قد يخال لنا أحياناً أن كل ما نطلق عليه – اصطلاحا – وصفة النقد، هو ذاك الذي نأمل منه أن يكون بقدر ما ننشده، من أن يشكل حافزاً لتجنب حالات القصور والعجز والانزلاق، ورافداً للارتقاء بالقضايا الخلافية، لتسكن في النهاية إلى مواقع أكثر صحة ومنطقية، بحكم أن المسائل لا يمكن لها أن تتبلور،
إلا إذا أخذت نصيبها من التبادل في الآراء، والحقيقة لا يمكن أن تكون راسخة، إلا إذا كانت نتاج امتزاج الرأي والرأي الآخر، وعليه قد نسترسل حين البحث عن مقومات النقد، وندخل في السوية المعرفية للناقد، مطالبين إياه ببعض الوصفات المعينة حتى يكون أهلاً له، ويتمكن من الإلمام بقواعده، وينأى بنفسه عن بعض الإشكاليات التي تستأثر به وبما يذهب إليه . بمعنى آخر، نطالبه بالحيادية وسلوك سبل المنهجية في التقصي، إلى جانب عدم الرضوخ للأهواء والانفعالات والمواقف المسبقة، كون الرسالة التي نرسمها له، هو الدفع باتجاه تصحيح المسارات، بدل الركون إلى ما هو شخصي / ذاتي، أو مطبوع بالنزعات والهواجس، لأن النقد كأداة للبناء، ووسيلة سلمية – عبر القول والكلمة - من وسائل الوصول إلى صيغة الاتفاق على الاختلاف، لا بد وأن يكون مبيناً على رؤية علمية متجردة ومنطق بحث سليم ومتماسك، وأن يكون الناقد على علم ودراية بالمدارس الفكرية والسياسية، وملماً بأصول النقد وقواعده، وله من الخبرة ما يؤهله لأن يقوم بعملية سبر الحقائق والكشف عنها..
هذه المسلمات التي أتينا على ذكرها، أو التي نحاول التأكيد عليها، لا تمتلك رصيدها في الحياة العملية ضمن المجتمعات التي لم تزل تبحث لنفسها عن هويتها الثقافية والحضارية، وتعيش حالة من التشوه سواء في حالات التفاعل أو في التباين، وإن كنا نجيد الادعاء به، وهي قد تنطبق – نسبياً - على النقد المجرد، الذي به نتناول حالة إبداعية، ونخضعها لعملية التحليل والتقصي، وفق المدارس والمذاهب السياسية والفكرية والثقافية، كون النقد وكما نفهمه، أو هكذا ينبغي أن يكون عليه، يحتل درجة عالية في سلم التطور الاجتماعي، وفي جوانبه المختلفة، ويستمد من صورة ذاك التطور شكله وسياقاته، فهو لا بد وأن يتأثر به، ومن هنا كان علينا أن نتساءل، هل نمتلك ثقافة النقد، وهل الذهنية التي تتحكم بمفردات الحياة العامة في مجتمعاتنا، لها القدرة في أن تؤسس لمقوماته، أو تتماشى مع ما يفرزه من إشكاليات وحقائق، أم أننا نتعامل معه على أنه شكل من أشكال المواجهة، وذلك بحكم أن مجتمعاتنا قد خضعت، وما تزال لثقافة القوة بدلاً من الحوار، تلك التي أنتجت مظاهرها في التعاطي مع الحالات الخلافية انطلاقاً من ذهنية الإقصاء، والتي على أساسها اتخذت أنظمة الحكم من المشانق والمعتقلات النهاية الطبيعية في التعامل مع الرأي الآخر، وكذلك بعض القوى التي تدعي على أنها جزء من ثقافة التحرر والانفتاح، تذهب مذهب التصفيات الجسدية حين تواجهها حالات خلافية، وإن كان البعض يتباهى بمذهبه السلمي، وأنه يؤمن بالحوار سبيلاً إلى معالجة القضايا الإشكالية، وبالرأي الآخر منهجاً في بناء الموقف، دون أن يعيد النظر في لوحته على أنه لا يمتلك مصادر القوة حتى لو أراد أن يقف في مواجهة منتقديه، ودون أن يستدرك بأن ما يقدم عليه من حالات التشويه والتشهير والقنص وكيل التهم، تستمد ديمومتها وأرضيتها من نفس الذهنية التي تتخذ من المشنقة والتصفيات الجسدية سبيلاً ..
إذاً هناك تداخل وارتباط وثيق بين النقد وثقافة المجتمع، والناقد مهما كان موضوعياً، لا بد وأن يكون خاضعاً – نسبياً – لمفردات وإفرازات تلك الثقافة، سواء في بناء شخصيته أو في آرائه، وإن كنا مقتنعين بأنه لا يمكن الحديث عن دور النقد ومفاعليه في حالة التشوه المجتمعي، وأن ما نتحدث عنه على أنه (النقد)، ليس سوى تمرد على ما هو قائم، أو تذمر منه، لأن النقد لا بد وأن يقابله النقد الذاتي ويتكامل معه، ذاك الذي يتطلب رقياً حضارياً ومعرفياً، ويحتل مرتبة أعلى من التي عليها النقد الموجه إلى الآخر، فالوقوف على الآخر ورصد حالته وخطواته، لا تتطلب تلك الجرأة حينما نقف على ذواتنا لنطرح للآخر عوراتنا ونواقصنا، أي ذواتنا كما هي عليها، فلهذا ارتباط بمدى التطور الذي عليه المجتمع، وكيفية تقبله، فإذا كان المجتمع أو المحيط على جانب من تفهم القضايا وتقبلها، فإن مسألة التصدي للذات تكون أكثر مرونة في حالة إذا ما كان هذا الوسط يعتبر ذاك التصدي بمثابة نقص في الشخصية أو جريمة أخلاقية، أي وجود ممانعات النقد، وعليه نرى كيف أن النقد في مجتمعاتنا هو سلاح فتاك في الهدم دون البناء، ومن هنا، فإنه يتوجب علينا، حين الوقوف على ما يفرزه بعض الحالات التي نسميها بالنقد، ألا نطالب الناقد أو المثقف أن يفكر بالعقلية التي نسمعها عن ذاك المواطن في المجتمعات المتقدمة، في مواجهة ما يتم ممارسته على الأرض في واقعنا الذي لا مكان فيه لمثل هذه الذهنية، خاصةً وأننا ككل من نفس الطينة والعجينة، وإن كان البعض منا في دور الممارسة، والبعض الآخر يكمن دوره في النقد والوقوف على تلك الممارسات بممارسات شبيهة بها ..
وإذا ما تجاوزنا القوة الأخلاقية للنقد، واعتبرنا أن لها بعض الحضور في حاضرتنا، وإن كانت هي نفسها مهزوزة ومهزومة، بالترافق مع ما عليه الواقع من فساد وإفساد، وحاولنا البحث فيما يحاول النقد التأسيس له، فسوف نجد بأن هذا السلاح يفتقد إلى إرادته، سواء من جانب الناقد نفسه، الذي يقع في مصيدة المناكف، أو من جهة المعني بالنقد الذي يعول المسائل على فكرة المؤامرة والاستهداف، ويتناولها من زاوية البنية القبلية في التعاطي معه، وعليه، فإن كل ما ننحاز إليه، أو يقف بشأنه بعض الكتاب والمثقفين في واقعنا، ينبغي ألا نخضعه لمقاييس النقد ومقاساته، لأن العملية التي نسميها بالنقد، لا تقف عند حدود متابعة البرامج والرؤى، بقدر أنها تلاحق الممارسات، ومن قبل من يعتبرون أنفسهم على أنهم متفاعلين مع الأحداث، وليسوا مراقبين لها، ودورهم ينحصر فقط بالنقد والمتابعة المعرفية، أي أن من يمارس النقد، هو ذاته من يحتك بالفعل ويتأثر به، وعليه، لا يمكن لنا أن نطالب الآخر بالموضوعية في طرح الرؤى المخالفة أو الوقوف على السلبيات – النقد – وليس له من الوسائل التي تمتلك قوتها سوى الصرخة في وجه المقابحات، بموازاة ما هو ممارس من لدن الذين يشمئزون من بعض حالات الفلتان في توظيف واستثمار أدوات ( النقد ) ..
المصدر : باس نيوز