حين يدور الحديث عن الفولكلور، أو التراث الشعبي حسب تعريف مجمع اللغة العربية، نرى كلمة " الشعب " ملازمة له. بحيث ترد مناقشة هذا المفهوم في جميع دراسات الفولكلور.فما المقصود بـ" الشعب "؟
أهو المجتمع كله أم فئة منه؟ هل الشعب هو الفلاحون، الذين كانوا موضوع أعمال الأخوين جريم الألمانيين في القرن التاسع عشر؟ هل يمكننا أن نضم الأميين إلى الفلاحين؟ هل مفهوم الشعب هنا يشير إلى أولئك الذين ابتعدوا عن العادات و التقاليد، والذين لا يعتبرهم عالم الفولكلور الأمريكي ريتشارد دورسون من فئة المثقفين؟ و هل يشمل هذا المفهوم الصناعيين المدينيين ( من المدينة )؟ طالما أن الشعب أو فئات منه هو موضوع الفولكلور، فإن هذه الأسئلة المهمة تواجه دارس الفلوكلور، و لا بد من إجابات لها.
ظل مفهوم " الشعب " في الغرب، و خاصة في ألمانيا فترة طويلة يشير إلى الفلاحين، أو الطبقات الاجتماعية الدنيا. و قد تبنى هذا المفهوم علماء الفولكسكوندة الألمان([1]) و هو يشير إلى غير المتعلمين و القرويين المتخلفين عن المدنية "([2]).و قد مثَّل كثيرون من الفولكلوريين الغربيين، بينهم الفيلسوف الألماني فون هردر و الأخوين جريم هذا الاتجاه، و ذهبوا إلى أن مفهوم ( الشعب ) يشمل القرويين و الفلاحين فقط، و مثلهم هوفمن كراير([3]) الذي ذهب إلى أن " الشعب هو أولئك الناس الذين يتمتعون بنوع من الفكر البدائي([4])، و كان ويليام جون تومس صاحب مصطلح (الفولكلور) قد سبقهم في هذا الأمر، في أنه يشمل أولئك الذين يحافظون على العلاقات الاجتماعية التقليدية. نعتقد أنه يقصد القرويين و الفلاحين. و حذا عالم الفولكلور الروسي فلاديمير پروپ([5]) حذوهم، فصنّف الأرستقراطية و الفئات الحاكمة خارج مفهوم الشعب([6])،
و يذهب علم الاجتماع الذي يدرس العلاقة بين مختلف الفئات الاجتماعية و آليات التفاعلات فيما بينها، إلى التمييز بين الطبقات الريفية و ما يُعرف بالطبقات الراقية، أو بين المجتمعات المتحضرة و ما يُعرف بأنها بدائية أو غير متحضرة، و أن الفولكلور يقتصر على دراسة الفلاحين و تراثهم. ذلك لأنه يرى أن دراسة الفلاحين على مستوى الأمة مهمة تاريخية و اجتماعية، و أن مجال التخصص الحقيقي لدارس التراث الشعبي هو الاقتصار على الفلاحين([7]).
إن الأنتلجينسيا الغربية، كما يقول الباحث الفولكلوري الكردي حكمت بدران، ظلت ردحاً طويلاً ترى أن " الشعب " هو الفئة المتخلفة في المجتمع، أي أن الشعب يتكون من الجلهة و الأميين و القرويين، من أولئك الذين هم خارج فئة العلماء و المثقفين.([8])
و لا يختلف مفهوم الشعب في الشرق عما هو في الغرب حسب بدران حكمت الذي يقول: " يُعبَّر في الشرق عن هذا المفهوم بـ( الرعية / الرعايا )، فهي قياساً بالقادة و الارستقراطيين، تحتل منزلة أدنى، فهؤلاء القادة لا يعتبرون أنفسهم من الشعب."([9])
إلا أن عالم النفس الاجتماعي السويسري ريتشارد ڤايس([10])، الذي يعود إليه الفضل الأكبر في تحديد مفهوم (شعبي). يرى أن جميع أفراد الأمة، سواء كانوا عمالاً أو فلاحين أو رعاة أو رجال أعمال أو محامين أو أساتذة جامعيين يشتركون في خاصية كونهم شعباً، على اعتبارهم حَمَلة الأشكال الثقافية التقليدية.([11])
إن من أوردنا آراءهم من الفولكلوريين، باستثناء ريتشار ڤايس، يقسمون المجتمع إلى قسمين، القرويين و الفلاحين من جهة، و المتحضرين و المتعلمين من جهة أخرى. تُرى أي الفئتين تنتج الثقافة، أي الفولكلور؟
يرى هوفمن كراير الذي يعني " الشعب " لدية الفئات الدنيا في المجتمع، أن هذه الفئات لا تبتكر الثقافة، و إنما تتداولها نقلاً عن الجماعات الأكثر تطوراً اجتماعياً و فكرياً "([12]). فهو إذاً يحصر انتاج الثقافة في الطبقة العليا من المجتمع. و يوافقه الرأي هانز نويمن في ذلك، و يذهب إلى أن الأنتلجينسيا، أي الطبقة العليا و النخبة هي التي تنتج الثقافة و تبتكرها، و هذه الثقافة تنحدر نحو الأسفل، و تتجمع في القاع فاقدة كثيراً من سماتها. بمعنى أن لا دور للشعب / الطبقات الدنيا في إنتاج الثقافة، فدوره فقط هو التقليد، و هذا التقليد هو ما يجعل الثقافة تبتعد عن أصالتها. فالفولكلور وفق هؤلاء قاع تتجمَّع فيه الثقافة بعيدة عن أصالتها.
و قد نحا فولكلوريون غربيون آخرون هذا المنحي، و ذهبوا إلى أن الطبقة الاجتماعية العليا، أو الأرستقراطية هي التي تنتج الثقافة، و الثقافة تنحدر من الأعلى نحو الأسفل، نحو الشعب الذي يتمتع بالفكر البدائي، و في هذا الانحدار تفقد كثيراً من خصائصها شكلاً و مضموناً."([13])
إلا أن بعض الفولكلوريين الغربيين الآخرين، مثل فون هردر و الأخوين جريم تصدوا لهؤلاء، و شددوا على أن الطبقات الدنيا من المجتمع هي التي تنتج الثقافة، و قد حذا الفولكلوري الروسي فلاديمير پروپ حذوهم، و ذهب إلى أن الفولكلور نتاج الطبقة الاجتماعية الدنيا، بمعنى إنه يجمع بين إنتاج الفولكلور و تلك الطبقة([14]). فهو لا يرى للأرستقراطية دوراً في إنتاج الثقافة، والشعب حسب رؤاه هو العمال و الفلاحون، و هو الذي ينتج الفولكلور، الذي هو مرآة للصراع الطبقي،و أحد أسلحته، و يجب، إلى جانب الأدب و الموسيقى و الفنون الأخرى، أن يُنتِج القيم العليا للبروليتاريا. ربما كان موقف پروپ ناتجاَ عن ضغط التوجه الرسمي في الاتحاد السوفياتي السابق لتوظيف الفولكلور أيديولوجياً، فقد كان أحد الشكلانيين الروس، و لكنه تبرَّأ من المدرسة الشكلانية، حسب ما يقول ريتشار دورسون([15]).
و يذهب أستاذا الفولكلور الكردي في الاتحاد السوفياتي السابق، الأخوان أورديخان جليل (1932 – 2007) و جليل جليل (1936 - .....) إلى أن " القرويين و الفلاحين هم صانعوا الفولكلور الكردي."([16]) ما يعني أنهما يقفان إلى جانب پروپ و علماء الفولكلور الغربيين في تضييق مفهوم " الشعب "، ليشمل القرويين و الفلاحين فقط، و أن هؤلاء هم منتجو الفولكلور.
هكذا ينقسم علماء الفولكلور حول إنتاجه إلى فئتين، فهم بعد أن اختلفوا في مفهوم الشعب، و قسموه إلى قسمين، يختلفون في أي من القسمين ينتج الفولكلور، أي من القسمين ينتج الثقافة. إننا نرى أن كلتا الفئتين إنما هما أسيرتا توجُّهٍ ربما يكون أيديولوجياً، ذلك لأننا مثلما لا نستطيع أن نجعل مفهوم "الشعب" مقتصراً على شريحة القرويين و الفلاحين فقط، كذلك لا يمكن أن نجعل الأنتلجينسيا و الطبقة الأرستقراطية خارج دائرة إنتاج الفولكلور، ذلك لأن " أغلب النتاج الفولكلوري يخدم النظام الاجتماعي السائد، و يعمل على ترسيخه، و من هنا لا بد أن يكون لأهل الحكم و الطبقة الارستقراطية فولكلورها، الذي يهدف إلى الحفاظ على نظامها الاجتماعي ومصالحها.([17]) و هذا ما ذهب إليه الكردولوجي باسيلينيكيتين أيضاً إذ قال: " كان الفولكلور الكردي أداة يستخدمها الإقطاع للتأثير على عامة الناس و الشغيلة الكرد من رعاة و زُرّاع."([18]) و لعل المثل الكردي القائل: " قبِّل اليد التي لا تستطيع عضَّها"([19])، الذي يتردد صداه في الثقافة العربية أيضاً، يدخل في هذا الاتجاه من حيث كونه يهدف إلى ترسيخ العبودية و إطاعة القوي.
و في المجتمع الكردي ارتبط مفهوم " الشعب " بالمناطقية أو الجغرافيا، أو بالعشيرة أحياناً،"([20]) فكثيراً ما تُسمَع تعبيرات من مثل (سكان جبل الكرد ) أو ( أهل القرية ) أو ( أهل المدينة ) أو ( الآمْكيون عنيدون ) نسبة إلى عشيرة ( آمْكا ) في جبل الكرد / عفرين، دون تمييز بين الفئات الاجتماعية في تلك الأماكن الجغرافية، و في الوقت نفسه نسمع تعبيرات على شاكلة ( عائلة بدرخان باشا ) و ( أغوات جبل الكرد )، ما يعني أن الطبقة الأرستقراطية الكردية تشكل مجموعة معينة بخلاف فئات الشعب الأخرى، و لها فولكلورها أيضاً. و من هنا نرى أنه لا يمكن أن تكون ثمة مجموعة أو فئة اجتماعية خارج دائرة إنتاج الفولكلور، حتى و إن تعالت فئة اجتماعية على غيرها. و قد رأينا أن مفهوم " الشعب " حسب العالم السويسري ريتشارد ڤايسيشمل جميع أفراد الأمة دون تمييز بين الفئات الاجتماعية، و قد مرَّ سابقاً قوله: " جميع أفراد الأمة، سواء كانواعمالاً أو فلاحين أو رعاة أو رجال أعمال أو محامين أو أساتذة جامعيين، يشتركون في خاصية كونهم شعباً، على اعتبارهم حَمَلة الأشكال الثقافية التقليدية ". و يتردد صدى هذا الرأي لدى الباحث الفولكلوري الكردي بدران حكمت، إذ يقول: " الشعب يشمل جميع أفراد مجتمع ما، سواء كانوا من الطبقة الدنيا، أم من النخبة، قرويين و فلاحين كانوا، أم مدنيين متحضرين. و باختصار شديد، نقول مع الفولكلوري الأمريكي آلان دوندس([21]) " من هو الشعب؟ الشعب هو من يصنع القصص، أو من يستمع إليها."([22]) و لعل علي جزيزي، الذي يستخدم مصطلح (الأدب الشفاهي) " تلافياً للإشكالات التي تحوم حول مفهوم الشعب "([23]) في هذا الميدان، يختزل كل هذا الجدل في عبارة مكثَّفة، إذ يقول: " الشعب يعني في المآل الأخير مجموع أفراد الأمة على اختلاف طبقاتها و شرائحها و طوائفها"([24]). و ذلك دون تمييز بين طبقاته أو فئاته.
([1]) د. مRamazan Pertev (Editor) : Heman jêder, rû 37. و انظر: محمد الجوهري (تحرير): مقدمة في التراث الشعبي.كتاب إلكتروني، ص 23. والفولكسكوندة مصطلح ألماني يعني الفولكلور،أو الحياة الشعبية.
([2]) Ramazan Pertev (Editor) : Heman jêder, rû 37
([3]) هوفمن كراير (1864 – 1936) عالم و لغوي و فولكلوري سويسري، مختص في تاريخ العصور الوسطى.
([4]) مبروك بو طوقة: مناهج دراسة الفولكلور. مقالة إلكترونية. موقع أنتروبوس
([5]) Ramazan Pertev (Editor): Heman jêder, rû 32
Ramazan Pertev (Editor): Heman jêder, rû 32(3)
([7]) د. محمد الجوهري: علم الفولكلو ج1، مرجع سابق، ص 41.
([8]) Ramazan Pertev (Editor): Heman jêder, rû 37
([9]) Ramazan Pertev(Editor): Heman jêder, rû 38
([10]) ريتشار ڤايس(1907 – 1962) أنثروبولوجي و فولكلوري سويسري، تخصص في التاريخ و الجرمانيات، عمل أستاذاً للفولكلور و الإثنوغرافيا في جامعة زويريخ. ويكيبيديا.
([11]) د. محمد الجوهري" علم الفولكلور، ج1 مرجع سابق، ص 45.
([12]) مبروك بو طوقة: مناهج دراسة الفولكلور. مقالة إلكترونية. موقع أنتروبوس
Ramazan Pertev (Editor): Heman jêder, rû 37([13])
Ramazan Pertev (Editor): Heman jêder, rû 32(3)
([15]) د. دورسون: نظريات الفولكلور المعاصرة. الترجمة العربية، مرجع سابق،ص 67
([16]) Ordîxanê Celîl û Celîlê Celîl : Zargotina kurda, beş 1, çapa yekem, Moskova, Neşirxana Naûka 1978, rû 26)
([17]) Ramazan Pertev (Editor): Heman jêder, rû 32
) باسيلي نيكيتين: الكرد. مرجع سابق، ص 411. [18](
([19]) weşanxanê ne diyar in, rû 153
([20]) Ramazan Pertev(Editor): Heman jêder, rû 40
([21]) آلان دندس (1934 – 2005) فولكلوري و إثنولوجي أمريكي درَّس علم اللغة الانكليزية في جامعة ييل ثم في جامعة إنديانا. تمت ترقيته عام (1962) لأطرحته "مورفولوجيا الحكايات الشعبية الهندية في أمريكا الشمالية".عمل دندس محاضراً في جامعة كانساس، و عام (1965) أصبح محاضراً للأنثرلوجيا في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، ثم عينته الجامعة عام (1968) رئيساً لقسم الأنثرولوجيا و الفولكلور. ويكيبيديا.
([22]) Ramazan Pertev (Editor): Heman jêder, rû 40
([23]) علي جزيري: الأدب الشفاهي الكردي، أدب الأطفال أنموذجاً. ج 3، مطبوعات الأكاديمية الكردية، الطبعة الأولى أربيل 2017، ص 10.
([24]) المرجع نفسه، و الصفحة نفسها.