من بلاد الاغتراب حيث نقطة الانطلاق، الى مسقط رأسهم، لبنان، أحيا الموسيقي عازف البزق عيسى حسن وعازف البيانو إيلي معلوف والايقاعات يوسف حبيش، أول من امس، حفلة موسيقية غنائية في «مترو المدينة»، شارع الحمراء، بحضور جمهور يعدّ كبيراً بالنسبة الى الصالة الصغيرة.
قدم الفنان عيسى حسن مقطوعات موسيقية متنوعة، منها ما صيغ بروحية «الجاز» او ما يمكن تسميته روحية الارتجال، ومنها قطع من التراث الكردي، حيث تعود أصول الفنان حسن، تمت صياغة موسيقاها بما يتلاءم ودخول آلة البيانو الى جانب البزق، وزعها بشكلها الجديد الموسيقي ايلي معلوف.
الأمسية يمكن وصفها بالحماسية، بكل عناصرها، بدءاً بالإيقاعات المتنوعة والأنغام التركية والكردية، التي طالما حافظت على نكهتها وخصوصيتها الجمالية، وغنى سلالمها، ونغماتها التي تفيض بالمشاعر الانسانية، من شجن وعشق وحرمان وألم، حيث استعاد حسن العديد من تلك الأغاني الشعبية المعروفة، ألهبت حماسة الجمهور من الاخوة الأكراد، وجعلته يرقص طرباً ونشوة، فتشابكت أيديهم والتصقت أكتافهم وأجسادهم في دبكات جماعية ملتهبة منذ بدء الحفل، في وقت كان الفنان حسن يحاول أن يطرح معادلة بدت صعبة غالباً، في التوفيق بين تقديم بعض من موسيقى تراثه وبين تقديم موسيقى هي نتاج التقائه حضارات أخرى خلال إقامته في فرنسا.
وهنا انقسم جمهور الصالة الى فريقين، الاول يميل الى سماع الموسيقى وما يمكن ان يؤول اليه الحوار بين البزق والبيانو، فيما الفريق الثاني كان يميل بكل ما أوتي من حماسة الى سماع الفولكلور والتراث الكردي، والذي بدا واضحاً جداً تعطشه القوي الى حفلة من هذا النوع، خارح إطارها المحلي، اذ لا يخرج غالباً من حفلات الأعراس الخاصة والمناسبات التي تعني الاخوة الأكراد مثل أعياد نوروز، ومناسبات تاريخية اجتماعية وغيرها.
وحين طلب عيسى من الجمهور التروي والهدوء، حيث ان البرنامج سيضم مقطوعات يرضى عنها الجميع، إلا ان طلبه لم يلق آذاناً صاغية، إلا لأغنياته الفولكلورية، وبقي الجو مشحوناً بالعاطفة، ومتحفزاً لأول نغمة تراثية، لأداء الرقصات والدبكات ومشاركته الغناء.
إلا أن الجو الحماسي والضوضاء، لم يمنعا الموسيقي عيسى حسن من إبراز موهبته في التأليف الموسيقي وتقنياته الهائلة وإتقانه الكبير في العزف على آلة البزق، وإبراز الكثير من جمالياتها ومساحاتها وشجنها سواء إبان تقاسيمه المنفردة على الآلة وكذلك في المعزوفات المشتركة مع الموسيقي إيلي معلوف، حيث تميز إبداع الاخير في النسيج الذي كتبه لآلتي البزق والبيانو، بحيث شعرنا بالإلفة وعدم الغرابة بينهما، بل التآخي الممتع، الحنون على الأذن، وإن لم تتح الكثير من الأوقات لسماع البيانو وحده، إلا في بعض الأماكن القليلة التي شكل فيها مزاجاً ارتجالياً حوارياً، بأسلوب الجاز، فبرز معلوف كعازف جاز محترف أيضاً، إضافة الى احساسه الشرقي العالي والواضح عبر النغمات الشرقية. كما عزفه أيضاً على الة الهارمونيكا في ارتجالات أضفت جواً تطريبياً مغايراً مع النقر الإيقاعي وصوت أوتار البزق.
وطوال الأمسية كان عازف الإيقاعات يوسف حبيش، لافتاً للنظر، إضافة إلى السمع، فهو كان همزة الوصل المتينة سواء بين العازفين أنفسهم أو بينهم وبين الجمهور، إذ امتلك ناصية الإيقاع بكل عناصره، سواء التقنية منها والإحساس الشفاف بمواضع النقر، التي لا يمكن تعليمها أو تعلّمها، بل هي وليدة خبرة طويلة في التعامل مع موسيقيين، وبخاصة في الارتجالات الموقّعة (التي ترافقها أوزان إيقاعية)، والتي تُظهر براعة عازف الإيقاع من عدمها، يُضاف إلى ذلك تنويعه أثناء المعزوفة، بالعزف على عدد من الآلات الإيقاعية، لا جزافاً، بل معرفة بجمالية كل منها في مكانها، مثل الطبول (طبلة وداهولا) والدف والصنوج والخشاشيش، إضافة إلى إلمامه بعزف إيقاعات قد تبدو صعبة أو غريبة مثل (إيقاع الجورجينا) الشائع في الأغاني الشعبية في العراق وتركيا.
سحر طه
جريدة المستقبل