ثمة أناس ثوريون بالفطرة , لا يعرف الهدوء سبيلاً إلى حياتهم , ولا الضيمُ مكاناً في نفوسهم , ولا الخنوعُ مأوىً في قلوبهم , لا يمكن لهولاء السكوت عن الظلم في أي أرض ومن أي طاغية كان .
رؤوسهم عالية تأبى النزول ونفوسهم شماء ترفض الهبوط . هؤلاء هم وقود حركة التاريخ وقواد ثوراتها الفعليين الذين يقودون الحراك على الأرض بإيمان وعزيمة وجسارة تجعلهم من أكثر الناس تعرضاً للاغتيال والاعتقال والحبس في أقبية الطغاة . وأحسبني رأيت كل صفات الإنسان الثوري الشجاع في شخصية الشهيد محمود والي مذ أن التقيته أول مرة في عام تسعين وتسعمائة وألف في مدينة حلب عندما كنت طالباً في السنة الأولى من كلية الطب في جامعة حلب , وقتها زارني المرحوم مع أخ لي كانا زميلين في الجيش السوري يخضعان لدورة الأغرار في مدينة النبك , وبات في منزلي ليلة واحدة , ثم في صبيحة اليوم التالي غادر إلى بيته في رأس العين , وبعدها تكررت زياراته لي حتى انهى دورته في النبك وانتقل إلى مكان آخر , فانقطعت أخباره عني حتى قبل يومين – ويا ليته كانت مقطوعةً إلى الأبد - حيث علمت بجريمة اغتياله من خلال صفحات الأنترنت وشاشات التلفزة .
رأيت أبا جاندي نشيطاً , شقياً , مثقفاً , معتداً بآرائه رغم حداثة سنه آنذاك , عنيدأ على الحق , مؤمناً بقضية شعبه ومستعداً للدفاع عنها حتى الموت , متفتح الذهن يحب الحوار والنقاش في كل القضايا , دمثاً يصر على جلب النكتة بين الحين والحين لزرع البسمة على شفاه جلسائه , مقداماً لا يهاب أحداً في قول الحقيقة , وفياً في صداقته , صادقاً في أقواله حتى إن أضره صدقه . كان وراء بدنه النحيل وقامته القصيرة شهامةٌ عالية ونفسٌ عزيزة وقوةٌ وإرادةٌ قلما تجدها عند ضخام الأجسام .
وحدث أن زرت معسكره , وهو وأخي في دورتهما العسكرية , وبتُّ عندهما ليلتين بعد أن أرشينا أنا وأخي قائد المعسكر ليسمح لي – أنا المدني آنذاك - بالإقامة في معسكر عسكري لمدة يومين , كانت خيمة محمود بجوار خيمتنا وفي اليوم الأول من إقامتي عند الظهيرة حمل محمود قصعة الغداء وتوجه إلى مكتب قائد القطعة الذي بدت عليه إمارات الوقار والرزانة على عكس ماهم عليه الضباط السوريون في الجيش , وقال له بعد التحية العسكرية : بالله عليك يا سيدي هل هذا يصلح ليكون غداء عشرة أنفار ؟ فضحك قائد القطعة وقال له : دبروا رؤوسكم . وبعد قليل ذهب إليه محمود ثانية يعلمه بخلخلة أوتاد خيمته وقلعها حين هبوب نسمة من الهواء طالباً أوتاداً محكمة , ولكن الضابط هذه المرة نظرإلى محمود مطولاً وكأن أفكاراً كثيراً كانت تختلج في ذهنه ولا يستطيع التعبير عنها فقال لمحمود جملة واحدة : ستعيش حياتك معذباً ياولدي . وقتها كنا نضحك على محمود ونكرر عبارة الضابط على مسامعه من باب التهزل والتفكه . لكن الآن وبعد أكثر من عقدين من الزمن أدركت ما كان يرمي إليه قائد القطعة آنذاك من عبارته تلك .
أجل , كان الرجل يقصد أن من لا يسكت عن الخطأ في هذا البلد يعيش حياته تعيساً , إما فقيراً أو معتقلاً أو قتيلاً , وهي الأمور التي ذاقها المرحوم محمود , فصدقت نبوءة قائد قطعته .
لكن من أجل من قضى أبو جاندي حياته عذاباً ؟
من أجلي وأجلك عزيزي القارئ .
ومن أجل أبناء أمته المضطهدين .
وعلينا ألا ننساه أبداً .