)عبر الهجرات المتعاقبة علينا : هل لنا - نحن الكرد - في ميراثنا لإبراهيم و هاجر - شيء من ضجر الأمكنة التي لا تطيق معايشتنا(
مسافة طويلة عبر هجرة من الشام إلى الحجاز لسيدة قد وضعت لتوها مولوداً , و لغاية ربّانية يتركها زوجها وسط تلك الصحراء - هاجر - زوج إبراهيم عليه السلام و هي تستفسر عن سبب تركها و ابنها في عمق هذا الصحراء بعد أن أدار لهما ظهره : أأمرك الله بهذا ؟ لم يلتفت إليها , إنما أجاب : نعم . صمتت برهة و انحنت لتحضن ابنها في خطوة لرسم هجرتها التي لا تعلم عنها شيء.
هاجر زوجة سيدنا إبراهيم , هل كانت تسميتها بهذا الاسم محض صدفة أم أنها جاءت لغاية ما قد يكون للهجر فيها دلالة واضحة ... سؤال يراودني كلما تعمقت في روحانية هذه الهجرة متجاوزاً بفكري مسألة عقم الزوجة الأولى سارة و الغيرة التي بدأت تنبش في جسدها إلى أن طلبت منه أن يهجر برفقة هاجر و ابنهما إسماعيل لتعيد اختلال الموازين إلى ما كانت عليه قبل أن تمنحه جاريتها هاجر كزوجة قد تمده بأبناء ؟
ما أن يتجرأ أحد أن يفتح باباً إلا أن تليه أبواباً أخرى , كذلك وجدت نفسي أتخبط أمامها : هل لنا - نحن الكرد - في ميراثنا لإبراهيم و هاجر - شيء من ضجر الأمكنة التي لا تطيق معايشتنا عبر الهجرات المتعاقبة علينا على مرّ العقود من السنين إلى يومنا هذا ؟
هل سيضيق المكان بالزردشتيين الذين فروا من بطش ذو القرنين إلى إكتشاف أمكنة في المجهول للعيش بسلام ؟
كم كانت لسفينة نوح أن ترسو بعيداً , أبعد بكثير عن جودي الموطئ الأول لقدمه في قريتي ( حه شتك ) و ( جه لك ) لتحمل لصلاح الدين أقوى الفرسان و تزجهم في جيشه في هجرة الفتوحات تجاه بلاد الشام ( دمشق – فلسطين – أردن – مصر ) بعد غمد نزيف جراح أخوتهم الكرد الفارين نحو قمم الجبال هرباً من بطش هولاكو ...؟
ها هو ستالين يوسع رقعة تواجد أكراد السوفييت ذوي القوة البدنية العالية لتشمل سيبيريا بعد أن هجّر العدد الأكبر إلى ( قرقيستان ) و ( كازاخستان ) كهدية وفاء لهم لتشييد الكوردستان الحمراء , و في رحلة هجرة الجسد و الروح قد تمت عملية التطوع الإجباري للكرد في الجيش العثماني للزج بهم في حرب ( سفر بلك ) الطاحنة لرؤوس الرجال حيث لا قبور لشهدائهم و لا شواهد كتبت عليها أسماءهم للدلالة على أماكن دفنهم , و السؤال : هل من رقيب ؟
وقائع و تواريخ لم يقف عليها دفاتر السجلات لترصد المواقف الإنسانية للكرد , مثال على ذلك : هجرة الكرد من السليمانية إلى البصرة لنصرة أخوتهم العرب أثناء الحرب العالمية الأولى و الذين قطنوا من ذاك التاريخ في البصرة , مروراً بثورتي الشيخ محمود الحفيد و الشيخ سعيد بيران لإعلاء كلمة الحق ثم الوصول إلى حالة تشرد و هجر أكثر وقعاً جراء عمليات الملاحقة و التعذيب و القتل , هل ممن يعيد أولئك إلى أخوتهم ؟
البدرخانيين و ما لاقوه من تشتت رهيب في أنحاء العالم و لا تزال نتائج هذا التشتت واضحاً جلياً عليهم في طريق آخر لبزوغ الهجر في الروح , هل هم عاجزون عن دفع ثمن تذاكر العودة إلى الوطن أم ماذا جرى لهم بعد هذه السنين ؟
هجرات متعاقبة على الكرد يصدح لها الصوت بأقوى الزفرات لتنال من الحس الإنساني لحظة إمعان و إنصاف بحق هذا الشعب العريق , و من منا لا يستذكر هجرة الأنفال , حيث دمر أكثر من أربعة آلاف قرية كردية و ألقى بسكانها في مجمعات سكنية حسب عمليات فرز أعدت لها مسبقاً لتغيير تركيبة المجتمع الكردي ( عشائر و قبائل ) , هل من لوائح تعيد تلك التركيبة إلى ما كانت عليه ؟
تتعدد الأشكال و السبب واحد , و من منا يكاد يجرؤ على فصل السياسية عن الاقتصاد , من منا يستطيع أن يسد فم جائع يطلب لقمة العيش ليسافر إلى المجهول إلى أي رقعة من البسيطة تتوفر فيها كينونة الحياة هذه إذا ما قورن أمر لقمة العيش بالسياسة و الاقتصاد و معاقبة من يطالب بها ليرصد بحق هذا الشعب في التسعينات من القرن الماضي أرقام قياسية شكلت نواة للاجئين مشردين في إحدى ضواحي العواصم الأوروبية فروا من سوريا و العراق , أو ممن اتخذوا من إحدى دول الخليج ملاذاً له لتوفر حياة كريمة , و في السياق نفسه و لأسباب أكثر تعقيداً نذكر هجرة أكراد تركيا باتجاه الأردن و سوريا و العراق و السعودية إبان الانقلاب العسكري التركي , و هجرة ( الكرباخ ) بعد تفكك الاتحاد السوفياتي.
و آخر الحلقات من مسلسل الهجر و التشرد التي خيمت بسواد ظلها على آلاف العوائل الكردية تجاه المدن الكبيرة في سوريا المرسوم /49/ ليكون فصلاً جديداً من فصول الهجرة الشبه منتظمة للتهجير المنظم.
أخيراً و ليس آخراً , ها نحن نستقبل ذكرى هجرة الرسول عليه السلام الذي قال في حبه للمكان , و هنا نخصص بالذكر جبل أحد , حيث قال : هذا الجبل يحبنا و نحبه . و إن في هذا لدليل صارخ من قبل رسول الله على محبة المكان لرغبة الإنسان باستمرار حياته في مكان ولادته , لكن و رغم ذلك فقد اتخذ من المدينة المنورة سكناً له بعد هجرته من المكة المكرّمة لنشر دعوته الإسلامية بعد ما لاقاه من محاربة و اضطهاد في مدينته الأم.
و كل عام و أنتم بخير
30 كانون الأول, 2008 03:37:00