Share |

في الألم المديد للأكراد: أهذا هو الإنسان؟...نزار آغري

دخل الجيش التركي مدينة عفرين بعد اجتياحه القرى والبلدات المحيطة بها. فعل ذلك بجحافل من الجنود وعدد كبير من أفراد الجيش السوري الحر، بعد أكثر من شهرين من قصف متواصل جواً وبراً.

 

فعل الجيش التركي ذلك لسبب واحد ووحيد، يعرفه العالم أجمع: أن سكان المنطقة أكراد.

 

حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي الذي كان يدير شؤون المنطقة ليس نموذجاً مشرقاً للديموقراطية ولا مثالاً يحتذى. إنه، شأن كل الأحزاب والجماعات والمنظمات في هذه المنطقة من العالم، يعاني أوجه قصور كثيرة ومخزية. غير أنه ليس الأسوأ بينها، لا سيما تلك التي تأويها وتساندها وتدعمها تركيا، بما في ذلك الجيش الحر. بل هو يشكل بالفعل، قياساً بتلك التشكيلات، النموذج الأفضل والأرقى بكل المقاييس.

 

فضلاً عن ذلك فمنطقة عفرين كانت واحدة من أكثر المناطق تمتعاً بالأمن والهدوء، ولم تنطلق منها رصاصة واحدة، ولو طائشة، باتجاه الحدود التركية.

 

لقد استنفر الرئيس التركي أردوغان الآلة العسكرية والاستخبارية والإعلامية وهيّج الرأي العام وحرض الناس جميعاً، بمن فيهم خطباء الجوامع والأئمة، لغاية واحدة: الانقضاض على عفرين، لأنها تدار بأيدي الأكراد، الذين هم سكان المنطقة بالذات.

 

وكما قالت صحافية تركية، فكل كردي في أعين الحكومات التركية إرهابي بالضرورة. ألم يصب أردوغان لعناته على مسعود البارزاني ووصفه بأقذع الصفات حين أراد إجراء استفتاء على مصير أكراد العراق؟ وكلنا نعرف كم كان البارزاني حليفاً وثيقاً لأردوغان حتى آخر لحظة.

 

لا يتعلق الأمر بشخص أردوغان. في تركيا، منذ قيام الدولة وحتى الآن، يتفشى مرض اسمه «الأكراد».

 

فما تمارسه تركيا، دولة وحكومة وأحزاباً، بكافة تلويناتها، ليس سياسة. إنه عنصرية مكشوفة، صارخة، استعلائية، كريهة، لا مثيل لها في العالم قاطبة.

 

أتكلم هنا ككردي، كما يتكلم أبي وأمي. أصرخ مثلهم: ماذا يريد أردوغان وجاويش أوغلو وكليجدار أوغلو ودولت بهجلي ومن قبلهم عصمت إينونو وعدنان مندريس وجلال بايار الخ...؟ ألم يشبعوا من رؤية جثثنا تملأ الأودية وتزنر سفوح الجبال؟ ألم يرتووا من دمنا المسفوح كل يوم، كل يوم بالمعنى الفعلي للكلمة؟ ألم تتعب أيديهم من ذبحنا؟ ألم يحن الوقت لوضع نهاية للفتك بنا وسبي نسائنا؟

 

بعد مأساة حلبجة غنى المطرب الكردي شفان أغنية «هاوار». وهاورا بالكردية تحمل أكثر من معنى: النجدة، الصرخة، الاستغاثة، اللهفة، الرجاء، العويل، النشيج. في الأغنية يكرر شفان كلمة «هاوار» أكثر من عشرين مرة ويدعو بصوت أقرب إلى الصراخ إلى وضع حد لهذا الموت الذي يلاحق الأكراد. يقول: «ها هو التاريخ يعيد نفسه من جديد. ها هي الصرخات تعلو من جديد. الأمهات ترمي بأنفسهن على أولادهن لتحميهم والآباء يهرعون في كل اتجاه. من السماء هدير الطائرات، على الأرض صخب المدافع والدبابات. في كل مكان نار ودخان وغبار. في كل مكان بكاء وعويل وأنين. من جديد يكشر التاريخ عن وجهه. مثلما حدث من قبل في ديار بكر وبالو وكنجو وديرسيم وآغري ومهاباد وبرزان. اليوم يتكرر الأمر في حلبجة».

 

واليوم في عفرين. ومن قبل في كوباني. في سنجار. في كركوك...

 

ذاكرتنا نحن الكرد لا تمتلئ بمشاهد البهجة. تاريخنا لا يسرد محطات الفرح. ذاكرتنا مليئة بمشاهد القتل والدمار والملاحقة والسبي والنفي والمجازر والمهالك والأنفال. ذاكرتنا تمتلئ بأسماء مثل: حلبجة، كرميان، زيلان، ديرسم، شيخ سعيد، سيد رضا، قاضي محمد، سنندج، مهاباد، خلخالي، قاسملو، شرفكندي، الحزام العربي، التعريب، المستوطنات، انتفاضة القامشلي، عامودا. ذاكرتنا لا تحمل أسماء جيراننا، من العرب والترك والفرس، ممن أخذوا بأيدينا كي ننهض ونرتقي ونبني ونبدع، ذاكرتنا تمتلئ بصور حشود في هيئة جحافل تفتك وتقتل وتسبي وتغنم وتمارس السلب والنهب. في أعماق كل واحد منا، صغيرنا وكبيرنا، خوف مزمن. كل واحد منا يحمل في قلبه غصة. كلنا، أكرر كلنا، نبكي، أحياناً من دون سبب، لأن البكاء استوطننا. ما يجمعنا ليس القومية أو القبيلة أو الدين أو المذهب أو الأيديولوجيا. ما يجمعنا هو الخوف. قد لا نتشابه في جيناتنا أو ملامحنا أو ميولنا أو أهوائنا، غير أننا نتشابه في الحزن المخزون في أرواحنا. نحن نحتفظ بكلمة السر المدفونة في ذاكرة الجميع. الكلمة التي رددها الآباء والأجداد، جيلاً بعد جيل: الخوف. نفهم بعضنا بعضاً. أجسادنا تحمل آثار ما عشناه.

 

أرواحنا مثخنة بالطعنات ذاتها. هنا وهناك كنا نخاف أن نتكلم بلغتنا في المدرسة فتنهال على وجوهنا الصفعات. هنا وهناك كنا نحتفل بالنوروز سراً ونحن نتوقع في أي لحظة أن تنهال على أجسادنا سياط تطلع من العتمة. هنا وهناك نأوي إلى الفراش على صوت طلقات الرصاص تغتال أقرباءنا في الجانب الآخر من الحدود. هنا وهناك نسمع أبشع الشتائم عن تخلفنا وهمجيتنا وغبائنا ونبلعها لأننا إن استنكرناها يجروننا إلى أقرب مخفر نتعرض فيه للمزيد من الإذلال والقهر وتزداد الشتائم بشاعة وقبحاً. كل شيء يخصنا غير مرغوب فيه، بل مكروه وممقوت: لغتنا، ثقافتنا، أغانينا، أعيادنا، ملابسنا، قصائدنا، حكاياتنا، لا بل ديننا أيضاً، سواء كنا مسلمين أم إيزيديين أم كاكائيين أم مسيحيين.

 

حين قرر صدام حسين القيام بعملية الإبادة بحق الأكراد أطلق على «مشروعه» اسم «سورة الأنفال» من القرآن. وحين طالب أكراد إيران بالحكم الذاتي بعد أن شاركوا في الإطاحة بالشاه، رد الخميني بأن القرآن لا يذكر شيئاً عن الحكم الذاتي وأن الأكراد إذاً مرتدون يتوجب قتالهم، وسارت مسيرات دينية تردد: لا إله إلا الله الأكراد عدو الله. والآن طلب أردوغان من أئمة الجوامع قراءة سورة الفتح لمباركة جنوده الذاهبين لقتال «الخونة» (ولكنْ خونة ماذا؟).

 

لقد صاغ الأكراد عبارتهم «لا أصدقاء لنا سوى الجبال» ليس من باب الشعر والبلاغة بل من شدة اليأس والقهر.

 

في الثورة السورية كان الناس يصرخون: «يا الله ما إلنا غيرك يا الله». لم يقل الأكراد ذلك، على رغم إيمانهم بالله وتشبثهم بدينهم، لأن المحتلين يسرقون منهم حتى الله. يذيقونهم الويلات باسم الله. يقتلونهم ويفتكون بهم وهم يرددون آيات القرأن. بالنسبة لهم، اتخذ الله اتخذ موقعه في الجبهة المعادية لهم.

 

يروي الكاتب الإيطالي اليهودي بريمو ليفي الذي عاش في جحيم أوشفيتز، في كتابه «أهذا هو الإنسان؟»، كيف أنه انتظر أمام اللجنة التي ستقرر ما إن كان سيذهب لغرفة الغاز أم أنه بصحة جيدة تسمح له بالاســـتمرار في العمل. في تلك اللحظة أحس برغبة في الصلاة لكنه تراجع ووبخ نفـــسه بقوة. كتب: إن الصلاة في تلك اللحظة أكبر كفر يمكن أن يقدم عليه شخص مؤمن. أظن أن هذا الشعور يخالج كل كردي.

 

 

جريدة الحياة- ٢٥ مارس/ آذار ٢٠١٨