وصلتني هذه الصورة عبر فيسبوك، في الوسط شاب كردي ساقه رجال نظام الملالي الفارسي إلى حبل المشنقة مربوط اليدين إلى الخلف، وتحلّقوا حوله كالوحوش المفترسة، ليتلذّذوا بمشهد إعدامه، لكنهم فوجئوا بموقف أدهشهم (لاحظوا ملامح الجلادَين المدني والعسكري على اليسار)، إذ بدلاً من أن يرتعد الشاب الكردي خوفاً من الإعدام، وبدلاً من أن تسيل دموعه ويتوسّل إليهم، ها هو ذا يُقبّل حبل المشنقة بشجاعة منقطة النظير!
ماذا تعني هذه القبلة وفي هذا الموقف تحديداً؟ إن ألف ديوان شعر، وألف كتاب تاريخ، يعجز عن البوح بدلالات هذه القبلة، إنها تلخّص تاريخ الأمة الكردية بأجمله، إنها تقول: "هذا هو الكردي الأصيل أيها المحتلون المتوحّشون! ولن تقهروا إرادته". والحقيقة أن هذا الموقف هو حلقة في سلسلة بطولات خلّدها عظماؤنا طوال خمسة آلاف عام، وإليكم بعضها من العصر الحديث:
1 – في سنة (1837 م)، هاجم جيش تركي بقيادة حافظ باشا بلاد الكرد، لقمع إحدى الثورات، ووقع شابّ من بگوات الكرد في أسرهم، وقدّم له الترك عروضاً مغرية كي يكون عميلاً لهم، إلا أنه رفض تلك العروض جميعها، ولم يقدّم لهم أية معلومات بشأن عدد الثوار ومواقعهم، ولم تزحزحه أساليب التعذيب التي استُخدمت معه طوال يومين عن موقفه، بل عندما كان يتعرّض للضرب المبرِّح، كان يدخّن غليونه بهدوء، وفي اليوم الثالث رماه حافظ باشا في قدر من الزيت المَغلي، فلبث محافظاً على رباطة جأشه حتى فارق الحياة [باسيلي نيكيتين: الكرد، ص 140].
2 - في ثورة الشيخ سعيد سنة (1925م) وقع قاسم آغا (من كرد زازا)- وهو جريح- في أسر الترك بقيادة علي حيدر، فكان علي حيدر يسكب الماء المغلي على رأسه، ويخلع أسنانه وأظافر يديه ورجليه بالكمّاشة، ويكوي جسده بحلقة حديدية ساخنة محمرّة على صدره، ويستهزئ به قائلاً: " ماذا جرى لك يا قاسُو"؟ فكان قاسم آغا يرد عليه قائلاً: "يا حَيْدُو، ما تقوم به ليس من أعمال بني البشر وأولاد الطيبين، بل هو من أعمال أبناء الزنا والعاهرات، وهذا ما يمكن أن يحدث لكل رجل حقيقي، جرّب ما تشاء من وسائل"! ثم أركبه الجنود الترك على بغل، وأداروا به في القرى، وعندما أوشك على الموت، أنزلوه من على البغل، وأمر علي حيدر جنوده برجمه بالحجارة، إلى أن تكوّمت على جسده كومة كبيرة، ومع ذلك كان قاسم آغا يشتمه ويشتم رئيسه مصطفى كمال أتاتورك[زنار سلوبي: في سبيل كردستان، ص 115. حسن هشيار: مذكرات مقاتل، حلقة 6].
3 – في 27 حزيران/يونيه (1925 م) أعدمت السلطات التركية الشيخ سعيد، مع (48) من قادة الثورة، وفي ساحة الإعدام نصبت السلطات التركية (49) مشنقة، واحتشد الضباط والجنود لرؤية المشهد، في حين كانت الفرقة الموسيقية العسكرية تعزف النشيد القومي التركي، وكان الجنرال مِرْسال باشا جالساً على الكرسي، وإلى جانبه الشيخ سعيد مقيَّد، فأمر بفكّ قيوده، وقال له:
- خذ هذا القلم، وأكتب ما تشاء، لتبقى ذكرى عزيزة لديّ.
- فردّ عليه الشيخ سعيد: لست تريد مني ذكرى، بل تريد معرفة ما إذا كنت أمتلك العزيمة أمام حبل المشنقة أم لا؟ وهل يداي تستطيعان الكتابة في هذا الظرف أم لا؟ ولكن من يقود ثورة يتذكر دائماً مثل هذه الظروف، ويضع أمام عينه هذا الموقف.
وأمسك الشيخ سعيد بالقلم وكتب: "الظالمون والمستعمرون يلفّ قلوبهم ستارٌ أسود، ولا يوجد في عقلهم ووجدانهم ذَرّة أخلاق، ولا شيء من الإنسانية، وعليكم أن تعلموا أنكم لن تستطيعوا أن تقفوا في وجه مطالب شعبي إلى الأبد، وسوف تَظلمون شعبكم أيضاً عندما يتم الثأر من أفعالكم، أما نحن فقد أعلنا لشعبنا عصراً جديداً"[حسن هشيار: مذكرات مقاتل، حلقة 6].
4 – كان المحامي محمد أفندي (باڤَى تُوژو) Bavê Tûjoمن جملة الثوار الذين قُدّموا إلى محكمة الاستقلال في آمد سنة (1925)، فرفض تقديم دفاعه في المحكمة باللغة التركية، وأصرّ على التحدث بالكردية، وأبدى شجاعة نادرة ورباطة جأش عظيمة، فحُكم عليه بالإعدام. وعلى منصّة الإعدام صرخ هاتفاً: (عاشت كردستان)، فانقضّ عليه الجنود الأتراك، وطعنوه بالحراب، فتمزّق جسده بطعنات الحراب قبل أن يُعدَم[زنار سلوبي: في سبيل كردستان، ص 72، 120 - 122].
5 - في 18 حزيران/يونيه (1947م)، أُعدم بعض الثوّار الكرد، في سجن ببغداد، منهم الضابط مصطفى خُوشْناو، فصرخ قُبيل إعدامه قائلاً: "أيها الجلادون، بلّغوا أسيادكم أن دماءنا لن تذهب هدراً، إن أبناء شعبنا الباقين على قيد الحياة يعرفون جيداً كيف سينتقمون منكم. لا تفكروا بأنكم تخيفونني بأعواد مشنقتكم. إن هذا الحكم الجائر سيرفعني إلى مستوى أبطال شعبي المضحّين بحياتهم. ولا تستطيعون التصور كم أنا سعيد بكوني أضحّي بنفسي في سبيل سعادة وحرية شعبي" [ زنار سلوبي: في سبيل كردستان، ص 249]!
يا شعبنا! بفضل هؤلاء العظماء بقينا كرداً إلى يومنا هذا، وعلى صلابة بطولاتهم وتضحياتهم تكسّرت مشاريع القهر والصهر الاحتلالية الظلامية. ومن العيب أن نترك مواقفهم الجليلة تذهب هدراً، ينبغي أن نرتقي بوعينا القومي إلى مستواهم، ونجعل لهم مكاناً دائماً في عقولنا وقلوبنا.
أجل، هؤلاء ينبغي أن يكونوا قدوة لكم- يا شبابنا- في تجسيد القيم السامية!
هؤلاء ينبغي أن يكونوا مصدر إلهامكم- يا شعراءنا- في التعبير عن هوية الأمة!
هؤلاء ينبغي أن يكونوا دافعاً لكم- يا مثقفينا- للتحرر من ثقافة التبعية والهزيمة!
هؤلاء ينبغي أن يكونوا دافعاً لكم- يا ساستنا- للتحرر من جاذبيات الأنانيات الحزبية!
هؤلاء ينبغي أن يكونوا دافعاً لكم- يا شيوخنا- للتحرر من العصبيات الدينية والمذهبية!
عندئذ فقط نُدخل البهجة إلى أرواحهم المقدّسة.
وعندئذ فقط نكون جديرين بالانتماء إليهم.
19 – 8 – 2012
dralkhalil@hotmail.com