صفعتُ عقودَ حياتي ونسيتُها ، لكن لن أنسى ومعي في نعمة التذكّر أولادي وأحفادي. الحكايةُ هي هكذا:" نشرتُ مقالاً عن محرقة سينما عامودا بمجلة الحوار في عهد المرحوم اسماعيل عمو،فدُعيتُ من قِبل فرع الأمن العسكري بعامودا..لم تبقَ شتيمةٌ في قاموس المُكلَّف بالتحقيق معي إلا و تلقّيتُها صاغراً ومهزوماً وساكتاً..ثم سلّمني ذاك الفرعُ إلى شبيهه في القامشلي فكانت الشتائمُ أشدّ من سابقاتها ،ثم سلّمني ذاك الفرعُ إلى ربيبه في الحسكة فتحوّلت الشتائمُ إلى الاهانات والصفعات..وهكذا كان الشأن معي مع الأمن السياسي وأمن الدولة في المدن الثلاث.
فحوى المقال كان يطلبُ فتح تحقيق محايد"غير بعثيٍّ " لمحاسبة الجُناة الذين ساهموا في هذه المحرقة التي لم يحصل مثلُها في العالم، لكن يبدو أنّ البعث كان يديرُ ويتسلّط "وما زال"على البلاد منذ ذاك التاريخ عام 1960
:سنوات الوحدة المشؤومة بين سوريا ومصر التي كانت تجلد كلّ المخالفين معَها.
خيرُ وصف للسينما ما كتبَه عمي الشيخ توفيق الحسيني في كتابه"نهر عامودا":
كانت هذه الدار مبنية من اللبن الترابي، مستطيلة البنيان تمتد من الشرق إلى الغرب ذات سقف أُتخذ من الأعمدة الخشبية والقش والعوارض الحديدية... وكانت الجدران يكسوها نسيج خشن من الجوت الهندي "الخيش"الذي يستعمل في صناعة أكياس الحبوب طلي بألوان من الدهان الزيتي وكانت المقاعد والكراسي مصنوعة من الأخشاب الهشة وفروع الأشجار وخيوط نباتية... وفي تلك الأيام كانت أشرطة الأفلام السينمائي تصنع من مادة بلاستيكية سريعة الالتهاب ومتى مستها النار أو الحرارة الشديدة انفجرت كما ينفجر البارود أي أن اشتعالها كان أقرب إلى الانفجار منه إلى الاشتعال أو الاحتراق... وكانت _الدار مع كل هذا وذاك _تفتقر إلى أبسط شروط السلامة وضرورات الأمان.
الأرضية وطيئة منخفضة شديدة الانخفاض تحت مستوى الشارع والباب ضيق لا يسمح إلا بعبور شخص واحد من خلاله ينفتح إلى الداخل.
في يوم ١٩٦٠/١١/١٣ خصص ريع العروض السينمائية في هذه الدار معونة لثوار الجزائر... ظل الشريط السينمائي يدار مراراً وتكراراً منذ طلوع النهار إلى ماقبيل غروب الشمس فلم يعد الشريط البلاستيكي يتحمّل مزيداً من الحرارة التي تسلطها العدسات المتوهجة فالتهب وقذف بحممه على الأشرطة القريبة المتراكمة وعلى الجدران المغطاة بالخيش وفي ثوان معدودة كان كل شي قد استحال إلى جمر متأجج... حاول التلاميذ الصغار الذين كانوا في الداخل الفرار والنجاة من النار الجحيمية التي أحدقت بهم وبدأت تلسع وجوههم وتلتهم ألبستهم فاندفعوا وتدافعوا وتزاحموا و تراكمت الأجساد... كانت النار تحمل إليهم الرعب والموت.
نجا البعض واحترق المئات وتفحمت جثثهم وضاعت معالم شخوصهم. وقد كان لكل من نجا وفرّ بجلده قصة أو حكاية يرويها بطريقته عما شاهد ورأى وعانى.
كان كل من سمع بنبأ النكبة الفادحة والفاجعة الأليمة ولا سيما أولياء التلاميذ وذووهم قد حضر إلى المكان الذي كان أولادهم يشاهدون فيه العرض السينمائي. ولما بلغ النبأ مسامع الرجل النبيل : محمد سعيد آغا الدقوري هرع إلى المكان بكل مروءته وعنفوانه و مشاعره الإنسانية واقتحم الأتون الجهنمي واستطاع إنقاذ العشرات من بين اللهيب... كان بعض النظارة يشاهدون عمله البطولي الخارق في إعجاب واندهاش وهم يشفقون عليه من أن يصيبه مكروه أو تلحق به أذية فألحوا عليه أن يكف عن المجازفة وتعريض حياته لأفدح الأخطار وكانوا يحسبونه باحثاً عن ولده الوحيد. وقالوا له :إن كنت تبحث عن ابنك فهد، فهو سليم. فردّ: هؤلاء جميعاً هم أولادي.
وبعد صراع مرير ومستميت مع النيران وبعد أن أبلى بلاءً حسناً في إنقاذ أرواح بريئة انصهرت العوارض الحديدية انهار السقف وقضى الرجل الشهم شهيداً وصعدت روحه الطاهرة إلى معارج السماء ولحقت بالملائكة الأبرار.
ـ الفيديو التالي أمسية في مدينة اسطنبول حول محرقة سينما عامودا قبلَ حوالي سبع سنوات.
https://www.youtube.com/watch?v=akI6r4R3NT8