوجه، ونبيل الأخلاق، وهذا كل ما كان يملكه هشار من ثروة الأرض. لعل ذلك الخط الجميل كان تعويضا عن الشلل الذي رافقه منذ السنة الثالثة لولادته، من يومها عانى هشار الكثير من الصعوبات، حتى غدا شابًّا، ونجح في الثانوية، ولكن أن تكون مكتوم القيد، هذا يعني أن تكون شهادة الثانوية آخر سقف لطموحاتك في هذا البلد.
وفيما بعد، وبمفارقة مأساوية، كان هشار قد أمضى عدة سنوات في كتابة شعارات الحزب، وأقوال القائد؛ لأجل أنشطة الطلائع المدرسيّة، أو لافتات كبيرة تقطع فضاء شوارع مدينة رأس العين، مقابل أجر زهيد؛ يتراكم ما يبقى منه بعد مصاريف المعيشة في مطمورة صغيرة، مضت سنوات عدّة، وأعلنت الشعوب عن ربيعها؛ فتغيَّر الحزب، وكذلك تغيَّر القائد، غير أن هشار ظل يخطّط الشعارات الثورية، وأقوال القائد الجديد، على الطاولة ذاتها!!
أما بَري، فتعود من عملها في المركز الصِّحيّ، بعد أن تكون قد حقنت عشرات الأطفال، ثم ناغتهم، ليكفوا عن البكاء .... تمر بَري بالمحل، فتراه منكبا يخطُّ عبارة ما، ودخان لفافته يعلو كخيط معلَّق في فراغ، وقبل أن يرفع رأسه، تبادره القول، وهي تطفئ لفافة التبغ -هذه أيضا إحدى الأسباب -عليك أن تلتزم بتوجيهات الحكيم ...، وهي ترفع أقداح الشاي من أمامه: هشار عزيزي؛ المبلغ، الذي جمعناه سيغطي مصاريف العلاج؛ لنؤمّن طريقة ما، ونسافر إلى دمشق ...فقد بتّ أخشى الزمن، إلا إنه كما جرت عليه عادة ذلك الحديث؛ تغادر بَري المحل، دون أن تأخذ منه وعدا بالسفر.
في ليلة ذلك اليوم احتضنها هشار، ونور قمر أيلول نافذ إلى حجرتهم؛ فَارتسم على الجدار ظلال جسديهما، وسَمعَت أوراق نبتة الريحان الخضراء في رواق بابها، آهاتِ النّفس، وأنينَ الشَّبق.
في صباح تلك الليلة، غادرها هشار، بينما بَري ظلت نائمة، ولم تستفق، إلا والشمس، قد توسَّطت كبد السماء...
لم يكن ثمة حديث لبَري، يخلو من ذكر الأطفال، فرقَّ قلب هشار لطلبها المتكرر، وهما يخرجان معا في صباحات تشرين المشمسة، كانت بَري تسير لصقَ دراجته، في حين كانت ظلالهما مستطالة، تسبقهما نحو رأس الشارع، فأوقف الدراجة، والتفت إليها ضاحكا: انظري كم طويلة هي ظلال شخوصنا على الأرض .... كانت حزينة الملامح كعادتها ... فأضاف هشار، وكاد أن يُقبِّل يدَها في ذلك الشارع: لا عليكِ بَري سنسافر! بعد منتصف هذا الشهر.
من سعادتها لا تعرف بَري كيف كان النهار، يسلم شفقه للعتمة، ولا الليل، كيف يَهَبُ غسقه الضَّوءَ، والأيّام تمضي ليحينَ يومُ السّفرِ.
إلا أنّه في ذلك اليوم، الذي لن يُنسى؛ كانت بَري تُعيد أرشفة أسماء الأطفال في سجلات المستوصف، حينما سمعت دوي انفجار هائل اهتزت له النوافذ، تلقّفت حقيبتها، وغادرت راكضة في شارع يمور فيه الناس، وفيه الذَّعر يسبق الأنفاس، تقابلت معه على الطّريق، حضنته ...؛ لا... لا بل حضنت درّاجته، التي تكاد أن تضيع في قيامة الأحياء، والأموات.
بَري ... بَري قالها بخوف، وبذعر علينا أن نغادر المدينة، سيطالنا القصف .... يا لله .... يا لله رأس العين تُستباح ...الترك يقصفون المدينة! قالها والعَبَراتُ تَخْنُقُه.
حلّت العتمة، حينما كانا مع جمع من الناس في خلفية شاحنة زراعية على مشارف مدينة الحسكة، يلوذون بها، تاركين خلفهم الدّارَ، وذكرياتِ الحياةِ، تعبَ السنيين، وشقاءَ العمرِ.
كانت بَري ممسكة بدراجته، وهو متكوِّم على نفسه، يحزُّه ضعف جسده، وقلةُ حيلته، تلك الليلة ظلا صامتين مصدومين، فاستقرّت بهم الحال في ممرّات مدرسة كبيرة مكتظّة بالناس....
مرّ الأسبوع الأول بشقاء لا يوصف؛ ريثما استأجرت بَري بيتاً صغيراً؛ يُطرَق البابُ .... فلا يَسمع هشار سوى صوتِ بَري المنكسر:
هشار سليم القاجاغجي ...رأس العين ...أربع وأربعون عاماً... "مُقعد" ... فقط شخصين.
يُغلق البابُ؛ تضع بَري بعض العبوات في زاوية الغرفة؛ تقع عينا هشار على عبارة "غير مخصص للبيع"، يشعر بشعلة نَارٍ، ممتدة بين عينيه وبين قلبه، فتكسر بَري ثقل الصمت: غدًا سأجلب لك بعض أقلام التخطيط، والدفاتر لتزجي به الوقت.
يرد هشار وهو يُعرَّي الزمن بسؤاله: بَري .... متى سنعود الى بيوتنا؟! ..... ماذا يحدث في رأس العين؟ ... ما الذي حدث لنا؟!
تكتفي بَري بحضن جسده النحيل.
في اليوم العاشر للنزوح، شعرت بَري بالتعب، وبالغثيان فلم تهتم لذلك، ولكن عندما تكررت تلك الحالة، تركت هشار، وغابت بضعةَ ساعاتٍ، وعادت حاملةً عُلباً من الأدوية، والفيتامينات، ويكاد قلبُها يُحلِّقُ سعادةً ... جلست قربَه، وأخذت يدَه، ووضعتها على بطنها .... استغرب هشار، فطفحت عيناه دموعاً، فقالت بَري: نعم، أنا حُبْلَى.
كانت سعادتهما لا توصف ... خمسة عشر عامًا مضت، وها هي بَري حُبْلى؛ أخبروا أهلهم، وأصدقاءهم التائهين في دروب القدر، الجميع فرحوا لأجلهم؛ رغم تلك المأساة، التي حلَّت بمدينتهم.
مرّتِ الأيَّامُ، وحلَّ الشِّتاءُ جافًّا باردًا، وهشارُ لا يغادر البيتَ، ساءت حالتُه النفسيَّة، وهو يشاهد بَري، محتارةً، متعبةً، مدبِّرةً أمور حياتهما رغم حملها، وبدا شحوبٌ وهزالٌ ينخر جسمَه العليلَ، فبعد بضعة أيَّامٍ من السُّعالِ الشّديدِ؛ هالته رؤية دمٍ، وهو يسعل، أخفى عنها ذلك، وامتنع عن زيارة الطَّبيب، فكلَّما لحّت عليه بَري، كان يردُّ عليها، وهو يبتسم: لا تخافي! لن أسبقكِ إلى القبر...!!!
في ليلة رأس السنة تلك، وبعد أن غطَّت بَري جسدَ هشارَ المرتجفَ لبرودة الغرفة القارس، وقفت أمام تلك النافذة، وتذكَّرت حياتها الشقيَّة بأفراحِها وأتراحِها...
ارتعش ضوء خلف نايلون تلك النّافذة، وغار مبتعدا في العتمة، وارتفع كالرّمح في السّماء... انقبض قلبُها، والتفت تلقي بنفسها قربه، تراوغ خوفها بوجوده، مرَّت دقائقُ من الصَّمت بين جسديهما، راعها سكونه، أزاحت الغطاء عن نصف وجهه؛ فظهر لها الموت في عينيه المفتوحتين، تحسَّست أنفاس الحياة ...كان الموت قد حلَّ في جسده.
صرخت، إلا إنَّ صوتها ظلَّ حبيس الغرفة الباردة ... لم تغلق عينيه، تركتهما لشأنهما مع الموت، وخرجت للشَّارع حافيةً، تُحدِّث نفسها بما كان يكرره دوما ... متذكِّرة ابتسامتَه العانية: بَري لا تخافي لن أسبقك إلى القبر...!!!
وقفت بَري بالقرب من عامود الكهرباء، كان بمصباحه المكسور باهتًا، وكان كسهم مغروس في عينيها الغائرتين... نظرت في خواء الشَّارع برهة ... ثم تراجعت خطوة... خطوتين، وكأنّها تحتضن محبًّا، ألقت بنفسها على عامود الكهرباء، تنطحه برأسها مرة تلو الأخرى .... سال الدم على وجهها، تقهقرت بضعة خطوات، عائدةً إليه؛ ترغب الموت بقربه، تهاوت على ركبتيها في وسط الشَّارع، تاركةً خلفها خيطَ دمٍ متعرِّج، تحسَّست بطنها فبدا أخضرَ كأشجار أذار، حارًا كشمس تموز، هادئا كليالي أيلول ... رويدا رويدا انطفأ الضوء في عينيها، فانقلبت على ظهرها، تقابل السَّماء، وضوءُ السَّنة الجديدة، ينبلج على ثلاثة موتى...
هشار الخطّاط، بَري العاشقة، وذاك البهاء، الذي مات، ولم يولد...
انتهى
عامر فرسو ......11/11/2022