محمود درويش يجمعُ الأدباءَ في - سما كرد ( الجزء الأوّل)– موقعُ سما أوّلُ موقع ٍ منْ بين كلّ المواقع ِالكرديّة ، والعربيّة دعا إلى فتح ِملفّ عن الشاعر محمود درويش في ذكرى وفاتِهِ الأولى ، و لم يكنْ مِنَ المستغرَبِ أنْ يستقبلَ مُعدُّ الملفّ الكثيرَ جدا من الموادّ ،
طلبَ أصحابُها المشاركةَ في هذا الملفّ ، ولأنه ضخمٌ جدا ، ارتأى محرّرُ سما ( هوزان أمين ) - متفقاً مع المُعدّ - أنْ ينشرَه على أجزاء ، و بحسب ورود المُشارَكات إلى الموقع ، باسم مدير مؤسسة سما كرد (الأستاذ عارف رمضان) - وكلّ العاملين في المؤسسة - نقدّمُ الشكرَ لكلّ الأدباءِ والفنانين الذينَ شاركوا في هذا الملفّ ، متمنيّاً قرءاة مُمتعة لكلِّ قراء ، ومتصفحي الموقع ، و الشكرُ موصولٌ لكلّ المواقع العربية ، والكردية التي نشرتْ إعلانَ الملف.
و مشاركاتُ هذا الجزء لكلٍّ مِنْ( جميل داري- إسراء ضعيّف- د. فاروق مواسي- نبيل عودة - منير محمد خلف- عمر سعدي- فاطمة الزهراء بنيس - سيمون عيلوطي- نوّارة لحرش - عزيزالعرباوي)
المُعدّ : عبداللطيف الحسيني
(1)
حوارٌ سريع مع محمود درويش..
بعيد موته بقليل ...!
جميل داري – دبي .
*
سافرتَ من شعر إلى شعر
ومن بلد إلى بلد
أرأيتَ شيئا آخرا
غير الزبد..؟
**
لا لم أجدْ
إلا بلادا رثة
تبكي الخيول بها
وتجترُّ الصدى..
وتموت تترى في كمد
إلا قبورا ثرة
لا..لا يمرُّ بها أحد
*
من مهدك الشعري
حتى موتك السري
كيف بنيتَ نفسك
أنتَ ريحٌ أم لهب..؟
** قد كان دربي شائكا
ومضرجا بالحبِّ والزيتون
بالكلمات.. من شغف
إلى أقصى الغضب
وخرجت من سجن إلى سجن
ومن حزن إلى حزن
لكي يتحرر الإنسان..
يرفع رأسه..
ويزيح عن أنفاسه
جبل التعب
*ها أنت في موت..
فقل: ما الفرق بين حياتك الأولى
وهذا الموت..مذموم المحيا..؟
** لا ..لا تذم مصيري المحتوم
لكن.. كنتُ أرفضه
وأمي حية..
تبكي عليا
إني لأخجل من دموع
طالما حنت إليا
* هل ملَّ قلبك منك..
من رجل أحبَّ الناس
عانقهم كثيرا..؟
أتحب أن تحكي لنا
كيف الهوى يغدو كبيرا..؟
** يا صاحبي..
من حسن حظي أنني
غنيت للإنسان..
لم أرضخ لظلم..
لم أهادن طغمة الكهنوت..
لم أرفعْ يدي إلى الهواء
لم أستسغ طعمْ الهباء
كنتُ المحب لأهلي المستضعفين
والآخرين...
إني أموت الآن مرتاحا..
مرفوعَ الجبين..
* هل أنت راضٍ عن حياتك..
عن كلام قلته
أو لم تقله..
يا أمير الشعراء..؟
** لا.. لم أرضَ
إلا عن جهادي
وأنا أدافع عن بلادي
وعن الذين أحبهم ملءَ الفؤاد
مثلا:
كرهتُ الجبنَ واليأس العضال
وكرهتُ أشباه الرجال
أحببتُ أقواما على وشك الزوال
أحببت" ريتا"
وهي تسبحُ في الخيال
أحببت أمي ..
وهي تصنع قهوتي
وتصوغ خبزا.. كالهلال
*ماذا تقول وأنت في هذي النهايه..؟
** لا..لا نهاية لي..
أنا..
أمتد من شعري إلى شعري
ومن قبري إلى قبري
وتلك هي الحكايه
أنا.. لم أمتْ
كلماتي الخضراء
أتركها لكم..
في البدء.. كان الشعر
لولا الشعر لانتهت البدايه
* قل لي وصيتك الأخيره..!؟
** حبي لشعبي..
للملايين الأسيره
* ما نبعُ كلِّ حروفك الأولى التي ليست تلين..؟
** من خبز أمي..
من بساطتها..
ومن شعبي الحزين
*هل مت أم ما زلت حيا..
لا تلين..؟
** لا لم أمت..
الموت.. نوم مزمن
عبر السنين.....................
محمود..يا ربَّ القصيده يا صاحبَ النفس العنيده...
لا لم تمت .. ما قد جرى حبر... على ورق الجريده
أتموتُ نفسٌ حرة ...... في الشمس غايتها البعيده؟
أتموتُ أرض أو سما ء....... أو رسالات عنيده؟
أنت الذي...... دججتنا بعرائس الشعر الفريده...
أنت الذي.... ضرجتنا برؤى عتيقات....... جديده
محمود..أرفضُ أنْ تمو ت.. وأرفض الحكم البليده
لا........ لم تكن إلا أبا مستبسلا........ يحمي وليده
لا لم تكن لك ..كنت لل ثوار .......للأرض الشهيده
لا.. لا يليقُ بك الرحيل فظل أحلاما......... سعيده
سيضمك التربُ الذي أحببته...........زينت جيده
من دونك الحياة.. سوا دٌ.......... كل سنبلة وحيده
حلقْ على شرفات رو حي........إنما الدنيا زهيده
وأطل بقاءك..... بيننا أما الغياب......... فلن أريده
باق.... إلى أبد المدى إنّ الحياة لك........ العقيده
هذي فلسطين التي محمودها...... رب القصيده
مثواك رام الله ...يا الله..! مثواك القصيده........
( 2)
إلى روحِ الشّاعر الكبير محمود درويش
إسراء ضعيّف.
كثيرًا ما نحزن على فقدانِ روحٍ عزفت على أوتارِ القلب بوحًا دافئًا، والأشدّ حزنًا أن تفيض الرّوح شوقًا لِقامةِ رجلٍ سامق، رتَّل أغاريد الشِّعر، فانغرست في دمائنا وراحت تسري حتّى الوريد... عندَ ذكره تحمرّ مقلتانا ألمًا فتفضّ الدموع شبّاك القرينة وتشهق آه وآه على رجلٍ أمطرنا شعرًا باسقًا، وتنفّسنا في حضرةِ شِعره حنين الأرض وهيامها وشوق السّماء وهذيانها،والأرض تبكي لرحيله والسّماء تتمزّق في بعده، والصّدر يموجُ شغفًا على ضفاف الذّكرى، فتأخذنا الأطياف حيث روائح قصائده التي لا تنتهي... لِشاعرٍ تدثّرنا بقصيدهِ جمالاً، نقتاتُ من فيضِ فراقه حنينًا لثورةِ الوطن التي أحياها في داخلنا وارتوينا منها حُبًّا وتمسّكًا بالتّراب، بالهواء، بالشّجر، بالسّماء، بالطّيور، بالمطر، ولأنّهُ يقطن ذاكرتنا، نستكين بروحهِ ولأجل الذّاكرة، نتيمّم بِفصولٍ حاكتها أصابع الزّمن، وسكبتها رواية على صفحاتٍ خلَّدها التّاريخ لِشاعرٍ لم نعتد على رحيله... شاعرٌ متفرِّد له أسلوب خاص مُكلّل بِنبضٍ ممزوج بحُبّ الوطن والثّورة،وشمَ ذاكرتنا بعشقِ الوطن الـ يتدلّى من ثورةٍ تخفق داخل أغشية الرّوح... نفتقدُكَ يا سيّدي، لكنّ ذكراك ما زالت محفورة في الذّاكرة، مغموسة في الأعماق، تجتاح الأوردة، وتنقش على الأضلاع أنّكَ شاعر لستَ كبقية الشّعراء، وثائر تُجيد ثورة الوطن، تلفظها بلا تبعثر... سنظلّ نحتفظ بأشعارٍ أنتَ من نسجها بيمينه ورتَّلها بتغاريد نبضه...
( 3)
قراءة أولى في قصيدة ( الهدهد ) لمحمود درويش
د. فاروق مواسي – فلسطين .
من القصائد ما تكونُ توسويعًا لفكرةٍ أو لومضة في قصيدة سابقة للشاعر نفسه ، وقد لاحظتُ أنّ قصيدة " الهدهد " لمحمود درويش هي توزيع وتنويع لقوله في قصيدة له سابقة هي - " مأساة النرجس ملهاة الفضة ":
" هل يستطيع بريدنا المائي أن يأتي على منقار هدهد
ويعيد من سبأ رسالتنا لنؤمن بالخرافة والغرابة:
أرى ما أريد( ص 58 )
، وقد نشرت القصيدة في كتاب مستقل صدر عن دار رياض الريس (1989).
تتبعت وتقريت إن كان " للهدهد " في دواوينه السابقة أثر دلالي خاص يساعدني في فهم هذه القصيدة ، فلم أجد هذا الفهم العميق للهدهد ودلالاته إلا بدءًا من البيتين السابقين – فلكي نعي صورة الهدهد لا بد لنا من معلومات أولية تتعلق بالتراث ، وأولها أن الهدهد كان في قصة سليمان وملكة سبأ هو الرسول . وسبب تفقد سليمان هذه الطائر بالذات أنه كان يهدي للماء ويعرف مواطنه ، ولذا تفقده سليمان ، فقيل على لسانه : " مالي لا أرى الهدهد " ، ولم يتخلص من عقاب سليمان إلا بعد أن جاء من سبأ بنبأ يقين ( سورة النمل 20 )
إذن ، هذا هو البريد المائي الذي أتى به الهدهد ، والهدهد هو الذي نقل الرسائل بين الملك والملكة بكل ما في ذلك من خرافة وغرابة.
لكن التوسيع في قصيدة " الهدهد " الذي أشرت إليه منطلِق من فهم صوفي لوظيفة الهدهد ، ففي كتاب " منطق الطير " لفريد الدين العطار النيسابوري ( ت . 1230 م ) المفتاح لفهم هذه القصيدة ، حيث يرد في هذا الكتاب أن الطيور تسأل ( والرمز هنا للسالكين في درب الصوفية ) الهدهد ( أي المرشد ) عن كيفية السير في الطريق للوصول إلى سيمرغ - وهو طائر أسطوري أشبه بالعنقاء أو "... وسيمرغ هو مرموز الحق ( منطق الطير ص 346 )
وبعد المداولات بين الطيور قررت أن تختار لها إمامًا :
" تكملوا طويلاً مع الهدهد ، ولم يكن أحد أعرف منه بالطريق
سألوه يا أستاذ الفن : كيف نؤدي حق العمل ؟
فقال لهم الهدهد الدليل حينئذ : إن الذي يعشق لا يخاف على حياته ".
إذا بدأنا بمفتاح القصيدة : الهدهد = الدليل .
وإذا كانت في طريق الهدهد سبع مراحل للحضرة وهي : وادي الطلب ، ووادي العشق ، ووادي المعرفة ، ووادي الاستغناء ، ووادي التوحيد ، ووادي الحيرة العسيرة ، ووادي الفقر والفناء ، وبعده فليس ثمة مسلك أو طريق ، فنحن نقع في قصيدة محمود على أثر هذه الأودية : كوادي المعرفة ووادي العشق - تصريحًا ( ص 90 ) ، ووادي الطلب ووادي الاستغناء - تلميحًا .
لنتقص كيف يعرّفنا درويش الذي أراه الهدهد هنا ، ومحمود درويش ( أو القيادة الفلسطينية على معني أوسع ) يقول أولا :
" أأنا هدهد قال الدليل
أبحث عن سماء تائهة "
( ص 82 )
هو الهدهد الذي طار مع الأشعة والغبار ( لاحظ طباقية الموقف ونلازمه ) سيهتدي للنبع إن جف النبات ( ص 38 ) . وعندما يصارحه أتباعه الواقعيون : " لسنا طيورًا ) يجيبهم :
"لن تصلوا إلى النبع ...
الكل له والكل فيه وهو في الكل
ابحثوا عنه لكي تجدوه فيه ، فهو فيه "
( ص 83)
والهدهد يطير ويعرف حقيقة تتجلى :
وتحتنا طوفان نوح ، بابل ..."
( ص 84 )
يقول الدميري في كتاب " حياة الحيوان الكبرى " إن الهدهد كان طوافًا ومحلقًا ساعة الطوفان ،
ولذا يقول " الراوي الشاعر " :
" أنت بريد هذي الأرض " .
وهو يبدئ ويعيد في قوله : " وقبلنا الطوفان : ( ص 89 ) .
يتابع الراوي الشاعر ملحًا :
" يا هدهد الأسرار جاهد كي تشاهد في الحبيب حبيبنا" ( ص 85 )
ويطالب بما يلي :
أ- أخطفنا
ب- دلنا على الأرض السريعة
ت- دلنا على شجر ولدنا تحته
ث- دلنا سرًا ليخفي ظلنا
ج- دلنا على الطفولة.
وبعد أن يطلب منه الرفقة يسائله :
"لعلنا يا هدهد الأسرار نفتش عن طريق ؟"
يجيب الهدهد :
" اتركوا أجسادكم كي تتبعوني ( ص 89 )
. . . نحن عشاق وحسب " ( ص 91 )
وفي رحلة المدى خلف المدى ، وبرغم كل عناء نجدهم يتحاورون في بحث متواصل عن الطريق أو الخلاص أو الحق . ويقرر الجميع ضرورة المواصلة والمتابعة في عشق جامح . ويعد " الراوي الشاعر " ناطقًا باسم الطيور المحلق:
" سنرجع حين نرجع كي نراها
بعيون هدهدنا وقد مست بصيرتنا " ( ص 94 )
هو هدهد وهو الدليل وفيه ما فينا ".
لنربط بين الماء الذي يستجليه الهدهد وبين الحق الذي يقود إليه ، يقول " الراوي الشاعر " :
" لهدهدنا عروش الماء تحت جفافه تعلو ويعلو السنديان ".
.........
وله لهدهدنا خيول الماء تحت جفافه تعلو" ( ص 97 )
مرة تعلو عروش الماء ومرة خيول الماء . والهدهد هو الدليل ، وهو المرشد الذي اقترعوا عليه بمحض إرادتهم ، يسير بثقة ، ويجيب من يسأله في إحدى الحواريات :
" هل كنت تعرف أي تاج فوق رأسك ...
قبر أمي وأنا أطير وأحمل الأسرار
والأخبار أمي فوق رأسي مهرجان " ( ص 96 )
والأم أو الوطن – المرموز إليه – على رأس الهدهد أو الشاعر ، وحتى تتكامل الصورة نتذكر الأسطورة القائلة إن الهدهد لشدة بره لإمه جعل قبرها على رأسه . . . ولكن القبر في الأسطورة يصبح مهرجانًا هنا ، ويضحي أملاً مرافقًا.
إذن ، نحن أمام قصيدة أفادت من الصوفية " مسها العطار بالأشعار " ( ص 90 ) في تأكيد تشبثها بالبحث عن الحق وعن الماء الذي سيعلو بعد الجفاف وعن التاج / القبر ، حتى ولو كلف ذلك قطع الأودية السبعة، وأدى إلى نتيجة مجهولة في باطن الغيب ، فقدر الطيور أن تسير لأنها واثقة بالسير ، والشجر الذي ولدت تحته ، والطفولة والعشق تدعوك جميعًا لأن تواصل المسيرة بكل معاناتها ، لأن الذي يعشق لا يخاف على حياته .
* الحاشية : القصيدة الأخيرة من مجموعة أرى ما أريد
( في الصورة : الدكتور موسى مواسي مع الشاعر محمود درويش : صورة نادرة )
( 4)
محمود درويش كما عرفته
نبيل عودة - فلسطين – الناصرة
في أواخر سنة 1969 ، وكنت حينها أدرس في معهد العلوم الاجتماعية في موسكو- الاتحاد السوفييتي السابق، وصل لعلمنا ان محمود درويش حصل أخيرا على جواز سفر مؤقت ، لمدة سنة واحدة أو أقل قليلا .. لمغادرة اسرائيل الى موسكو .. إلى معهدنا . ( معهد الأحزاب الشيوعية كما كان يعرف ).
هذا الخبر شدني بشكل خاص. كنت أعلم وأنا في الوطن ، إن السلطات الاسرائيلية ترفض منحه جواز سفر اسرائيليا ، لأنها لا تعتبره مواطنا ، إنما مقيما ، ربما نزل من السماء ، في دولة اسرائيل ، وهذه المشكلة عانى منها الكثير من الفلسطينيين الذين هربوا من التصفيات العرقية في العام 1948 التي كانت تنفذ ضد المواطنين العرب الباقين في وطنهم ، ثم عادوا بعد هدوء الأحداث إلى وطنهم ، لاجئين ، مشردين في وطنهم بعد ان هدمت قراهم وصودرت اراضيهم ومنعوا من العودة إليها. وكان الجيش الاسرائيلي غالبا ما يجمعهم ويقذفهم من جديد وراء الحدود نحو الدول العربية . وقد خاض الحزب الشيوعي وقتها ، مع محامي الحزب المرحوم حنا نقارة معركة شعبية بطولية وقانونية لمنع تهجير اللاجئين في وطنهم .. وكثيرا ما منع الشيوعيون الأوائل تهجير أهلنا باجسادهم حين استلقوا أمام السيارات المحملة بالفلسطينيين الذين عادوا ولم يتسجلوا في سجلات دولة اسرائيل. واشتهرت هذه المعارك باسم معركة الهويات ، اذ كان الهدف الحصول على هوية زرقاء لمنع التهجير.
قضية الحصول على جوازات سفر ، حتى لمن لا توجد مشكلة حول مواطنته ، أيضا لم تكن سهلة ، وقد عانيت شخصيا من ذلك ، بسبب تسجيلي اني ساسافر للاتحاد السوفييتي ، ولم أحصل على جواز سفري الا بعد أكثر من نصف سنة وتدخل محامي من طرفي .رغم عدم وجود مشكلة ” قانونية ” حول مواطنتي !!
كنت في بداياتي الأدبية… كاتبا مبتدئا تشده رومانتيكية الأدب ، وكان يومها محمود درويش نجمنا الأدبي الأعلى الذي لا تخلو مهرجاناتنا من قصائده.
كانت قصائد محمود درويش قد بدأت تتحول إلى محفوظات وطنية نرددها .. وما زلت أذكر قصيدته ( سجل أنا عربي ) التي ألهبت الجماهير ، في معركة التحدي ضد الحكم العسكري المفروض على العرب في اسرائيل ، حين قررت السلطات إنشاء قوائم سوداء ضد “السلبيين ” من العرب ، والقصد ضد القوى الشيوعية والوطنية التي تناضل بلا كلل وبطولة ، ضد سياسة الاضطهاد القومي والتمييز العنصري. وكانت تفرض على هذه القوى الاقامات الجبرية وتحديد التنقل واثبات الوجود في مراكز الشرطة ، وهو ما عانى منه محمود درويش والعشرات من رفاقه لسنوات طويلة. وقد قيدت حرية تنقلي أيضا ولم أكن قد تجاوزت سن العشرين ، والمضحك أني وصلت بتصريح عسكري لا أشك أن محمود درويش وصل بتصريح مثله لمطار اللد ( بن غوريون اليوم ) وسجل تحت الهدف من الوصول للمطار ” السفر للاتحاد السوفييتي فقط “وكأنهم يحددون مكان وجودي خارج اسرائيل أيضا، رغم أني سافرت أولا لقبرص …وقد ُسجلت حتى الطريق التي يجب أن التزم بها للوصول إلى المطار مع ملاحظة تمنعني من الدخول للبلدات في الطريق ، ما عدا لمحطات الوقود … في مثل هذه الظروف نشط محمود درويش وكتب قصائد المقاومة ، في مفهوم التحدي للسلطات العنصرية الغاشمة ،والدفاع عن الحقوق القومية للشعب الفلسطيني من داخل الوطن المغتصب. وكانت القصيدة أهم من خطاب سياسي ، وخطاب مجند للنضال .. من هنا انا على قناعة تامة ان شعرنا المهرجاني الوطني لعب دورا تثقيفيا وسياسيا هاما لا يمكن مقارنته بأي شعر منصات آخر . لذلك حين تقييم هذا الشعر ، يجب ان نفهم ان حديثنا عن الشعر الوطني أو المهرجاني التقليدي ، له قيمة خاصة في الشعر الفلسطيني الذي كتبه الشعراء العرب الفللسطينيون في اسرائيل . قيمته تتجاوز فنيا أيضا ، كل الشعر الشبيه الآخر الذي كان يغرق فيه الشعر العربي .
كانت المهرجانات الشعرية تتحول إلى مهرجانات سياسية نضالية حتى بدون خطابات وشعارات حماسية … كان الشعر زادا ثوريا ثقافيا للجماهير ، وحين أستعرض واقعنا الثقافي اليوم اصاب بالصدمة … كم تغيرنا ، كم تراجعنا ، ليس سياسيا فقط ، بل ثقافيا ايضا … اليوم ندوة شعرية صار عدد الشعراء فيها أكثر من عدد الحضور .. ولكن ذاكرة شعبنا لا تنسى ، حين حضر محمود درويش إلى حيفا ، قبل أشهر قليلة ، امتلأت القاعة لتسمعه ، وعدد الذين لم يحظوا بتذكرة دخول للقاعة كان أكبر من عدد الحضور .. حقا كانت أمسية نوستالجيا ( حنين ) أيضا… حنين إلى الماضي القريب ، الماضي الطاهر .. كلمة وموقف وشعار وقصيدة.
لم تكن معرفة سابقة شخصية بيني وبين محمود درويش ، رغم اننا كنا من نفس الموقع السياسي ، وكان محررا للمجلة التي اعتبرت فخر ثقافتنا المحلية.مجلة “الجديد” التي تعتبر ايضا من افضل المجلات الثقافية العربية على الأطلاق. ولا ابلغ بالقول ان الجديد كانت جامعة ثقافية لعشرات المثقفين .. وما زلت أعتبر نفسي خريج هذه الجامعة الثقافية ، التي لعبت دورا تقافيا سياسيا هاما ، في كسر دائرة التجهيل بتراثنا العربي ، وكسر عزلنا عن الثقافة العربية .. وتنشئة جيل جديد من المثقفين بعد النكبة .
كنت أعرفه من المنصات ويعرفني من القصص التي ارسلها للنشر في الجديد … وقد شعرت بتوتر من لحظة اللقاء مع محمود درويش وانتظرتها قلقا من طول الدقائق …
وصل محمود درويش إلى موسكو ، ونقلوه كالعادة إلى “الداتشا ” – قصر للنقاهة في الجبال .. حيث كانت تجرى الفحوصات الطبية لكل الوافدين للمدرسة الحزبية في موسكو.. قبل نقلهم إلى الداخلية وبدء برامج التعليم في المعهد.
ذهبنا ، نحن الطلاب – الرفاق العرب من اسرائيل لزيارة محمود درويش ورفاقه في ” الداتشا ” .. وكانت تلك اول مرة ألتقي به وجها لوجه ، ونتعارف ، ونتبادل التصافح بالأيدي .
راقبت كل حركات محمود درويش لسبب لا أفهمه، ربما لأفهم العلاقة بين هذا الانسان الهادئ الوديع ، الذي اسمه محمود ، وله مظهر الانسان الحالم … وبين شعره المتفجر بنار الغضب والثورة والجرأة . ربما توقعت ان أرى انسانا حديديا رهيبا لكلماته فعل الرصاص … ولكني وجدت إنسانا حلو المعشر ، حديثه عذب جذاب ، يحب الحياة ، يضحك بطلاقة ، رقيق لأقصى ما تحمله الرقة والدماثة من معنى. له مظهر حالم كما قلت ، وربما حتى بعض الحياء.
هذا هو انطباعي الأول عنه .
وسألت نفسي وقتها : ترى هل وراء هذا الإنسان الرقيق الهادئ ، الذي يرعب دولة اسرائيل .. يختبئ أسد متوثب ، مرعب ؟!
هل حقا هذا هو محمود الذي سجن وعانى من الاضطهاد ، والحبس المنزلي وتقييد حرية التنقل لدرجة عدم السماح له بزيارة أهله على بعد نصف ساعة سفر من حيفا؟!
هل هو محمود نفسه ، الرافع لراية شعبه ، المعبر عن مآسيه ، من النكبة حتى مجزرة كفرقاسم الرهيبة ( 50 ضحية ) ومقتل الشباب العرب الخمسة والتنكيل بجثثهم بصورة وحشية ، وغيرها من مآسينا المتواصلة ، مثل مصادرة أراضينا ومنعنا من العودة إلى قرانا المهجرة ، وتقييد حرية العمل ؟!
أعرف أن بعض ما أكتبه اليوم يبدو كتابة عن عالم آخر .. مساحة الحرية اليوم واسعة جدا .. القيود تحطمت .. رغم استمرار سياسات التمييز العنصري ، إلا أننا أنجزنا بنضالنا مكاسب تبدو اليوم شيئا عاديا لا يحتاج إلى تفكير ونضال. ولكن الويل لشعب ما زال مشردا في وطنه وخارج وطنه ، من الاطمئنان لمنجزاته ، واعتبارها أمرا لا عودة عنه ، لأن القوى الفاشية ما زالت تتحين الفرصة للانقضاض على ما انج زناه وما حققناه من قامة مرفوعة .. ما زالت الحية الرقطاء حرة طليقة … وما زال وجودنا مشروطا باستمرار يقظتنا ، ويقلقني ظن البعض إن التاريخ لم يبدأ إلا بهم ، متجاهلين ما أنجزه الشيوعيون والوطنيون الأوائل ، وما دفعوه من ثمن شخصي مأساوي بكل الحسابات. كانت القيادة تعني السجون والملاحقة والنفي ، والمسؤولية عن مصير شعب . واليوم صارت تزعما غبيا وشعارات خاوية من المضمون ، وتحزبات شخصية داخل التنظيم الواحد ، ومكاسب انتهازية شخصانية لا ترى ابعد من انفها. ومظاهر كاذبة ، وتبوؤ الصدارة بشكل يبعث على السخرية والقرف .. حين تعرف إن متبوء الصدارة كان جبانا ، منعزلا ، عميلا لأحزاب صهيونية .. وحين صار النضال مكاسب ومراكز ، ومنافع شخصية ، تغير الوضع ، ولكن شعبنا الطيب يعرف الزؤان من القمح.
هذه الأفكار تراودني اليوم وأنا أستعيد ما سجلته عن لقائي الأول بمحمود درويش .
وسالت نفسي أيضا : هل حقا هو محمود نفسه الذي أطلق عليه شعبنا لقب ” شاعر النكبة “؟!
قلت كنت في بداياتي ، وكان محمود قد بدأ اسمه يسبقه أينما ذهب.كان العالم العربي منبهرا بشعره وشعر زملائه لدرجة تجاوزت المنطق. . مما جعله يطلق صرخته الشهيرة وقتها ، عبرمجلة الجديد : ” انقذونا من هذا الحب القاسي” . كأنها كانت نبوءة لخطر العشق العربي بلا منطق لكل ما ينتجه أدبنا المحلي .
شعرت بالرهبة والارتباك وأنا بالقرب منه ، اسما مبتدئا لا يعرف لغة التودد ، ولا أعرف أن أبني علاقات على أساس المنفعة الذاتية ، أو التعلق بسماجة بالآخرين .
بعد الفحوصات وانتهاء الترتيبات المختلفة ، التحق محمود بمعهدنا.
لا أدري كيف ذاب الثلج بيننا ، وكيف استقرت العلاقة الفريدة التي جمعتني به في المعهد .ولكنها لم تستغرق غير أسابيع قليلة على ما اذكر.. حتى استطعت التخلص من ارتباكي والحديث الحر معه ..
سحرتني شخصيته بوداعته التي تبلغ حد الطفولة.ومع ازدياد معرفتي به ، كنت أكتشف أمامي معدنا صلبا نقيا ، إنسانا حقيقيا لا تتنازعه الميول الطارئة ، ولا يبني علاقاته إلا على أساس الاحترام .
قلت إني لا أذكر تماما كيف تطورت علاقتنا . ولكن الواضح أن وجودنا في نفس بيت الطلبة ، وفي نفس المعهد ، وفي نفس طبقة بيت الطلبة ، وفي فرقة واحدة لا يتعدى أفرادها الثمانية … جعل المسافة بيننا تتقلص ، واللقاء اليومي بدا يولد تفاهما في الذوق والميول وحب الحياة ، بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني .. إلى جانب معرفتي الجيدة نسبيا باللغة الروسية وبالعاصمة موسكو ومطاعمها الجيدة وحدائقها الجميلة وشوارعها وسائر تفاصيلها … وقد اكتشفت أن هذا الإنسان الحالم لا يحفظ الشوارع بسهولة ، ولا يحب التقيد بنظام بيت الطلبة الذي يحدد ساعات بقائنا خارج المنزل حتى الحادية عشرة مثلا ، حيث كان الحارس للمبنى يغلق الأبواب ومن يتأخر يواجه مشكلة الدخول ، ثم تنبيها وانتقادا .. ألخ. في أول سهراتنا بالخارج أخبرت محمود بهذا التحديد. . فرفضه ضاحكا معبرا عن أمنيته التي طالت بقضاء سهراته خارج غرفته لساعات الفجر. ففهمت انه يعني أن هذه فرصة العمر ، فبعد سنة سيعود إلى حيفا والى الحبس المنزلي بعد غروب الشمس وحتى شروقها، حسب قانون الطوارئ الانتدابي الذي واصلت اسرائيل فرضه على المواطنين العرب. ولتذهب كل التقييدات إلى الجحيم!!
حاولنا أن نحصل على إذن بالبقاء خارج المنزل لوقت أطول ، فلم ننجح ، فوجدنا طريقة لا يمكن أن تفشل ، بإهداء الحارس للمبني ، قنينة فودكا كلما شئنا أن لا نعود في الوقت المحدد … كنا نعلمه مسبقا .. وكان دائما على استعداد للتغاضي عن موعد عودتنا . وهكذا نجحنا في التحرر من قيود النظام .
كان جليا أن متعته الكبرى أن لا يعود للمنزل قبل الفجر.كأنه يقهر شرطة اسرائيل بسهراته حتى الفجر هنا في موسكو.
في موسكو التقى محمود درويش بالناقد والمفكر اللبناني حسين مروة ، الذي كان يعد رسالة الدكتوراة في نفس المعهد. والذي اعتبر في وقته ( 1969) محمود درويش كأبرز شاعر عربي معاصر. في مداخلة قدمها في إطار المعهد إمام أساتذة وطلاب المعهد .
التقى محمود درويش في موسكو بعدد من أدباء العربية ، بقي في ذهني منهم الكاتب السوري سعيد حورانية ، الذي كان يحرر أسبوعية ” أنباء موسكو ” باللغة العربية ، حيث كنت أنشر قصصا ونشر محمود احد قصائده الجديدة التي كتبها في موسكو ، وأظن أنها كانت انتقادا لأنظمة عربية تعاملت معنا كعملاء للصهيونية. كذلك التقى مع الشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن، و مع الناشر اللبناني ، من دار العودة ، محمد سعيد محمدية ، والأديب اللبناني د. سهيل ادريس صاحب الآداب اللبنانية ، والكاتب اللبناني محمد دكروب ، محرر مجلة “الطريق” اللبنانية وغيرهم تفوتني أسماؤهم … وقد حضر بعضهم إلى موسكو بعد انتشار خبر وصول درويش إليها ، خاصة ادريس ومحمدية بهدف الحصول منه على حقوق نشر أعماله ، إذ كان الناشران على خلاف قضائي حول حقوق نشر أعمال درويش في لبنان ، رغم عدم حصول أي منهما رسميا على هذا الحق.
قضيت أكثر من نصف سنة مع محمود درويش ، في لقاء يومي وأحاديث يومية ، للأسف لم أسجل أيا منها ، وبعضها كان يتعلق بأدبنا المحلي ، مشاكله ومشاكل تطويره ، والتجديد في الشعر ، وقد بدأت ألمس من وقتها انطلاقة محمود درويش نحو ما بات يعرف في شعره اليوم بالفضاء الإنساني العالمي … خارجا من مرحلة الشعر الوطني التقليدي . وقبلها شعره الغنائي الغزلي بمعظمه …
لا أقول هذا للتقليل من مرحلة الشعر الوطني ، أو أن محمودا لم يعد يكتب شعرا وطنيا ، ولكن حتى في شعره الوطني بدأت ملامح الفكر الإنساني الشمولي تأخذ مساحة هامة في كتاباته .
صحيح أني أتحدث عن ذكريات بات عمرها اليوم أربعة عقود ، وقد نشرت بعض تفاصيلها قبل عقدين من الزمن ، وهي التي اعتمدتها في هذه المراجعة ..
في موسكو كتبت عدة قصص جديدة ، كان محمود أول قارئ لقصصي ، وعدلت بعضها حسب ملاحظاته ، وأذكر انه تحدث بايجابية مع حسين مروة حول كتابتي القصصية ، لدرجة جعلت حسين مروة يطلب مني مجموعة لينشرها في لبنان ، كذلك لجريدة الأخبار ومجلة الطريق التي يصدرهما الحزب الشيوعي اللبناني.
لسبب لا أفهمه اليوم ، لم أستغل الفرصة لنشر أعمالي في مجموعة قصصية في لبنان . ربما خوف المبتدئ ومسؤوليته سيطرت علي . وقد حثني حقا محمود درويش بأن استجيب لطلب حسين مروة ، وعشت ترددي ، وأعتقد أني ارتكبت أكبر خطأ ثقافي بعدم استغلال الفرصة التي فتحت أمامي ، لم أفهم هذا الأمر ألا بعد عودتي للوطن ، وظواهر التجاهل المهين لنا نحن الأدباء الشباب . من حزبنا وحركتنا النقدية … وطال الوقت حتى نجحت بعد جهود غير سهلة ، شخصية ومادية ‘ من إصدار أول مجموعة قصصية ، وقد جاء إصدارها مهينا من ناحية الطباعة والمنتجة والغلاف، وخسارة عشرين عاما كاملا .
في ذكرياتي عن لقائي بمحمود درويش تختلط أمور كثيرة .. هناك ما أعتبره من المسائل الذاتية جدا التي لا أحب الخوض فيها.
عندما سمعت ، بعد عودتي بشهر أو أكثر محمود درويش يعلن عبر إذاعة القاهرة ( 1970) انتقاله لموقع آخر ، حزنت وفرحت في نفس الوقت. حزنت لفقداننا هذا الركن الهام في شعرنا المحلي ، وفرحت لانطلاقة النسر من أسره. بنفس الوقت لم أتفاجأ من خطوته. ربما يصعب علي تفسير ذلك ، ولن أحاول تفسير خطوته التي لم تفاجئني.لأنها قد تحمل الكثير من باب التأويل ، وهذا لا أحب التطرق إليه ، لأني إذا لمست بعضه ، فذلك بسبب قربي الشخصي من محمود في تلك الفترة. وهي تقع في باب ذاتي وموقف محمود بأني أهل للثقة .
كتبت النص الأول عن لقائي مع محمود قبل عشرين سنة ، وبعد عشرين سنة من ذلك التعارف الذي جعلني أفهم الأدب أكثر من مجرد أسم في جريدة .. أو نص لغوي جميل … وبلا شك أن وجود محمود درويش في نفس المعهد ، وما أثاره وصوله إلى موسكو في وقته من اهتمام واسع ، حفزني على المزيد من الإبداع ، ومن جعل الإبداع والفكر والنشاط الثقافي عامة مبدأ ومنهجا لحياتي . وكان الطلاب العرب يتساءلون عن مكان درويش في موسكو ، وكثيرا ما عرفوه في الشوارع ونادوه باسمه ليحيوه بحب وتقدير ما رأيت مثله في حياتي.
الانعكاس الأساسي علي انه جعلني أفهم الأدب كالتزام واع بقضايا الناس وتطلعاتهم ، وان الوطني حقا هو إنساني بالمقام الأول أيضا.
اليوم حين أنظر لخارطة العالم العربي الثقافية ، وارى المكانة المرموقة لمحمود درويش ، ودوره الطليعي في خريطة الشعر العربي ، واسمه الذي صار عنوانا لقضية ، وطنية وإنسانية في نفس الوقت ، أفكر وأقول لنفسي : ألا تبدو كتابتي عنه نوعا من التزلف والتفاخر الأجوف؟!
ليس من طبيعتي شيء من ذلك .ولكنها حقيقة أفخر بها وأعتز بها .
اليوم حين نودع سنديانتا الشعرية .. وحلمنا ونموذجنا الأعلى … أشعر كم سنبقى مقصرين ، بحق الإنسان والشاعر .. المتألم لآلام شعبه ، والذي ترك في نفس كل واحد منا شيئا من ذاته .شيئا من طهارته. شيئا من إنسانيته وشيئا من تحديه …
سيبقى محمود درويش علامة فاصلة لشعرنا ، لثقافتنا ، لإنسانيتنا ، ولقدرتنا على مواصلة الابداع .. ومواصلة التحدي والنضال لتحقيق الحلم الكبير لمحمود ولشعب محمود ، بإقامة دولة فلسطين الديمقراطية ، بيتا دافئا للشعب الفلسطيني ، ويكفي فخرا لشعب فلسطين شاعرهم القومي الإنساني ، الذي صار اسمه مرادفا لما هو جميل وراق في الأدب العربي والعالمي كله.
( 5)
وقـتٌ لبكاء الأصابـع
منير محمد خلف . سورية
إلى نبض إيقاع الشعر( محمود درويش )
جُبتَ الجهاتِ
فخانتِ العتبـاتُ
أسبابَ وصلك
وانحنتْ دمعـاتُ
يا حاديَ الكلمات
في ليل الأسى
ما أنتَ إلا
ضوءها وصفـاتُ
إن كنتَ قد أرّختَ
موتك هادئــاً
طوبــى لهذا الموتِ
فهــو حيـاةُ
ولئن تركتَ
حصانَ صمتك مفرداً
فلأنـه جمـعٌ
وأنت كُمـاةُ
أهزمتَ يا موتُ
الفنونَ جميعَهــا
وتركتهـا يُتْمـــاً
وهــنّ عـراةُ ؟
فلمَنْ سنسمع بعد فقدك
يا أبــا الإبداع ..
أنت رحيقـه والذّاتُ ؟
منحتكَ أحزانُ الحياة
حليبَها ،
فتناوبتْ
في حملك الآفـاتُ
أبدعتَ حنطتنـا
وليلَ جفوننـا
وأقمتَ فينا مـا
طـواهُ سبـاتُ
ونثرتَ شعرك
في دروبٍ جمّةٍ
فتزاحمتْ
في خطوك الطّرقـاتُ
حاولتَ أن تصغيْ
لنبض فراشـةٍ
تُركتْ على آثارهـا الخفقـاتُ
واصطدتَ في حلك الهزائم
غيمةً بيضـاءَ
غطّتْ عطرَها الصبواتُ
عسليّة المعنى
تفتّحُ صبحَها
فتقوم من نبض الشّذا الكلماتُ
أنشأتَ من شمّ الحروف
بلادَنـا
نحن الصغار
أمام بيتك باتُـوا ،
واستمتعوا بربيع صوتك
وانتشَوا
وصفَتْ لهم
بنبيذك الحالاتُ
تتسلّقُ الشّجراتُ ظلّكَ ..
إنها سُحِرتْ
بيوسفِ ظلّكَ الشّجراتُ
ولأنت في أفق الكلام صلاتـه
وسماؤه المغناجُ
والميقـاتُ
ما فاتَ قلبك
أن تطيرَ حمامةٌ
إلا وأنت
أوانُها وفـواتُ
لا تعتذرْ عمّا فعلتَ
من الغيابِ ،
فكلّنا والقادمون رفاتُ
" محمودُ نصِّكَ " واحةٌ
شمعيّة المَرأى ،
وموجُ حريرها العَبَراتُ
درويشُ !
صمتُك صائدٌ وغزالةٌ
والسّهمُ بينهما
هـوىً ودواةُ .
مستقبلُ الكلماتِ
ينحَتُ مجدَه
من ميمك المحمود
وهو شتـاتُ ،
مستقبلَ الإبداع كنتَ ،
ولم تــزلْ في الأرض
تخطفُ وهجك المَلَكاتُ
تتأمّل اللحظاتِ
وهي غوافلٌ
لتهيمَ في وقت الخيال بناتُ
فمديحُ ظلّك
للعراء عباءةٌ
وأقلُّ وردك
لليراع هِبـاتُ
يا أيّها المرئيّ والمخفيّ !
فينا قد سكنتَ ..
فعزّتِ الحركـاتُ
حرّكتَ أرضَ المفردات
فغرّدتْ في أصغرينـا
حاجـةٌ وصِـلاتُ
وهززْتَ نخلَ الذكريات
فطاب في ذاك السّرير
بلاغةٌ وثبـاتُ
ها قد وصلتَ إلى الحضور
لكي تكمِّـلَ نقصَنــا ..
أو تزدهـي الخطواتُ
أجيالُ نهجكَ شُرّبوا
من ضوئه
وتعرّفتْ في ليلهم
نِكَراتُ
كم نهـرِ إشراقٍ !
حرسْتَ ضفافه
فتورّدت في الجانبين لغـاتُ
قنديلُ صوتكَ
لم يزل في دربنا
يمشي بنا ..
إذ تختفي الأصـواتُ
لم تبتعدْ عن أرض شعركَ ،
إنما خانتك
قبل الذّكريــات
جهـــاتُ
*******
( 6)
أيـّهــا الراحــلُ عنّـا
عمر سعدي – فلسطين .
درويـشُ اسمٌ مـن مفــرداتِ اللـغة ، عـاش الحــلُم مرّتين وفي المرتـــين لم يتحقق من الحــلم غير الاستــيقاظ عــلى عجــل.
درويـش لــغةٌ بـلا لُغـة وعــنوان بلا عُنـوان، وطـنٌ صغـير في الديــار الهـاربة ، وصـوتٌ شحـيحٌ لضـوءِ القـمرِ ، يحـتَرقُ بِفكـرهِ لكـي يوقـظ عـنفوان الأمـم. مـحمـود درويــش ريشـةٌ أخـرى تُلاطفُ خـدَّ ذاكَ الأفـق وتمنـحُ طيـر هذا الزمــنِ المرهـون للأحـلام يقظـتهُ الطـويلة .
درويــش كـان سفـينة للشـرقِ تحمِلُ فوقـها وجـع البحـار وأغـاني يطـرب الأشرارُ مِـن وَقـعِ خُـطاهـا ومــرايا تَكسِرُ الإيقاع حتـى تولـدَ الكـلمـاتُ مِن رحـمِ القضـية وكـأنَّهـا قضـيتُهُ لِوحـدهِ .
محمـود درويـــش ؛
اسمي
وإن أخطأت اسمي..
بخمسة أحرف أفقية التكوين لي
ميـم المتيـم والـميتم والمتمم ما مـضى..
حاء الحديقة والحبيبة حيرتان وحسرتان
ميـم المغامـر والمعـد المـستعد لـموته..
الـموعود منفيا مـريض المشتهى
واو الـوداع ؛
الـوردة الـوسطى
ولاء للـولادة أينما وجـدت
ووعد الوالدين ...
دال الدلـيل الـدرب دمعه..
دارة درسـت ودوري يدللـني ويدميـني
وهذا الاسـم لــي ولأصـدقائي أينمـا كانوا...
ربـَّمـا كـانَت الأضـدادُ تمنــحُهُ الهـوية فالـحروف العـابـراتُ كظـلِّهـا من شُـرفةٍ لـم تعـرف من اللغـة إلا المُـفردات النـاعِسـة فكـما كـانت تقـودهُ لكتـابة الأشـعار كانت هـي الأخـرى تُطـلق لأفـكاره العنـان بحـثاً عن هـويةٍ مؤقتــة وكأنَّـهُ عرفَ آنـذاكَ بأنهُ سيمــوتُ منـفياً وأضــرَم فـي مُخـيلتـهِ الخصيـبةِ نـار التـأمل المـرهـونِ بالأيـامِ نضـالاً أبـدياً .
عـرفتُ محمـود درويـش عنـدما سجـل للمـرةِ الأولى اسمـهُ في جـوازِ سـفَري ، فـسجَّلـتُ مِثـلهُ "أنـا عربـي ورقم بطـاقتي خمسـون ألفـاً" ولـم يحـن وقـتُ السفـَر إلا وكـانَت الأضـدادُ تُعـرقلُ التـرحـال وتخـلِّي البـال في فوضـاهُ حـتى بـدأتُ أبحـثُ عن وطـنٍ فـي الوطـنِ الأسـود والـذي بقـيتُ أحسـبهُ مُـعَبَّداً إلى لحظـاتي تـلك مستـأنِسـةً بنبـضٍ يتبـاطأ تـارةً تـلوَ أخـرى.
اتَّخــذ محمـود درويش الحُـلم مسـكنهُ وحيـاتهُ فتـلاشى الحُلم وبقـي الشـاعـرُ القـلم يحـنُّ إلـى صفـحاتِ الأمـةِ البيـضاء كي يكتُب فـوقها مـا يشاء فبقــي صغـيراً ينتظـرُ الصـدى حـين يعـودُ مرمـياً عـلى ضوضــاء الأرصـفة ودخــان الميــادين المطمئــنة فكـان حنـينُهُ رمـز التمـرّد والتكـاثُف فـي دخـان الضـوءِ والمـاء الذي ترسـو فيهِ مُعـظمُ الكـلمات كمـلحِ الزمـن العمـيقِ الذي تتـحدُ فيـهِ مُعـظَمُ التسـاؤلات وتختفـي مِن خلالهِ جمـيعُ الأسئلة.
أخـذَتنا الغفـلةُ بمـا لدينـا وفرحـنا لَمَّا نسيـنا ولكنّ اليقـينَ النابتَ كالعُشبِ البـريِّ زادَ مـن صحـوتنا قلـيلاً وأبقـانا على أعتـاب دُنــيا غـريبَة الأطـوارِ تمنَـحُ العاشقينَ محبَّـتهَـا التي لا تكــفي كـي تُصـبحَ سلاحـاً فـي وجـوهِ الجبـناء.
درويــش؛
أنـتَ التعـلُمُ والتـألُّمُ
أنـتَ إيـقاعُ الشظـايا وانقـطاع الأزمِـنة
أنـتَ انهـيارُ الذاتِ في قلبِ المرايا المُعـتمة
زهـرةُ الأيـامِ ضـاعَت في حكـايات الزمان
والهـوى انهـار عـلى الريحِ دُخـان
فصـباحُ الخـيرِ للذكـرى
وصــباحُ الخـير يا أيـها الإنسـان
ويبقـى القـلَمُ الهـوية فـاغراً فاهُ ، ملاقـياً تضـاريسَ اللغـة ومُقتحمـاً صـدرهـا الراقِص مُعـلناً صَمـتَهُ الأبـديّ في انتظـارِ صمـتٍ يُطـرقُ رأسَـهُ مِن جــديد بـاحثاً عـن "موضـة جديدة" للفـكر وآخـذةً كيـان القُـنبُلـة فـي سمـاء السـرِّ العمـيق.
محمـود درويـش حـينَ تحـدّى لـم يتحـدى عـدوَّهُ فحـسب بـل حمَّـلَ نفسـهُ الثـورَة وانقـلاب الأزمـنَة وتمـادى في التـدحرُجِ مِن فـوقِ القـممِ الشــامخـة وعـاوَد الكـرَّةَ مرَّاتٍ عديـداتٍ ليصـرعَ سيـِّد الأزمـان ، فوحـدهـا الأزمـان تحمـل الأبطـال فوقَ أكتـافهـا وتمضـي بهِـم إلـى أوَّل مقــبرَةٍ للفـكرِ وتترُكُـهُم هُـناك.
كشـظـيةٍ في الأرضِ ودَّعـتَ الـوطَن الـذي لا زِلـتَ تَبحـثُ عُنـهُ وكـنتَ واثـقاً كـلَّ الثـقة بأنَّـهُ ليـسَ موجـوداً إلا فـي خيـالِك وبقـيتَ تُـصوِّرُهُ للنـاس حتـى صـار جـزءً حقيقياً مــنا وصـار حُـلمَكَ هـو هـويتـنا الأخـيرة.
فـي وسـطِ الضبـاب المجهـري وقـفتَ تُـناضل وعـرفتَ معــنى الضـياع فـي سنـواتٍ تُجــنِّدُهـا الـدموعُ فجـاهـدتَ بأوَّل دمعـةٍ عرفـت عينـاكَ وبقـيتَ تحفـرُ خـندق الفـكر لتـوصل لنـا الحِكمـةَ العُـليا كي نُـروِّض أفكـارنا ونحـلمُ من جـديد.
أنـا لا أمـلكُ لـغةً أتخطّـى فيـها حـاجِز الصـمتِ ولا حتـى حـاجزَ المـوتِ الأخـير، تهتــزُّ مـن فـوقي المعـاني باتجـاهِ النصِّ العنـيد ، تَلفحـني قـوةَ الخيـالِ بنـوبةٍ أخـرى من الصمـتِ ـ لعلـَّك كُنتَ تُـدرِكُ بأنَّ الصمـتَ سِلاحـنا الأخـير ... وبقـيتَ تصـرخُ حتى النبـضة ألأخـرى لـديكَ وبقـينا بـانتظـار قصـيدةٍ أخـرى نقرؤهـا بتمعـنٍ فنـدركُ بأنَّـكَ الآن لـستَ هُـنا .
محـمود درويــش؛ يـا سيـِّد الأبـطالِ تعـال فالعنـاقيـدُ المدلاةُ تحت دالـيةٍ بـبـابِ البـيتِ فـي هـذا الجـليل لا تُـريدُ النـُضج إطـلاقاً مُنـذُ أن تَـركتَهـا ، تَـفتَحُ البـاب علـيها كي تُطـلَّ الشمـسُ تـدريجـياً فتنسـاكَ واقـفاً تحــت العـريشَـةِ تُــحاوِلُ أن تقـطفَ لنفـسكَ آخــرَ وطــنٍ نسجـتهُ أفكــاركَ وتـرَكتَ حُـلمكَ للأبـد .
لسـتُ أدري، أأعـزّي الــذات لمـوتِكَ أم أولـدَ مــن صمـتِكَ الأخـير، هـل أرفـعُ الذكـرى بيــاناً عـالياً فـي وجـهِ هـذا الزمـنِ المشـغولِ بهـراء الأيـام أم أدَّعـي الحُـزنَ وأبـكي مثـلما اعتادت أمَّتـي أن تفعـل . سأنتـفض مِـن لعـنَةِ الدنــيا عليـنا، سـوفَ أبـني مـوطناً فـي خـيالي يُشبـهُك ولُغـةً تمتـدُ من الحـرفِ إلى الحـرفِ وأمـنحُ الأيـام صحـوتهـا الجديدة.
يــا مـرايا الحـزنِ فلتتكسـري
قِـطعاً من اليـاقـوتِ تَـرصُـفُ أسطـري
ودَعـي الأزقـةَ ترسـمُ باسمـنا صـوراً
فـهل تتصـوري ..
وتـذكـري لغـةَ التـأمـل والتــفكـر
والتــذكــر والـتتابُع والتـكاسل
وتذكـري
أن الحيــاة قصــيدة أخــرى
نحـررهـا ونمــضي في الفـراغ كأننـا
لـم نكـُن يومـاً
فـي الحيـاةِ ... فهــل تتصـوري ..
إلــِى جـنان الخـلد يا شــاعِر الوطـن
يــا سـيِّد الحـرف المُعَـبِّرِ فـي تضـاريس الوطـن
وعـلى الدنـيا مِن بــعد صوتــكِ السـلام .
( 7)
يعجز الرثاء عن رثائك
فاطمة الزهراء بنيس( المغرب )
مثلَ قدّيسٍ
لوّحتَ
بيد بيضاءَ
ورحلتَ
بشغافٍ مُتعبٍ
و جسد شامخٍ
في حضرة الغيابْ
مثل قدّيسٍ
حلَّقتَ
حالما بالعودة
إلى أرض النزوحِ
و اللعب بالحجارةِ
من أجل نصر خاسرْ
و هزيمة موعودة ٍ
بالنصر المُبينْ
مثل قدّيس
تلوتَ
وحيَكَ الأخيرَ
فَجُنّتْ بك السماء
قطفتكَ
من رحم المجاز
إلى عرشك الأبديّ
مطرّزا
باستعارات مائيّة
غفوتَ
مثل قدّيس
يعجز الرثاء
عن رثائكَ .
==========================
(8)
العَلْقَم...
سيمون عيلوطي ( فلسطين )
محررموقع ( الموقد الثقافي ).
تذكَّرتُ وأنا أقرأ هذا الكم الهائل من الكتابات التي تطل علينا كل يوم من قبل العديد العديد من الكتَّاب والأدباء يتحدَّثون فيها عن الشاعر محمود درويش بعد مغادرته لنا. أقول : ذكَّرتني هذه الكتابات بحكاية رواها لي المرحوم والدي عندما كنتُ صغيراً.. مفادها أن الشخص الكبير وصاحب الجاه والنُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّفوذ، يحاول الجميع التَّّقرب منه ومصادقته..بل حتى من تربطه به صلة قرابة بعيدة تخص جد جد الجد، يُظهِر نفسه وكأنّه ابن عمه(البدري) اللزم ، بهدف الإستفادة من سلطانه ونفوذه، في حين يتنكَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّر ويتهرَّّّّب ويخجل من أخيه إذا كان فقيراً معدماً، خوفاً من أن يسأله ذات يوم عن حاجة ما. ولما رأى انفعالي ودهشتي مما سمعت، ألحقها بحكاية أخرى، قال اسمع يا بُني: النَّجاح له مئة أب ، ذلك لأن الجميع يدَّعي بأنه صاحب الدَّور البارز في تحقيقه..، أما الفشل فيتيم، الجميع يتهرَّّّّّّّب من الإعتراف بالمسؤولية عن حدوثه .
ولأن محمود درويش شاعر كبير، ابتليَ ( وكان الله في عونه) بأن أصبح "من الواجب" على كل من عرفه أو لم يعرفه، وعلى كل من قرأه أو لم يقرأه، وكل من آمن بطريقه أو من أشاح بوجهه عنه خوفا على وظيفته من هذا الطَّريق،أن يكتب عنه كلاماً الكثير منه لا" يسمن ولا يغني عن جوع "، ولم يتوقَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّف الأمر عند هذا الحد، بل أصبحت تقام الندوات والمنصًّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّات يتحدَّث فيها كل من ادَّعى أنه على صلة به أو على اطِّّلاع على شعره ، وأنا أستغرب أن كاتباً رفض أن أقرأ قصيدة أهديتها لمحمود درويش في أحد البرامج الإذاعية التي كان يقدِّّّّّّّمها ، وذلك خوفاً على وظيفته من اسم محمود درويش ، يكتب عنه اليوم ،(بعد تقاعده طبعاً) مقالة يشعرك فيها وكأنَّّّه من أقرب المقرَّّّبين إليه ، والأدهى أن كاتباً آخر انسحب من ندوة شعرية أقيمت في بيت الكرمة في حيفا، لأنني أعلنتُ أنني سأقرأ قصيدة وطنية في هذه الأمسية ، ولم تنفع معه شفاعة عريف النَّّّدوة آنذك ، طيَّّّّّّّّّّّب الذِّّّّّّّّّّّّكر الشاعر مؤيد إبراهيم ، فأصرَّعلى الإنسحاب لأنه كان مدير احدى المدارس ويخاف على موقعه هذا أن "يطير من بين يديه"، والغريب العجيب أن هذا الكاتب اليوم ، وبعد غياب شاعرنا الكبير ، نراه يُفيد من هذا الغياب ، (فمصائب قوم عند قوم فوائد) والذي تزامن بعد تقاعدة ومحاولة تقرُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّبه من المنابر والوطنية.. فأصبح يكتب في الصُّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّحف التي كان يخاف أن (يجيب سيرتها) بالأمس ، ويتحدَّث في النَّدوات عن علاقته الحميمة بدرويش بعد أن منعَ توزيع كُتبه على المعلِّّّّّّّّّمين في مدرسته، إلى درجة أن درويش لم يكن يعرف تناول طعام العشاء – كما يقول - إلا بمشاركته له ، وأنا على يقين من أن الصحف التي تنشر له والقيِّمين على النَّدوات الذين يدعونه، لو كانوا يعرفون عنه هذه الأمور لما جعلوه يظهر بمظهر (دلِّّّّّّّّّيلوني ما إلْكو غيري) ولما دعيَ كذلك إلى مثل هذه المنابر والمنصَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّات ، وأعرف أن من تركه بعد التخرج من المدرسة ، لينتسب إلى حزب صهيوني بهدف الحصول على وظيفة معلِّم ، أصبح اليوم ، وبعد أن تقاعد ولم يعد بحاجة إلى ذلك الحزب ، إذ ضمن المعاش ، فأخذ يُظهر نفسه وكأنه أقرب إلى محمود درويش من محمود درويش إلى ذاته . والملاحظ أنهم لا يتحدَّّثون عن شعر محمود درويش ، أو عن ابداعه الذي تطوَّّر من خلال المراحل التي مرَّ بها مثلاً ، بل عن أمور لا تهم الجمهور ولا تفيده بشئ ، وأنا كنتُ قد عبَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّرتُ قبل مدَّة قصيرة عن ذلك في تلخيصي لبرنامج " أوراق" الذي يقدمه الإعلامي والكاتب نادر أبو تامر ، حيث توقَّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّّفتُ عند بعض ما ورد أعلاه ، منتقداً هذه الكتابات التي تُكتب حول هذا الشاعر ، والتي بمعظمها تأتي باهتة ولم تضف جديداً إلى ابداعه ، وسرَّّّني أنني وجدتُ كاتباً كبيرأ، وهو محرر الملحق الثقافي في جريدة الحياة ، عبده وازن، يكتب مقالاً حول هذا الكم الهائل من الكتابات التي خصَّّّّّّّّّّّّّّّّت محمود درويش بعد رحيله ، ولكن فاته وفاتني أن نذكر أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد ، بل تجاوزه إلى منح جوائز على اسمه، ولولا أن لحق نفسه ، وفزَّّ من مرقده في رام الله وفي اللحظة المناسبه، رافضاً تسمية جائزة اسرائيلية على اسمه،لربَّما مرَّّّّّّّّّّّ هذا الأمر، وذاق "لا سمح الله"، كل ما فيه من علقم .
(9)
حالَةُ غِياب
نوّارة لحرش( الجزائر )
مَـدَّ يَدَهُ
شَكَّلَني سَماءً بِلَمْسَةِ حنانٍ
مَـدَّ بـُعدَهُ
أحالَني غُروباً بِلَمْسَةِ غِيابْ.
***
كيفَ لي أَنْ أُحيلَ العَراءَ أمْكِنَةً مِن حنينٍ
كيفَ لهُ أنْ يُحيلَ البَهاءَ
إلى إِلهٍ حزينٍ.؟
أنا ما شَرَّدْتُهُ في براري حُلْمي المَديدَةِ
إِذْ في الحُلْمِ تُزهِرُ إقامَتُهُ أكْثَرَ.
أنا ما أَهمَلْتُهُ على مَعاطِفِ عَواطِفي
إِذْ في العَواطِفِ تُتاحُ السّمواتُ أَوْسَعَ
لكِنّهُ كَما في الحَياةِ
شَرّدَني في القَصيدَةِ.
***
هذا اللّيلُ المَركونُ على جَبيني
يَقتاتُني على مَهْلٍ
يُعلِنُنِي في الكونِ تُفّاحَةً تَقْضِمُها
العَتْمَةُ المُشرَئِبّةُ إلى سَقْفِ المَلَلِ.
ثُمَّ يَنْشُرُ صورَتي المَليحَة
في براويزِ الغُروبِ المَعنَوِيِّ
يُعَلِّقُها على أشجارٍ مِن تَفاصيلِ الشُّحوبِ الرّكيكَةِ
يَقولُ لِمَلائِكَةِ الجَرْحِ:هذهِ المَليحَةُ/الجَريحَةُ
يَقيني وَ وَطني.
هذهِ الغَيْمةُ / العَتمَةُ
أَنيني/ وَحنيني
هذهِ السّقفُ الوحيدُ / العراءُ المَديدُ
قامَتي / وقِيامَتي.
ذَنْبي / وَتَوْبَتي المُذْنِبَةُ
يُعَلِّلُني / فَيُلْغيني..
( 10)
محمود درويش : الظاهرة الأدبية التي لا تُعوّض :
عزيزالعرباوي ) المغرب)
أن تكتب عن محمود درويش الظاهرة الأدبية الكبرى العربية والعالمية التي لا يمكنها أن تعوض والتي لا يمكننا أن نجد مثيلا لها في شعرنا العربي عامة ، لأن تجربته الشعرية تميزتْ بالكثير من الخصائص تفتقدها الكثير من التجارب الشعرية العربية الأخرى التي سبقته ، أو ستأتي من بعده . ظاهرة درويش الشعرية التي طبقت الآفاق ووصلتْ حدود العالمية وفرضت على الأعداء والأصدقاء احترامها والاهتمام والكتابة عنها والبحث في حيثياتها الفنية والشعرية المتدفقة بالأحاسيس الراقية والأليمة التي رافقت الشاعر في حياته داخل وطنه أو خارجه .
عندما تكتبُ عن محمود درويش يجبُ أنْ تمتاز بقراءة نقدية عز نظيرها في سماء النقد والفكر وبذلك لا يحق لمَنْ لا يقدر على قراءة قصيدة درويش التي تتميز بالكثافة والتفوق اللغوي والقدرة على رسم الكلمات بطريقة بديعة وأسلوب رشيق. وما قررتُ أن أكتب عنه إلا لأنني لم أستطعْ أنْ أتجاهله وأتجاهل شعره وتجربته الشعرية الكبيرة التي أضافتْ إلى الأدب والشعر العربيين الكثيرَ ، واستطاعتْ أنْ تصل قصيدته بهذه المكونات البلاغية والفنية إلى العالمية والكونية. ويحقّ لي - كما أعتقد – أنْْ أشارك كل الكتاب والشعراء والنقاد القليل من هذا الإحساس في الكتابة عن قامة أدبية وشعرية كمحمود درويش رغم أنني أتعاطى النقد وأمارسه في مشواري الأدبي والفكري وهذا ما سمح لي أنْ أدخلَ غمار هذه التجربة الصعبة لأنني سأكتب عن قامة شعرية وأدبية استطاعتْ بفكرها الفذ وبأسلوبها الشعري الرائع والجميل أن تكسبَ كل أصناف القراء والمتلقين بكل طبقاتهم الاجتماعية والفكرية والدينية والسياسية ، وهذا يحسبُ له لا عليه. ولأول مرة نجد شاعرا وأديبا يجمعُ كل الفئات المجتمعية بمختلف توجهاتها تجتمع على حبّ شعره وأدبه الراقي، وسيكون من المجحف أنْ يتجاهل الشاعر محمود درويش انطلاقا من هذا اليوم لأنه كان بحق شاعر العرب والقضية الفلسطينية والمستضعفين في الأرض والعالم .
ألم يقل هو الشاعر الكبير في قصيدته "خطب الدكتاتورالموزونة" إلى الشعب المستضعف؟ :
فلا حق في دولتي للتجمع، حيا أو ميتا
لئلا يثير الفسادا
ولا حق للموت أن يتمادى
ويقضم نسياننا الحر منا
....
ناموا كما لم تناموا
غدا تصبحون على الخبز والخير ناموا
غدا تصبحون على جنتي
فاستريحوا وناموا...
في هذه القصيدة حاول الشاعرُ أنْ يأخذ موقع الدكتاتور العربي الذي يخاطبُ شعبه بطريقة فيها الكثيرُ من الإهانة والقليل من الاحترام والاعتبار. ومن هنا نجدُ أنّ شاعرنا المتميز والكبير قد جازف بموقعه ووضع نفسه مكان دكتاتور لا يشقّ له غبار في ملكوته الذي لا ينازعه عليه أيُّ أحد يخطب في الشعب كأنه إلهٌ أو نبي مفوه، ولم يكن للشاعر أنْ يقدمَ على هذه الخطوة لولا معرفته اليقينية أنّ جمهوره ومحبيه سيتفهمونه في هذه الخطوة المحسوبة.
يبقى شاعرنا العظيم محمود درويش شاعر القضية العربية الأولى وقضية المسلمين في كل العالم ، شاعر استطاع أنْ يقول فيها ما لم يقله أي شاعر آخر في قضية تبناها أو عاش وقائعها ومسبباتها ونتائجها، فقد عاصر الاحتلال لأرضه وقيام دولة من الشتات على أنقاض أهلها وسكانها ومقدساتها العظيمة التي بقيتْ شامخة رغم كل الأفعال الشيطانية التي قاموا بها ويقومون بها يوميا لتشويهها وتشويه معالمها.
لشاعرنا القدرة على إيصال الفكرة شعريا وفنيا ونثريا ، فأغلبُ دواوينه كانتْ بمثابة فكر ورؤى نظرية وفلسفية للعديد من الأفكار والمسلمات التي يؤمنُ بها العربُ اليوم َ. فالوحدة الثقافية والقومية والدينية كانتْ بارزة في قصيدته، والدعوة إلى خلق الوسائل القادرة على تغيير القدر العربي الذي جعل العربَ في مؤخرة الترتيب ، وفي وجه النار دون مقاومة ، اللهم بعض الحركات في هذا البلد أو ذاك ، أو من هذه الفئة أو تلك. وهذا ما كان يحز في نفسه ، وهو يرى واقعا عربيا مهترئا وتراجعا حضاريا وقيميا واضحا حتى غدا العربُ مجردَ رقم في عالم اليوم لايقام لهم أيُّ حساب خلافا لما كان في زمان آخر ولى بدون رجعة.
في القدس، في رثاء إدوارد سعيد، من دروس كاماسوترا بفن الانتظار، السروة انكسرتْ، لا أنام لأحلمَ ، مقهى وأنت مع الجريدة، جدارية، حالة حصار، .... وغيرها من مئات القصائد الرائعة التي تميز فيها الشاعر وتمكن فيها من رصد الكثير من اللحظات والوقائع والأحداث في أمته وفي عالمه المليء بالمتناقضات وبالأحداث الدامية والعنفية التي رصدها بروعة شعرية وفنية بالغة الجمال والإبداع الراقي.
عندما تستمعُ إلى درويش الشاعر ، وهو يُلقي قصائده بطريقة ، وبأسلوب رائع وموسيقا قلَّ نظيرها عند أغلب الشعراء، ومن المعروف أنّ الشاعر يتميز بقراءته الجميلة لقصائده التي تجلبُ الكثير من الجمهور والمتتبعين والمتلقين الذين يزيدون أمسياته رونقا وروعة. ولا يمكنُ تجاهلُ الحضور الكثيف لأمسياته في كل البلدان التي يحييها فيها ، حتى ولو ارتفع ثمنُ التذكرة ، بل ما يثير الإعجاب هو حضورُ الناس البسطاء الذين يجتهدون في توفير المبلغ المطلوب لحضور أمسياته.
كُتبتْ عن الشاعر الكبير محمود درويش العديدُ من الكتب والدراسات والمقالات النقدية والأدبية التي تناولت تجربته الشعرية من كل النواحي ، ومن كل الجوانب الفنية والشعرية واللغوية والبلاغية.... ولا يمكن حصرُ هذه الكتابات لكثرتها وقدرتها على معالجة دواوين الشاعر ، وكتبه النثرية العديدة التي نشرت بكل أنواع وسائل الإعلام المختلفة وفي كل البلدان العربية وغير العربية. ومن خلال مطالعتنا لموقع محمود درويش الغني بكل ماكتب عنه وبالعديد من قصائده وعناوين دواوينه وكتبه نستطيع أنْ نقولَ بأنّ ما كتب عن درويش حول تجربته الشعرية والأدبية الرائعة التي تركت آثارا قوية لدى كل الفئات ، ولدى كل القراء العرب وغير العرب وذلك بترجمة بعض نتاجاته إلى العديد من اللغات الغربية وغير الغربية.
في قصيدة "أنت منذ الآن غيرك" رؤى فلسفية وفكر حضاري ووعي بالوجود وبالموت والتاريخ، وعي بالماضي والحاضر والمستقبل، وعي بالسبب والنتيجة، وعي بالمكان والزمان، ووعي بقدرة بديعة على تصوير الحياة والموت كثنائية متنافرة في الوجود، هذا التنافر الذي يستطيع الشاعر من خلاله أنْ يسردَ علينا حكايات الوجود في زمان غير الزمان ومكان غير المكان، حيث يقول :
أيها الماضي ! لا تغيرنا... كلما ابتعدنا عنك !
أيها المستقبل: لا تسألنا : من أنتم؟
أيها الحاضر ! تحملنا قليلا، فلسنا سوى عابري سبيل ثقلاء الظل!
هذه الرؤية الفلسفية لمراحل زمنية ولتاريخنا المليء بالمتناقضات ، التي أوجعتنا وأمرضتنا وآلمتنا كثيرا حتى صرنا مجردَ عابري سبيل ثقلاء الظل في حاضر لا أمل في أنْ نتغير ، أو نصلح من أنفسنا وذواتنا وواقعنا المريض. هذه الرؤية التي استحضرها هنا شاعرنا الكبير كانتْ بمثابة هزة أرضية ضربتنا جميعا.
ونختم هذه القراءة البسيطة في ذكر شاعرنا الكبير والعالمي محمود درويش بمقطع رائع مليء بالحكم والرؤى والواقعية الأليمة من قصيدته " أنت منذ غيرك " :
لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني
أنصارهم العلمانيون، وأنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلا بدين وحيد:
صورهم في التلفزيون!.
سألني: هل يدافع حارس جائع عن دار سافر صاحبها، لقضاء إجازته الصيفية
في الريفيرا الفرنسية أو الإيطالية.. لا فرق؟
قلت: لا يدافع !.
وسألني: هل أنا + أنا = اثنين؟
قلت: أنت وأنت أقل من واحد !
لا أخجل من هويتي، فهي مازالت قيد التأليف، ولكني أخجل من بعض ما جاء
في مقدمة ابن خلدون.
أنت، منذ الآن، غيرك!