-أهي فجوةٌ أومسافةٌ توتّر تستبدُّ بيوتحدّني برائحتِها ونكهتِها الطريّة كلّماتذكّرتُ هذا الاسمَ " سعيد ريزاني" ؟ ولاأدري أين اختبأ أوخبّأ صوتَه في لونه أولونهفي أصواته ؟ فمِن أيّة جهةٍ تأتيه تجدُهكائِناً مرناً يزدحمُكَ بحضوره اللونيّ أو الصوتيّ .يلازمُني هذا الاحساسُ الغريب، فحين وجدتُه يرسمُ طبيعة جزراويّة أليفة أومعادية أجدُه بنفس الآن يعزفُ لوناً
موسيقيّاً قلّما لامسَ مثلُه عالمي الذييسيح ؟ حين يعزفُ سعيد ريزاني لرياح الأرضوتمرّدِها أحسبُه يرسمُ، هكذا أفهمُه وهوالذي فجّر بيتنا موسيقا ولوناً ، فها هي عينيلا تتخطّاني عندَما أجدُ لوحةً لا تضجُّ إلابأنفاس ريزاني الذي يضخُّ فيّ الإحساسَبقسوة السّنوات التي باعدتني عنه ، و هو الذييعيشُ في بلاد الضباب والثلوج والزمهرير،وما كان يتحمّل ذاكَ الثالوثَ البغيض.
أتقرّى أخبارَ ريزاني من بعيد ، فيُقالُ ليبأنّ غرفة زمهريريّة الأركان تحتلُّه،وتُلقي به بغضاءُ الثلج والضباب والزمهرير
في متاهاتها، و ما كان لريزاني إلا كلُّالأمكنة لتحتويه مع تمرّده ، فحريٌّ به أنْيجرّبَ أمكنة باشلار ليهندسَها على مقاس
موسيقاه ولونه في مهبط روحه "عامودا" التينسيَ جيلٌ كاملٌ فيها : مَنْ هو سعيد ريزاني؟ وهو الذي غنّى له ولمستقبله وخطّط لحياةذاك الجيل،حتى قبلَ أنْ يُولد . ريزانيحَبّبَ إلينا آلة العود : هكذا قالَ أبناءُجيلي .أهكذا نُقاضي مبدعَنا ؟ فهل وجدتَمغبناً ونسياناً وتناسياً مثل ما أراهوأعانيه و أحسُّه ؟ أم أنّ ذاكرتَنا خُلِقتْللنسيان فقط ؟ ، وللأمانة أسجّلُ ملاحظة
تخصّني وهي أنّ تظاهرة ليليّة خرجتْصدّاحةً بصوت ريزاني للمرّة الأولى فيالهواء الطلق ، وكان الشابُ الواقفُ بجانبي
قد أهداني الأغنية تلك ،وكأنّه يقراُ صفحةحياتي .جرّبَ ريزاني أمكنة غيرَ عاموداالباهتة ليقينه أنّ المكانَ الواحد مثل
اللون الواحد يقتلُ ويميّعُ صوتَ اللوحةولونَ الموسيقا ،فما كان لريزاني إلا أنْيجرّبَ مدناً سوريّة بفضاءٍ من البيوت ، لا
يَشبَع ولا يُشبَعُ من بيتٍ في الشرق إلاويُذهَب به إلى بيتٍ في الغرب ، وهو الكسيح. (
و ه و – ا ل ك س ي ح )! و لكنّه المدجَّجُبالحبّ والطفولة والذكريات .سعيد ريزانيالكسيح ، وكانَ يجبُ عليه وحدَه أنْ يمشيَعلى مناكب الأرض و جهاتِها ، وينشدَ لحناً فيالغرب ليسمعَه مَنْ في الشرق أو أنْ يرسمَلوحةً يتملّاها مهمّشٌ ما ، فيحتدُّالمهمّشون بالقول:ذاك الطفل المُمَزّقالثياب والحافي وفي يده خبزُ ملّة : أنا.رافقتُ أحاسيسَ ريزاني حين رَسَمَ جداريّة"غوركي" في بيتنا ، ورافقتُه إلى مطار دمشقَوهو يختفي بينَ بسمات القادمين ومناديلالمودّعين قبلَ أكثرَ من عقدين ، وفي ليلةِوداعِهِ طلبتُ منه أنْ يغنّي : " عامودا عشُّفراشاتٍ وصور ووجوهُ تماثيل وقمر "ورأيتُقاسيونَ تهتزُّ أركانُها ، وبيوتُ الصّفيحفيها لألحانه ، حينها ، حينها فقط وَقَرَ فينفسي الأمّارة بالتكهّن والتأكيد أنّريزاني لن يعودَ إلى مدينة " الفراشاتوالصور والتماثيل".
هانوفر