ديار بكر أو آمد هي من المدن الكبرى في شمال كوردستان (تركيا) تقع على ضفاف نهر دجلة، وهي ثاني أكبر مدينة في منطقة الأناضول جنوب شرق تركيا بعد عنتاب غالبية سكانها من الكورد، وتحتل مدينة دياربكر مكانة خاصة في قلوب الكورد بشكل عام، يحاط ديار بكر (المدينة القديمة) بأسوار من صخور البازلت السوداء كما ان للمدينة القديمة أربع بوابات كانت محكمة الاغلاق ايام الغزوات و82 برج مراقبة.
تشتهر ديار بكر بوجود المساجد القديمة المميزة بعمارتها ومنها جامع ديار بكر الكبير والذي بناه السلطان السلجوقي مالك شاه في القرن الحادي عشر، كما وتوجد بها العديد من الكنائس القديمة، تقع على موقع مدينة أميدا الأثرية اكتسبت اسمها من العرب من بني بكر بن وائل الذين استوطنوها بعد الفتح الإسلامي في عهد معاوية، تعتبر اليوم في مخيلة الشعب الكوردي قديماً وحديثاً عاصمة الكورد وكوردستان الكبرى، تشتهر بقلاعها واسوارها الحصينة وجوامعها وكنائسها القديمة وبساتينها الخضراء جاء ذكرها في كتب الرحالة والمسافرين قديماً وكانت محطة القوافل والتجار لمركزها الاستراتيجي الهام على طريق التجارة يوجد فيها خانات ومحلات واسواق قديمة مسقوفة يعود تاريخها الى العهد العثماني والسلجوقي، كما ان لسورها العالي والحصين والتي خاضت حروب وتعرضت لغزوات كثيرة القوة والمناعة في صدها.
عند الحديث عن مدينة عريقة تصل عراقة تاريخها الى اكثر من 5000 آلاف عام ولا زالت اثارها قائمة و شاهد على ذلك، سنتناول في تحقيقنا هذا شمال كوردستان وهو الجزء الذي وقع تحت السيطرة التركية وآحدى اهم مدنها التاريخية القديمة دياربكر، لا بد لنا في البداية من شرح موجز عن الكورد وكوردستان.
تاريخ دياربكر:
فالاكراد هم الاقوام الارية القديمة والذين عاشوا فى المناطق الجبليه بمنطقة كوردستان من ازمنة طويلة، التي تشكل أجزاء متجاورة من العراق وتركيا وسوريا وإيران وارمينيا حيث قدرت الإحصاءات عددهم بحوالي 45 مليون نسمة، وهم يتوزعون بالشكل التالي تركيا : 22 مليون، إيران : 8 مليون، العراق : 4.2 ملايين، سوريا : 1.3 مليون.
يقدر اعداد الشعب الكوردي في تركيا بحوالي 25 مليون نسمة موزعين على 22 مركز محافظة بالاضافة الى اكثر من 5 ملايين مهاجر يعيشون بنسبة عالية في مراكز المدن التركية الكبيرة في اسطنبول والعاصمة انقرة.
أول ذكر لـ"أميد" ورد في النصوص الآشورية، بعدها أصبحت أميد(ا) عاصمة مملكة بيت زماني الآرامية من القرن الثالث عشر قبل الميلاد، خضعت آمد بعدها للسيطرة الآشورية، ومن ثم للأخمينيين والسلجوقي وبعدها خضعت آمد للسيطرة للإمبراطورية رومانية، وقد أُطلق على المدينة اسم ( Amida) في فترة الحكم الروماني والإمبراطوريات البيزنطية اللاحقة، وأصبحت موقع عسكري هام بتحصينات قوية في العام م359، حاصرها الملك الساساني شابور الثاني 73 يوماً واقتحمها، في العام 638 م دخلها العرب المسلمون، وفي العام 1517 م احتلها سليم الأول العثماني.
ولتسليط الضوء على تاريخ هذه المدينة القديمة التقينا بالكاتب المعروف شيخموس ديكن المتخصص في البحث والتنقيب عن تاريخ مدينة دياربكر حيث افادنا بمعلومات قيّمة اسهمت في اغناء هذا التحقيق حيث قال " يعود تاريخ دياربكر الى اكثر من 5000 آلاف عام، سكنها الناس منذ غابر الازمان وعمروها وبنوا لانفسهم دور العبادة والمنازل والاسواق، وربما تكمن اهمية دياربكر في تاريخها المتواصل والذي لم ينقطع يوماً حيث يذكر ان 36 حضارة نشأت على ركام الآخر، وهناك اربع مدن في الشرق الاوسط والعالم تضاهي دياربكر في تاريخها وهي " بابل، نينوفا، آفس و فيليس" ولكنها اليوم صارت مدن للاثار والتاريخ، ولكن دياربكر نجدها مدينة معمرة ومأهولة، هنا تكمن اهمية هذه المدينة، حضارات عديدة مرت من هنا وتركت آثارها وحفرت نقوشها على الحجر، لهذه المدينة اهمية ليس لدى الشعب الكوردي فقط بل لدى الشعوب الارمنية والاثورية، لهذا لفتت نظري هذه المدينة منذ صغري حيث ولدت بين احضان اسوارها ولاكثر من 25 عاماً اقوم بالبحث والتوثيق عن هذه المدينة ولازالت هناك امور غامضة وتكشف يوم بعد آخر ويندهش المرء امام عظمتها"
ثورة الشيخ سعيد:
تعتبر دياربكر من اهم المدن الكوردية في تركيا و التي تحتضن اليوم اكثر من مليوني نسمة واصبحت حاضنة للكورد منذ الازل، واصبحت مقر الكورد وملاذهم ومركز انتفاضاتهم وثوراتهم ضد اعدائهم حتى بعد سقوط الخلافة العثمانية وإقامة الجمهورية التركية الحديثة، وما محاولات مصطفى كمال اتاتورك التي ارتمت الى صهر الكورد وامحاء تاريخهم وثقافتهم والتي فشلت وقوبلت بمواجهة عنيفة بقيادة الشيخ سعيد بيران (1865 -1925) اثر انتفاضة شاملة لنزع الحقوق القومية للأكراد والأقليات الأخرى، ولكنهم لم يتمكنوا من السيطرة على المدينة وفي منتصف نيسان 1925 تم اعتقال سعيد بيران مع عدد من قادة الانتفاضة ونفذ حكم الإعدام فيه في 30 ايار 1925.
فتعتبر انتفاضة الشيخ سعيد جزء لا يتجزأ من تاريخ هذه المدينة القديمة، ولا زالت آمد مركز القرار الكوردي في شمال كوردستان، حتى اندلاع ثورة حزب العمال الكوردستاني والتي تأسست في دياربكر وفوز الاكراد لبلديات العديد من المدن الكوردية ومنها آمد.
دياربكر حديثاً
تشهد مدينة دياربكر مداً عمرانياً واسعاً في العقدين الأخيرين وخاصة بعد فوز الاكراد برئاسة بلديتها الكبير، لا سيما العشر سنوات الاخيرة ورئيسها اوصمان بايدمر الذي عمل وجهد كثيراً في سبيل اعطاء هوية دياربكر الحقيقة لها وقام بحملات كبيرة للتعريف بهذه المدينة واشهارها عالمياً واقام العشرات من المهرجانات والكرنفالات ودعى كبار الكتاب الكورد وفنانيها واصبحت دياربكر بحق منارة الكورد تشع منها النور والثقافة والادب والفن، وافتتحت العديد من المؤسسات والجمعيات الادبية والثقافية وكذلك معاهد التعليم والحرف وبيوت المطربين والمغنين الفولكلوريين.
وفي معرض حديثة عن دياربكر واهم منجزاتها والحركة العمرانية والثقافية التي شهدها المدينة في الاعوام الاخيرة يقول الباحث شيخموس ديكن الذي اصبح المستشار الثقافي لرئيس بلديتها اوصمان بايدمر.
" بعد ان فاز الكورد برئاسة العديد من البلديات كانت دياربكر احداها، فقد التحقت بهم بعد ان طلبوا مني ذلك، وعملت قرابة 14 عاماً في المجال الثقافي في البلدية وكانت اعوماً مليئة بالنشاط والفعاليات الثقافية والمهرجانات والكرنفالات والفنية والادبية وعرفنا هذه المدينة المعطائة وتراثها وتاريخها بالضيوف وبشعوب العالم، هذه وظيفة تقع على عاتقنا وقد ريحت ضميري اتجاه مدينتي التي احبها كثيراً وساظل كذلك حتى وفاتي"
كما اتسعت رقعة المدينة جغرافياً وزاد نفوذها سياسياً واقتصادياً وثقافياً، كما تمتاز دياربكر بأهيمتها الثقافية التي تتمثل بوجود عدد كبير من الصروح الهامة كالمتاحف والمدارس التاريخية المكتبات المسارح والجسور الاثرية كما تشتهر المدينة بآثارها الإسلامية التي تتمثل ببقايا أسوارها الاسلامية والمنقوشة عليها الآيات القرآنية الكريمة.
خاتمة:
يبقى ان نذكر انه الى جانب تلك السمات التي تتحلى بها هذه المدينة العظيمة، تشتهر دياربكر بالعديد من الصناعات اليدوية القديمة لتبقى إلى يومنا هذا ومنها صناعة الحلي والمجوهرات والنحاس والسفر، ولا زال اهلها يقيمون احتفالات الزواج و الرقص الفولكلوري على إيقاع الطبل لغاية الآن، و تشتهر ديار بكر بأطباقها اللذيذة التي تعتمد بشكل أساسي على لحم الضأن والأرز وتكثر استخدام البهارات والمطيبات كالفلفل الأسود والسماق والكزبرة، كما تختص مطاعم دياربكر وتشتهر بتقديم الكباب والمعلاق الاسود، وتشتهر بحلوياتها الطيبة والمشهورة على صعيد تركيا عموماً ومنها القطايف والبقلاوة، وعند الحديث عن دياربكر لا بد لنا من ذكر البطيخ المشهور والذي اصبح احد رموز دياربكر ويقام مسابقة سنوية للفلاحين لاختيار اكير بطيخ على مستوى المحافظة حيث يصل وزن البطيخ الكبير الى اكثر من 50 كغ، كما ينتمي لهذه المدينة العريقة العديد من رجالات السياسة والكتاب والممثلين والأدباء ذوي الشأن، ومعروفة بأحياء عيد نوروز الوطني حيث تشهد دياربكر اكبر تظاهرة جماهيرة في نوروز كل عام حيث يحضرها الملايين وتعد المهرجان الاكبر لنوروز على الصعيد الكوردي.
الكاتب شيخموس ديكن
كاتب وباحث وناشط كوردي ولد في دياربكر عام 1954 معروف بأبحاثة الادبية والتاريخية عن مدينته التي احبها وعشقها حتى النخاع، حيث نمى وترعر فيها وانهى دراسته الابتدائية والثانوية فيها ثم انتقل الى أنقرة لدراسة السياسة في جامعتها، وتوظف على اثرها واصبح قائمقاماً لعدد من المدن التركية حيث تنقل كثيراً الى ان حصلت الضربة العسكرية عام 1980 واستقال على اثرها وتفرغ للعمل الاكاديمي واصبح ناشطاً في منظمات المجتمع المدني “Civil society organizations” وقام بالبحث والتنقيب وتوثيق تاريخ دياربكر، حيث انهى لغاية اليوم طباعة 15 كتاباً، يكتب باللغة التركية وترجمت اغلب نتاجاته الى الكوردية وبعضها الى الفرنسية والبلغارية والارمنية، ويكتب بشكل متواصل دون انقطاع في كبريات الصحف قرابة 13 عاماً في زوايا اسبوعية وكذلك ينشر في العديد من المجلات والمواقع الالكترونية ويكتب باستمرار على تاريخ دياربكر الشفاهي وآدابها وثقافتها وطعامها وكل مل يتعلق بها.
جريدة التآخي -العدد والتاريخ: 6768 ، 2014-01-27